بقلم: غسان سعود
بإمكان من لا يسقط قلبه فور سماعه إطلاق نار أو دويّ قذيفة أن يصطحب حبيبته، مرتدية البيكيني، في رحلة بحرية طرابلسية من مرفأ الصيادين إلى جزيرة الأرانب، وأن يطمئنا إلى تبادل القبل في المركب أو الجزيرة، إذ لن يرميهما أحد بالزيت المحروق أو الشتائم. وفي طريقهما، لا يفترض أن يفاجئهما اختلاط الأناشيد الدينية بأغاني جورج وسوف في ساعات هدوء المدينة الحذر، أو بالزحمة قبالة صالات السينما التي تعرض أفلاماً إباحية في ساعات العمل. ففي هذه المدينة، لا تكاد تعلن هدنة ساعتين بين التبانة وجبل محسن، حتى يندفع عشرات المؤمنين الأتقياء الذين يقاتلون أعداء الله في جبل محسن صوب متاجر الكحول المحاذية لحديقة المنشية، يشترون الويسكي الرخيصة والبيرة والفودكا المضروبة. وهناك، في ليالي المواجهات، يتناوب شبان على حراسة المشروبات، وهم يروون عن بطولاتهم في المعارك.
ليس في شوارع طرابلس نهي علنيّ ــــ حتى اليوم ــــ عن المنكر أو أمر علنيّ ــــ حتى اليوم أيضاً ــــ بالمعروف. حتى المصابون برهاب اللحى، سيكتشفون أن عدد اللحى الإسلامية في معظم أحياء المدينة ليس بالكثرة التي يتخيلها الغرباء، وهي تتزايد بتزايد اقتراب الزائرين من الأسواق القديمة في طريقهم إلى باب التبانة. وما على المشككين بسلوك بعض الطرابلسيين الظاهر إلا تلبية الدعوة إلى إحدى السهرات السياسية في المطاعم المطلة على المدينة، حيث تحتشد نهاية كل أسبوع سيدات ليس في لبسهن ما يوحي بانتمائهن إلى طرابلس الأحكام المسبقة.
ومن الروابي إلى البحر: ليس على التخوم الطرابلسية حواجز سلفية توزع على الخارجات من المدينة، بقليل من الثياب، فولارات أو ما يشبهها. وعلى طول الشاطئ الطرابلسي، يمكن رؤية شبان وشابات يحبون ويرقصون ويشربون دون أن يردعهم ناصح. وبإمكان المطاردين للانتهاكات التي تطاول بعض المسيحيين هنا وهناك التنبه إلى عدم تعرض مسيحي واحد، في ما يصفه البعض بـ«عاصمة المسلمين السنة»، لاعتداء، ولو كلامي. كل ذلك في ظل استمرار نحو ألفي عكاري وألف زغرتاوي بالتوجه يومياً إلى أعمالهم في المدينة، كأن لا شيء مذهبياً فيها. ولن يجد الباحث عن المظاهر السلفية المستجدة في المدينة غير طبيب يخبره عن تزايد اللباس الشرعي النسائي نسبياً، ملاحظاً ظهور بعضهن خلف رجالهن على دراجات نارية صغيرة، وبعضهن الآخر في سيارات ذات دفع رباعيّ باهظة الثمن.
باختصار، ثمة في طرابلس مجموعتان من المواطنين: واحدة صغيرة متشددة سلفية، بعضها جهادي يزداد تشدداً يوماً تلو آخر، وبعضها الآخر دَعَوي يمعن اعتكافاً وانغلاقاً على نفسه يوماً بعد آخر. والثانية كبيرة متديّنة بغالبيتها من دون تشدد، ويكاد يمكن وصفها بالعلمانية. تعيش المجموعتان جنباً إلى جنب. تغضّان النظر عن نقاط اختلافهما، تعزيزاً لنقاط التقائهما. وحتى غداة 7 أيار الشمالي، بعد توقيف شادي المولوي وسيطرة السلفيين على المدينة بضع ساعات، اكتفى السلفيون بإقفال الطرقات والمتاجر دون المس بأبواب التقاليد الاجتماعية. فلم يسجل اعتداء واحد على شاب يرفع صوت الموسيقى أو يرتدي ما يتعارض وتعاليم السلفيين. ويبدو واضحاً للمتابعين الميدانيين وسط أهل المدينة لما يحصل في مدينتهم أن ثمة إجماعاً سلفياً اليوم على عدم توفير أية ذريعة لتوتير الأجواء بين أهل الطائفة الواحدة. مع إدراك السلفيين المتجذرين في المدينة أن التصادم مع عائلاتها غير المتشددة سيجر طرابلس إلى أزمة خيالية بسبب سيطرة هذه العائلات على المقاليد الاقتصادية والسياسية وحتى الدينية لعاصمة الشمال.
