بقلم: علي عبادي
يُحدّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في الساعات المقبلة موقف الحزب السياسي والميداني من "الجريمة الكبرى" (حسب بيان الحزب) المتمثلة باستهداف القيادي العسكري الكبير في الحزب الشهيد فؤاد شكر المعروف بـ"السيد محسن".. إلا أن ذلك لا يمنع من طرح بعض الأسئلة والاستنتاجات حول ما جرى بين لبنان وإيران وبينهما العراق في الساعات الماضية.
هل هي مجرد جولة مختلفة من الحرب الدائرة منذ نحو عشرة أشهر، أم انها تغيير لمسار الحرب بشكل جذري؟ بتعبير آخر، هل يريد العدو الإسرائيلي وضع خاتمة لحربه على غزة عن طريق تحقيق “إنجازات” تكتيكية تتمثل في اغتيال قيادات في المقاومة، أم أنه يُقدّر مسبقاً أن ذلك يفتح باباً للتصعيد في لبنان والمنطقة ويُعوّل على المزيد من التورط العسكري الأمريكي في مرحلة انتقالية أمريكية مضطربة؟ في 2 كانون الثاني/يناير 2024، إغتال العدو عبر سلاحه الجوي نائب رئيس المكتب السياسي في حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت، بعد نحو ثلاثة أشهر على اندلاع “طوفان الأقصى”. وبرّر العدو الإغتيال بأنه يستهدف شخصية فلسطينية لها دور في إسناد غزة وفي تصعيد العمليات في الضفة الغربية، محاولاً حصر إطار المواجهة الدائرة على جبهة لبنان وإقناع حزب الله بعدم الذهاب بعيداً في رده على العملية. منذ ذلك الحين، لم تتعرض الضاحية الجنوبية لأي عدوان وبقيت المعركة في نطاق تبادل الضربات على مساحة تضيق وتتسع في الجنوب وصولاً أحياناً الى مناطق في البقاع والحدود اللبنانية – السورية، تقابلها مناطق شاسعة في شمالي فلسطين والجولان المحتلين. في 30 تموز/يوليو، تغيّرَ المشهد على نحو ينذر بأن يكون إنعطافة حادة هذه المرة، باستهداف القائد العسكري الكبير في حزب الله فؤاد شكر (المعروف بالسيد محسن) في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. فهذا الإستهداف أبعد عن أن يكون رداً على قصف على الجولان، بصرف النظر عن الجدل الذي دار حول مجزرة مجدل شمس. إغتيال قيادي في حزب الله على هذا المستوى، وهو الهدف الأرفع على الإطلاق منذ انطلاق جبهة المساندة اللبنانية في 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، يؤشر إلى تصعيد إسرائيلي غير مسبوق ويأتي تتمة لاغتيال مجموعة من قادة المقاومة في الجنوب. وحدوثُه في نطاق بيروت الكبرى لا بد أن يُغيّر في حسابات المقاومة. ويُمكن التقدير أنه لو وقع هذا الإغتيال في الجنوب مثلاً لكان أخفّ وقعاً نسبياً من حدوثه في الضاحية الجنوبية التي تُعدّ امتداداً للعاصمة بيروت، وفيها كثافة سكانية كبيرة ولها موقعية سياسية خاصة. وعلى ذلك، يقود استهدافها إلى نتيجة مؤكدة وهي أنها لم تعد مصانة بموجب قواعد الإشتباك المتعارف عليها، ويُمكن أن تتكرر عمليات الإغتيال والقصف وصولاً إلى أي منطقة أخرى في لبنان.
