2024-11-30 12:43 م

مئة يوم على الطوفان.. جردة حساب

بقلم: كمال خلف
مئة يوم من حرب الإبادة الأكثر بشاعة في التاريخ الحديث والمعاصر بحق الشعب الفلسطيني في غزة، ولا حاجة للخوض في تفاصيل يومياتها الدموية، فالعالم كله يشاهد تلك المأساة على الهواء مباشرة. لكن ماهي الخلاصات التي يمكن استنتاجها كحصيلة لمئة يوم من هي المدة الأكثر أهمية في تاريخ الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال منذ اكثر من 75 عاما.
السابع من أكتوبر العام الماضي شكل نقطة تحول ليس على مستوى الصراع في جغرافية فلسطين انما في البعدين الإقليمي والدولي، وان كان تاريخ طوفان السابع من أكتوبر نقطة تحول استراتيجية، انما هو ليس نقطة انطلاق للأحداث ولا يجب ان يكون، وقد دأبت إسرائيل منذ اليوم الأول وطوال المئة اليوم تشدد على جعله نقطة انطلاق، لتبرير ذهابها الى حرب تفتقد المشروعية. فقبل السابع من أكتوبر كان هناك احتلال وعدوان وقتل وحصار لغزة، وحتى في الوقت الذي اختار فيه اهل غزة التعبير السلمي عبر مظاهرات أيام الجمعة امام السياج الفاصل لكسر الحصار، كانت إسرائيل تقتل العشرات من المتظاهرين العزل والأطفال. وبرغم هول المجازر والتدمير في غزة طوال مئة يوم، الا ان الضعف الإسرائيلي وانكسار الهيبة بات حقيقة قائمة في الميزان الاستراتيجي لا يمكن تغييرها بالمزيد من القتل.
مئة يوم كانت كفيلة بعودة الوجه البشع للولايات المتحدة، فشعوب المنطقة استعادت صورة الاجرام الأمريكي بعد غزو العراق عام 2003 وتدميره وقتل ملايين من شعبه وتشريد الملايين، فضلا عن فظائع التعذيب وكان سجن او غريب واحد من النماذج، وذريعة الحرب كانت كذبة وفق اعتراف أمريكا لاحقا. هرول الرئيس الأمريكي ووزير خارجيه بصفة “صهيوني ويهودي” حسبما عرفوا صفة حضورهم، وأول ما فعلوه هو تبني كل الأكاذيب والسرديات والخرفات الإسرائيلية حول يوم السابع من أكتوبر وكرروها امام وسائل الاعلام العالمية، تبين لاحقا انها مزيفة، وانكشف عدم صدقيتها، لكنهم لم يعتذروا، ولم يخجلوا.
 قدموا لإسرائيل السلاح والعتاد والأموال بلا شروط او قيود، منعوا وقف النار في مجلس الامن، ضغطوا على دول المنطقة خدمة لإسرائيل، وجمعوا لإسرائيل معلومات استخبارية عن قادة حماس حسب نيويورك تايمز امس وبرروا كل الأفعال الاجرامية والدموية بحق المدنيين بشعار “حق الدفاع عن النفس” وأخيرا نفذوا عدوانا على اليمن كمحاولة لإعادة مرور السفن الإسرائيلية من البحر الأحمر بعد ان منعها اليمنيون كوسيلة ضغط لوقف الحرب. هذا العدوان الأخير على اليمن انتج جملة حقائق جلها ليس في مصلحة الولايات المتحدة، فالبحر الأحمر اصبح اكثر توترا، وبالتالي طارد لحركة التجارة، عكس ما هدفت اليه واشنطن حسب مزاعمها بتسهيل حركة الملاحة. اظهر الولايات المتحدة معزولة بتحالف هش، هرب منه اغلب شركائها الاوربيين او الإقليميين. وصب في المستوى الاستراتيجي لصالح خصومها الدوليين “روسيا والصين”، فضلا عن حالة الاهتزاز داخل الكونغرس و داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وداخل الإدارة وارتفاع أصوات الانتقاد لسياسة بايدن في التعامل مع الازمة. والاهم انه رفع من شعبية ومشروعية حركة انصار الله في المنطقة. هم أقوياء بلا شك، ومتغطرسون لأبعد حدود، ولكنهم حمقى، وهذا ليس رأيا انفعاليا، وخروجهم الكارثي والمذل من أفغانستان دليل ليس يتيم.
