بقلم: معين الطاهر
لا تدرك السلطة الفلسطينية أنَّ الخطر الذي يهدّد استمرارها وبقاءها يكمن في الاحتلال الإسرائيلي ذاته، والمخطّطات الصهيونية وحدها، التي تعمل ليلاً ونهاراً لإضعافها وتعجيل انهيارها، وتسعى جاهدة لزوالها. يهدف الاحتلال إلى تكريس فصل الضفة الغربية عن قطاع غزّة، حيث "لا حماس ولا عبّاس"، ويرفض أي تدخّلٍ للسلطة الفلسطينية في إدارة القطاع بعد وقف حرب الإبادة الجماعية التي لم تخفُت نارها، وهو بذلك لا يختلف عن المشروع الأميركي الذي دعا إلى إصلاح السلطة خلال ثلاثة أعوام، كي تكون مؤهّلة للمشاركة في إدارة غزّة. أما المقترح العربي، فقد تضمّن لجنة إدارية وُصفت بالمؤقتة لإدارة القطاع، بمشاركة رمزيةٍ من السلطة، إلى حين تأهيلها، وقد تعلّمنا سابقاً أن المؤقت قد يصبح دائماً.
في الضفة الغربية، يمنع الاحتلال توريد مستحقات السلطة من أموال الضرائب الفلسطينية، فتارةً يقنّن صرفها بسبب توجّه السلطة إلى الانضمام لعضوية بعض المنظمات الدولية، وتارة أخرى يطالبها بإجراءات أمنية إضافية، أو يربطها بوقف رواتب أُسر الشهداء والأسرى، وعادة ما تستجيب السلطة لهذه الابتزازات، كما حدث في قرار الرئيس محمود عبّاس بإحالة مخصّصات أُسر الشهداء والأسرى على المؤسّسة الوطنية للتمكين الاقتصادي. من جهة أخرى، يجتاح جيش الاحتلال الضفة الغربية، ويقطّع أوصالها بحواجزه العسكرية التي فاق عددها المائة حاجز، ويعرقل حركة المواطنين بين مدنها وقراها التي أضحت جزراً منعزلاً بعضها عن بعض، واتّسعت حرب الإبادة الجماعية لتشمل الضفة، حيث تُستباح مخيّماتها وتُدمَّر، ويُرغم سكّانها على مغادرتها، ويتزايد يوميّاً عدد المهجَّرين قسراً منها، إلى أن فاق حتى كتابة هذا المقال الخمسين ألفاً، وهي عملية مستمرّة تنتقل من مخيم إلى آخر بغية تصفيتها كلها.
مخطّطات ضم الضفة الغربية تسير بوتيرة متسارعة، وهي الهدف الرئيس من هذه الإجراءات كلها. في صفقة ترامب - نتنياهو الأولى، منح دونالد ترامب الاحتلال 30% من مساحة الضفة، وفي ولايته الثانية صرَّح بأنه سيقرّر خلال أشهر ثلاثة (مضى منها شهر) المساحة التي سيهبها لدولة الاحتلال، ويقدّر الخبراء أنها ستتجاوز 60%، أي مساحة المنطقة ج التي نجح الاحتلال خلال الأعوام الماضية بتهجير سكانها، ولعلّه يضيف إليها بعضاً من المنطقة ب التي امتدّت إليها البؤر الاستيطانية. ولم تعد هذه المشاريع مؤجلة، فقد صدّق الكنيست، في قراءة أولى، على ضم نحو 22% من مساحة الضفة، تمتد من القدس إلى البحر الميت، وتشمل المستوطنات المحيطة بالقدس ورام الله، لتفصل شماليّ الضفة عن جنوبها ووسطها كليًا.
عام 2025 هو الأخطر على فلسطين والعالم العربي، هو عام الحروب الممتدّة في لبنان واليمن وسورية والعراق، في محاولة لفرض الوصاية الإسرائيلية على المنطقة، وعام استمرار الضغط على النظام العربي الرسمي، وإبقائه مشلولاً وعاجزاً، وعام استمرار حرب الإبادة الجماعية والتهجير والضم في غزّة والضفة الغربية، وعام تكريس نظام الأبارتايد والفصل العنصري في فلسطين كلها. وفي الوقت نفسه، عام الصمود والمواجهات الحاسمة، وعام ازدياد عزلة الكيان الصهيوني في العالم، وعام تنامي الأزمات الداخلية فيه. هو العام الذي نقف فيه على مفترق الطريق، ولا خيار لنا سوى البقاء والتقدّم في معركة الوجود. غزّة ستشهد استمراراً للحرب وللمعارك والحصار والتجويع، وسيعي العدو ليحقق بالقوة الغاشمة ما لم يتمكّن من تحقيقه بالمناورات السياسية، كذلك سيحاول بألاعيب السياسة أن يحصد ما لم تحقّقه الحرب. مدن الضفة الغربية يجري العمل على تحويلها إلى كانتونات منفصلة، لا تواصل بينها، بغية تكرار تجربة روابط القرى على هيئة "روابط مدن" تتشكّل فيها أُطرٌ محلية تفتقر إلى أي صلاحياتٍ سياسية، أو اهتمامات وطنية مشتركة، ويرتبط مسؤولوها بنظام الحكم الإداري العسكري الصهيوني، وتتوالى عليها الضغوط الأمنية والاقتصادية لدفع المواطنين فيها إلى الهجرة.