لهذا، نحن أمام تغيير بدون ضوابط في تعامل العدو الإسرائيلي مع الجبهة اللبنانية. ويدور التساؤل هنا حول مغزى أن يُعلن العدو أن ردّه على قصف الجولان “إنتهى” وأن “إسرائيل ليست معنية بتوسيع الحرب” وأن “الأمر يتوقف على رد فعل حزب الله”! فهل سقط في تقديرات العدو أن المقاومة اللبنانية يُمكن ان تردّ بعمل نوعي في عمقه الجغرافي مما قد لا يحتمله وقد يجرّ إلى خروج الأحداث عن المسار الحالي؟ أم أن الجانب الإسرائيلي تعمّد حشر حزب الله في الزاوية لأن لديه تصوراً آخر؟ ثم، وهذا حدث لا يقل أهمية، لماذا استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران بعد ساعات من استهداف القيادي في حزب الله في الضاحية الجنوبية؟ ألا يدل ذلك على أن العدو يُعطّل مرة أخرى مفاوضات وقف النار في غزة، وبالتالي يُحضّر نفسه لـ”مشكل” كبير على مستوى المنطقة، وكل هذه الأحداث تأتي بعد قصف ميناء الحديدة اليمني في 20 تموز/يوليو؟ وهل لذلك علاقة بزيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن حيث اختلطت ردود الفعل الأمريكية في استقباله بين منتقد ومؤيد؟ بداية تحوّل يتبين من خلاصة المداولات الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، والتي سبقت مجزرة مجدل شمس في الجولان، أن جيش الإحتلال أعدّ سيناريوهات لمواجهة الأوضاع في الجبهة الشمالية، وهو أذاع في 18 حزيران/يونيو الماضي أنه تمت الموافقة على “خطط عملياتية” لهجوم عسكري على لبنان، من دون أي توضيحات أخرى. وترافق ذلك مع سعي نتنياهو للإفراج عن شحنات أسلحة أمريكية معلقة مؤقتاً، وهو ما تُرجم بموافقة الإدارة الأمريكية على توفير 50 طائرة مقاتلة من طراز F-15 تبلغ قيمتها أكثر من 18 مليار دولار بعد ضغوط قوية مارستها الإدارة على أعضاء ديموقراطيين في الكونغرس كانوا قد عطّلوا مؤقتاً هذه الإمدادات، بحسب صحيفة “واشنطن بوست”. ويشير ذلك إلى أن “إسرائيل” تحصل على دعم إضافي بالرغم من عدم إستجابتها لطلب وقف الحرب في غزة وتبادل الأسرى والمحتجزين، وأيضاً عدم إستجابتها لما يقال عن طلب أمريكي بعدم التصعيد على الجبهة مع لبنان. أكثر من ذلك، تحصل إسرائيل على الأسلحة الجديدة من أجل تصعيد يدفع الأمور نحو مواجهة مباشرة محتملة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. ويُمكن الإفتراض أن الخطط العملياتية الإسرائيلية تعتمد بشكل أساسي على التحضير لتكثيف عمليات الإغتيال والقصف الجوي، ومن المستبعد في ظل المعطيات الحالية اللجوء الى عمليات برية واسعة، بالنظر إلى أن حزب الله تحضّر لهذا السيناريو منذ زمن طويل على مستوى التجهيز والتدريب، ولديه أنواع عدة من الأسلحة المتطورة يمكنها التعامل مع الدبابات والمدرعات الإسرائيلية. كما أن جيش الإحتلال يعاني من مشاكل عدة بعد المعارك الطويلة في قطاع غزة، ليس أقلها إرهاق جنود الإحتياط والوحدات القتالية الرئيسية.
لوحظ في الآونة الأخيرة وجود ما يشبه الإجماع أو التوافق الاسرائيلي الداخلي، أقله في التصريحات، على ضرورة تركيز الجهد العسكري في الشمال على الحدود مع لبنان من أجل ممارسة ضغط على المقاومة اللبنانية ودفعها لتقديم تنازلات في ما يتعلق بممارسة دورها في معركة إسناد غزة. هذا التوافق الإسرائيلي المبني على حسابات شعبوية وانتخابية لا يعني الإتفاق على جدول أعمال واسع، لكنه يسمح لفريق نتنياهو بالمضي في تصعيدٍ يرمي الى تحقيق الأهداف الآتية: أولاً؛ إرساء ضمانات أمنية في صورة منطقة عازلة أو منزوعة السلاح داخل لبنان تتيح عودة المستوطنين إلى تجمعاتهم في شمالي فلسطين قبل أيلول/سبتمبر المقبل مع