انعقاد محكمة العدل الدولية في لاهاي، بمبادرة شجاعة من جنوب افريقيا، يعتبر تطورا مهما في مشهد الأيام المئة، لكن علينا ان ندرك رغم أهمية المحكمة والخطوة، ان صوت الضحايا اقوى واعلى من محكمة وقضاة وملفات. وتجربتنا كشعوب خارج المنظومة الغربية، تقول ان هذه المؤسسات الدولية لم تكن يوما الا أداة في يد الدول الغربية وهي من انشأها كمنتج حصري بصفة اممية للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية، لمعاقبة الدول المتمردة على الهيمنة الامريكية الأطلسية. وكرأي شخصي لا أرى فيها مكانا للعدالة الإنسانية. والاهم من حكم المحكمة هو حكم التاريخ الذي سيحكم على المحكمة والجناة والقضاة. وهنا لابد من نصيحة لفريق جنوب افريقيا من القانونين الشجعان، لا تنجروا خلف اللعبة الإسرائيلية بحرف القضية نحو ادانة حماس، وقد لاحظنا ان وسائل الاعلام الإسرائيلية و الغربية المنحازة لإسرائيل تحاول جركم الى هذا المربع وجعل ادانة حماس هي القضية وتكثيف الأسئلة نحوكم حصرا بهذه النقطة، وقد نجحوا نسبيا في ذلك. قضيتكم هي الإبادة الحاصلة في غزة، التبرير المكرر انكم ضد حماس يحرف القضية الأساسية.
انضمام المانيا الى جانب إسرائيل في لاهاي كشريك لها، ليس حدثا مفاجئا، المانيا وضعت نفسها رهينة عقدة تاريخية اسمها “الهولوكوست”. يبالغ المستشار الألماني اولاف شولتز بممارسة دونية هذه العقدة، خلافا لمن سبقه في المانيا رغم ان كلهم مصابون بهذا المرض النفسي. المفارقة ان برلين تتعامل معنا وكأننا المسؤولون عن هذا التاريخ الأسود، وليست هي. وتحاول ممارسة النفاق الرخيص لدولة الاحتلال على حساب حقوقنا وقضايانا. المانيا تقف للمرة الثانية في الجانب الخاطئ من التاريخ. النازيون الالمان اقترفوا المحرقة بحق اليهود في اربعينات القرن الماضي وهذه جريمة طبعت في التاريخ ويدفع الالمان ثمنها الى الان، ولكن المانيا اليوم وبعد كل تلك العقود تقف الى جانب مرتكبي الإبادة بحق الشعب الفلسطيني وتشاركهم الجريمة وهذا سيرتب عليهم مسؤولية تاريخية واخلاقية سوف تدفع الأجيال القادمة ثمنها.
مئة يوم مرت، والمقاومة مستمرة محققة معجزة بصمودها، رغم العدوان الإسرائيلي الأمريكي الغربي المشترك، ورغم الصمت والتخاذل والتآمر العربي عليها، ورغم محاولات صهاينة العرب تثبيط وتوهين عزيمتها ورغم تراجع حركة الاحتجاج والتظاهر في المدن العربية، على عكس احرار العالم في مدن أوروبا وامريكا.
مئة يوم ولم تحقق إسرائيل أهدافها من الحرب ” القضاء على حماس، إعادة الاسرى، وتحديد مصير ومستقبل غزة ” ومازالت تحاول، ومع استمرار المحاولات قد تجد إسرائيل نفسها خارج الزمن والحسابات وربما خارج الجغرافيا.
كاتب واعلامي فلسطيني


المصدر: رأي اليوم