لعل ثمّة إجماعًا في الأوساط السياسية الإسرائيلية (ربما باستثناء تحالف حزبَي العمل وميرتس)، على أن السلطة الفلسطينية قد استنزفت أغراضها، وفقدت دورها، وأصبحت سلطةً بلا سلطة، على حد تعبير قادتها، وأنها أصبحت عائقاً أمام تمدّد المشروع الصهيوني وتوسّعه. لكن السلطة الفلسطينية تتجاهل ذلك، وتعتقد أن لا علاقة لوجودها برضا شعبها، فهو رهن بإرادات إقليمية ودولية وإسرائيلية، وتظن أنها قادرة على استرضاء الاحتلال والتعايش معه، فهو بنظرها مفتاح بقائها واستمرارها، وهو ما زال بحاجةٍ لها لتمرير مشاريعه ومخطّطاته، وتتوهم أن الخطر الذي يحيق بها ينبع من انتقادات معارضيها في الحراكات الشعبية، أو في تياراتٍ وازنة في ما تبقى من فصائل، بما فيها حركة فتح، متجاهلةً أن من يسعى لإنهائها هو الاحتلال وحده، بعد أن فقدت دورها أو كادت.
لا توجد أي أوهام لدى أغلب من يعترض على سياسات السلطة وأعمالها حول إمكانية إصلاحها أو تغييرها، سواء عند الحديث عن مزاعم الفساد فيها، وهو في أي حال مرتبط بالاحتلال الذي أوجده ويحميه، وجعل منه امتيازاً للمتعاونين معه، أو عبر احتمال تغييرها من خلال إجراءات ديمقراطية، لن يسمح بها الاحتلال ما دام قائماً، ولن يبادر إليها القائمون على السلطة. بل لعل التوقّعات باستمرار السلطة، حتى بواقعها الحالي، تنخفض نتيجة تغوّل الاستيطان، ووضوح المخططات الصهيونية التي باتت في مراحل التنفيذ النهائية.
يزداد عجز السلطة الفلسطينية عن حشد صفوف الشعب الفلسطيني وتوحيده، أو تشكيل قيادة موحّدة، أو حكومة وفاق وطني، لمواجهة التداعيات التي تحوط القضية الفلسطينية، واحتمالات تصفيتها، كذلك فإنها لم ترتقِ إلى مستوى الحدث بعد "طوفان الأقصى"، وفضّلت الانجرار إلى معارك جانبية، وإلى قمع الحريات، ومطاردة المقاومين، إلى جانب افتقارها إلى رؤية واضحة لدعم الصمود ومواجهة مخطّطات الاحتلال الهادفة إلى تصفيتها، ففقدت دورها أمام شعبها.
من هذا الفهم، لم يتناول المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي عُقد في الدوحة، في الشهر الماضي (فبراير/ شباط) مسألة السلطة الفلسطينية وإمكانية تغييرها أو إصلاحها، ولم يتعرّض للهجمة الظالمة التي شنتها رموزٌ فيها عليه لهذا السبب، بل لأن تركيزه انصرف إلى إعادة بناء منظمّة التحرير الفلسطينية على أسس وطنية وديمقراطية، وتوحيد الجاليات الفلسطينية، وإعادة تفعيل المنظمّات الشعبية والجماهيرية، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، والدعوة إلى قيادة فلسطينية موحّدة، للتصدّي لمخططات تصفية القصية الفلسطينية، في ظل حرب الإبادة الجماعية، وأَوْلى أهمية كبيرة لفصل المنظمة عن السلطة فصلًا كاملًا، واستعادة مكانتها ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، متمسكًا بوحدة النظام السياسي، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وحقه في تقرير المصير والعودة، ووحدة الشعب والأرض والقضية، محذّراً من تزايد احتمالات تصفية القضية الفلسطينية، وداعيًا إلى إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية التي تضم تياراته كلها بعد أن أصابها الوهن، معتبراً أن العدو الوحيد هو الاحتلال، ومبتعداً عن أي أوهام تتعلق بالسلطة وبإصلاحها.
"العربي الجديد"