افتتاح العام الدراسي الجديد. وهذا موضوع يأخذ الكثير من الجدل الداخلي الإسرائيلي وتبني الأحزاب والقوى السياسية جزءاً من رصيدها على أساسه، لا سيما أن الاستيطان هو ركيزة أساسية في المشروع الصهيوني. ثانياً؛ تغيير الوضع العسكري على الجبهة الشمالية، وهو وضع يُقيّد في الظروف الراهنة أيدي جيش الإحتلال ويقلص فاعليته في المناورة، على ضوء الأخطار الماثلة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية والتي برزت مع الفيديوهات التي وزعتها المقاومة اللبنانية عن بنك الأهداف الدقيقة في الشمال الفلسطيني وصولاً الى حيفا والجولان. ومن شأن فرض معادلة جديدة تكسر التوازن الحالي، من وجهة نظر العدو، أن تُحقّق له انتصاراً مهماً على جبهة الشمال وتفرض شروطاً أمنية ملائمة تتيح له التفرغ مجدداً لغزة. ثالثاً؛ تأخير تبادل الأسرى مع المقاومة في غزة من أجل ممارسة مزيد من الضغوط الميدانية على المقاومة الفلسطينية، في شكل يسمح بإبقاء باب التدخل العسكري في القطاع مفتوحاً أمام جيش الإحتلال. وهذا الضغط يتجسد يومياً عن طريق المجازر اليومية والإغتيالات، ومن المؤكد أن اغتيال إسماعيل هنية يخدم هذا التوجه في ضوء ما يُمثّله من موقع سياسي وتفاوضي في الإتصالات الجارية بشأن وقف الحرب وتبادل الأسرى. رابعاً؛ إعادة تفعيل الإصطفاف الداخلي حول حكومة نتنياهو التي تواجه مشكلة مصداقية متزايدة وأزمة تواصل مع الجيش، لكنها للمفارقة تُعوّم من جديد في كل مرة على دماء قيادات المقاومة و”إنجازات” على جبهة هنا أو هناك. خامساً؛ التركيز على وضع أمريكا في مقابل ايران. وقد عبّر عن ذلك نتنياهو مجدداً في خطابه أمام الكونغرس حيث ذكر إيران عشرين مرة، واعتبر أن مواجهة “محور الإرهاب الإيراني” مسألة تعني “أمريكا، وإسرائيل، وأصدقاءنا العرب”، وان إسرائيل هي “الهدف الأول لإيران، وأمريكا هي التالية”، ما يشير الى أنه وضع ايران في طليعة التحديات الى جانب حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى.
سادساً؛ إن اغتيال هنية في قلب طهران هو محاولة إسرائيلية متجددة لوضع إيران قبالة أمريكا التي أعلنت صراحة أنها ستدافع عن اسرائيل اذا تعرضت للهجوم. كما أن اختيار القيادي فؤاد شكر كهدف للتصعيد مع حزب الله إنما يهدف بشكل أو آخر لتوريط أمريكا في الحرب القائمة، لا سيما من خلال ربطه بالهجوم على قاعدة قوات مشاة البحرية الاميركية (المارينز) في لبنان عام 1983 والقول إن إسرائيل أغلقت الحساب بالنيابة عن أمريكا في هذه القضية. في الحصيلة، يُمثّل الهجوم الإسرائيلي المُتعدّد الجبهات (اليمن، لبنان، سوريا، وإيران)، والمترافق مع هجوم أمريكي، مساء الثلاثاء الماضي، على مواقع للحشد الشعبي جنوب بغداد، نقلة نوعية في الهجوم على محور المقاومة، يستند فيها العدو الإسرائيلي إلى الظهير الأمريكي في التسليح والدعم الإستخباري والصدّ والتغطية السياسية. ويبقى السؤال عما اذا كان العدو قد أخذ في تقديراته مسبقاً احتمال وقوع حرب مفتوحة، بلا جواب حاسم. على الأقل، يبدو أننا أمام تكثيف للعمليات العسكرية فوق السقف الذي اعتدناه على الجبهة اللبنانية، لكن تشابك الخطوط في الوقائع الاخيرة يُظهر أن “وحدة الساحات” أصبحت أمراً واقعاً يسعى إليه الإسرائيلي على أمل جرّ إيران إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، بينما يخوضها محور المقاومة لدفع الشر الإسرائيلي وإحباط أهداف العدو الآنفة الذكر، وفي خاطره أن حساب الثأر قد تعاظم على كل الجبهات، فهل يكون رد المحور مشتركاً هذه المرة ومن كل الجبهات في آن معاً؟
المصدر: ١٨٠ بوست