بدوره، يرى أحد أطباء المدينة أن هذه تعيش اليوم بموجب اتفاق غير مباشر بين غالبية الأهالي والمقاتلين ومناصريهم يقوم على احتضان طرابلس برمّتها المقاتلين المتحمسين، مقابل كفّ هؤلاء شرّهم عن أبناء المدينة وصبّ تركيزهم على جبل محسن ومن فيه ومعه ريثما تنتهي الأزمة السورية. وينقل أحد الشيوخ عن الشيخ سالم الرافعي دعوته إلى التركيز على ربح المعركة العسكرية، سواء في طرابلس أو في المدن السورية، ليسير المجتمع برمّته، وحده، في اتجاه تطبيق تعاليم الشريعة وتحقيق وصاياها، الأمر الذي يقنع بعض شباب حزب التحرير، مثلاً، الذين يرددون اليوم أن موعدهم مع الخلافة قريب. وينبّه المقربون من الرافعي إلى أن تدخل المسلحين في ما لا يعنيهم كأحاديث الشبان واهتماماتهم وثياب الشابات وانشغالاتهن سيغيّر المعطيات ويراكم المشاكل الصغيرة، تماماً كما حصل مع حركة التوحيد سابقاً. سلفيو المدينة سيراكمون الدهشات عند زائرهم حتى يسائل نفسه جدياً إن كان هؤلاء الشباب الذين يسمعون أناشيد دينية هي أقرب ما تكون إلى أغاني الراب، ويظهرون مهارات استثنائية في البليار والبيبي فوت ويتجاهلون سؤال ضيفهم عن مذهبه، هم بالفعل التكفيريون الذين سمع عنهم. وها هم بعض سلفيي المدينة، على غرار الشيخ نبيل رحيّم، يضحكون ملء أفواههم في حواراتهم مع الصحافيين بشتى القضايا من دون بذل أية محاولة لإقناع محاوريهم بالتوبة، أو ينشغلون، على غرار الشيخ حسام الصباغ، بنوع السلاح الذي يحملونه واستعدادات المقاتلين الميدانية متناسين مآخذهم الدينية على خلفية هذا المقاتل أو سلوكه
انشغال بالقتال عن الدعوة
توحي جدالات المقاتلين السلفيين وأحاديث أنصارهم على صفحة باب التبانة الفايسبوكية أن لفظة «تكفيريين» وصف مخفف جداً لهم. ولا يشك خصوم هؤلاء لحظة واحدة تحولهم صوب المدينة سيكون كارثياً لشدة رفضهم الآخر بكل أشكال اختلافه عنهم. لكن بعض المتابعين لهؤلاء يشير إلى غضب سطحي من الآخر يكتفي بإغداق الصفات الحيوانية عليه، من دون أن يكون لذلك بعد ديني تعليمي جدي. ويشير أحد المتابعين إلى أن رقعة انتشار الدعوة السلفية الجهادية بمعناها الديني لا تزال صغيرة في طرابلس، وهي اليوم أصغر من أي يوم مضى لانشغال روادها بالقتال عن الدعوة. وهكذا، لا يمكن خصوم السلفيين في المدينة تسمية أكثر من الشيخ سالم الرافعي بوصفه المعلم الأكبر، الشيخ رائد حليل المؤثر في مجموعتين صغيرتين، واحدة في القلمون وأخرى في أبو سمرا، الشيخ رائد كبارة المؤثر في نحو عشرة شبان في منطقة أبو سمرا والشيخ نبيل رحيم الذي لا يقوم بأي نشاط جدي على صعيد التواصل مع المؤمنين للتأثير فيهم اليوم، مكتفياً بالدور السياسي الإعلامي، فضلاً عن الشيخ عدنان المحمد الذي سجن مع نشطاء «فتح الإسلام» وينشط في منطقة القبة اليوم. ومن الشيوخ إلى الجوامع، ليس بإمكان أكثر المتابعين حماسة للسلفيين تسمية أكثر من جامعين كبيرين في منطقة القبة (حمزة وعائشة أمّ المؤمنين) وجامع في باب التبانة وجامع التقوى، التي ينشط السلفيون فيها، بينما يغلب في معاهد طرابلس حضور الإناث على الذكور.
"الاخبار اللبنانية"