2024-11-30 02:56 ص

تداعيات غزة.. إعادة إحياء القضية الفلسطينية

بقلم: عبدالله السناوي
أياً ما كانت النتائج العسكرية فإن صفحة جديدة سوف تُفتح فى التاريخ الفلسطينى. العالم العربى بدوره سوف تختلف معادلاته بأثر التفاعلات فى بنيته المعلنة وغير المعلنة.. والمقاربات الدولية للقضية الفلسطينية قد تنالها تغييرات جوهرية، أقرب إلى الزلازل. المقدمات تنذر بما هو مقبل، لكنه لن يعلن كامل حقائقه فى يوم وليلة فور أن تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية عن الإبادة الجماعية لأهالى غزة. التفاعلات العميقة قد تستغرق وقتا يطول أو يقصر قبل أن تأخذ الزلازل السياسية مداها. هذا ما حدث بالضبط بعد جميع مواجهات السلاح على مدى (75) عاما من الصراع العربى الإسرائيلى. بعد حرب فلسطين الأولى (1948)، التى أفضت إلى النكبة، نكبة فلسطين والعرب، جرت مراجعات غاضبة: لماذا حدث ما حدث؟.. وأين مواضع الخلل فى النظم والأفكار والسياسات التى أفضت إلى هزيمة الجيوش العربية؟ لم يخطر ببال أحد أن تفاعلات الغضب سوف تفضى فى غضون عشر سنوات فقط إلى انتقال جوهرى من اليأس المخيم بعد النكبة إلى الآمال الكبرى عند إعلان الوحدة المصرية السورية (1958)، قبل أن تنكسر وتتراجع ونصل إلى ما نحن فيه. بأثر صدمة النكبة أعاد الضابط الشاب «جمال عبدالناصر»، رئيس أركان الكتيبة السادسة فى حرب فلسطين، فور عودته إلى القاهرة بناء تنظيم الضباط الأحرار من جديد وتشكيل هيئته التأسيسية، التى أطلت على المسرح السياسى الملتهب يوم (23) يوليو/تموز (1952). كانت النكبة أحد الدوافع الرئيسية للتغيير الواسع، الذى امتد إلى المنطقة كلها. جرى أوسع تمرد ثورى على الإرث الاستعمارى وقادت مصر عالمها العربى وقارتها الإفريقية والعالم الثالث كله. لم يكن ذلك متصورا عقب النكبة ولا ممكنا بأى خيال محلق، لكنه ما حدث فعلاً. شاهد العالم كله مأساة غزة رؤية عين، لم يسمع عنها من راوٍ أو مؤرخ. تفاعل وتأثر وتظاهر، وانطوى العالم العربى على جراحه وغضبه وشعوره بالمهانة. للصور المقبضة تأثيرها العميق فى تغيير مسار التاريخ، كما صور التحدى والنهوض. إثر تأميم قناة السويس (1956) اندفعت الإمبراطوريتان الفرنسية والبريطانية، بمشاركة إسرائيل، لاحتلال مدن القناة وإلغاء فعل التحرر الوطنى. بصياغة الزعيم الهندى «جواهر لال نهرو»: «إنه إلغاء للتاريخ». فى حرب السويس قاتلت مصر لاكتساب حقها الكامل فى استقلال قرارها الوطنى بدماء مواطنيها. بأثر نتائجها السياسية أصبحت دولة عظمى فى الإقليم وتولت أكبر وأهم الأدوار على مسارح السياسة الإقليمية والدولية. بعد أقل من عامين نشأت أول وآخر تجربة وحدوية عربية فى العصر الحديث، لكنها أجهضت بعد ثلاث سنوات ونصف السنة فى سبتمبر/أيلول (1961) بأخطاء فى بنية التجربة والتآمر عليها بنفس الوقت. كانت القضية الفلسطينية دوما نقطة المركز فى ذلك الصراع المحتدم على مصير المنطقة.

فى يونيو/حزيران (1967) كادت الهزيمة المروعة أن تجهض كل أمل بأى مستقبل. استهدفت تلك الحرب إجهاض المشروع التنموى فى مصر، كما إجهاض أدوارها التحررية. لم تعلن مصر استسلامها بإرادة شعبية كاسحة يومى (9) و(10) يونيو/حزيران. رفضت تنحى «عبدالناصر» ودعته إلى إعادة بناء القوات المسلحة وتصحيح الأسباب التى أفضت إلى الهزيمة. كانت حرب الاستنزاف بين عامى (1967) و(1970) البروفة الكاملة لحرب أكتوبر/تشرين الأول (1973)، التى يعود الفضل الأول فيها إلى المقاتل المصرى. حارب وضحى من أجل أن يرفع البلد رأسه مجددا، لكن السياسة خذلته بفداحة بانفتاح اقتصادى بدّد طاقته الإنتاجية وصلح منفرد همش أدواره فى محيطه وعالمه. كان ذلك زلزالا سياسيا مضادا. الزلازل السياسية قد تضرب فى اتجاهات متناقضة. هذا تحد جوهرى يطرح نفسه فى اليوم التالى للحرب على غزة. لم تكن حرب أكتوبر آخر الحروب، كما دعا وزير الخارجية الأمريكى الأشهر «هنرى كيسنجر»، فقد وقعت حربان أخريان على الأراضى اللبنانية، الأولى، عام (1982) باجتياح بيروت لطرد منظمة التحرير الفلسطينية.. والثانية، عام (2006) فى الجنوب اللبنانى لصد العدوان الإسرائيلى. فى الحربين ترتبت نتائج سياسية، برزت قوى وتغيرت معادلات واستجدت تحالفات إقليمية. الحرب على غزة بدورها لن تكون آخر الحروب. طالما بقى احتلال فهناك مقاومة. الحقائق المستجدة سوف تلعب أدوارها فى تحديد توجهات اليوم التالى. سوف ترتفع يقينا نداءات ودعوات التسوية السياسية دون أن يكون هناك أفق يتجاوز أحاديث «السلام مقابل السلام»، أو «سلام القوة»، بصياغات «بنيامين نتنياهو». إنه «سلام بلا أرض» حسب تعبير المفكر الفلسطينى «إدوارد سعيد»، أو «سلام الأوهام» بصياغة الأستاذ «محمد حسنين هيكل». نفس التعبيرات والصياغات ما زالت صالحة تماما رغم انقضاء أكثر من ثلاثين سنة على إطلاقها بعد اتفاقية «أوسلو». فى حرب غزة ارتفعت معدلات الكراهية بأثر حرب الإبادة والتجويع واقتحام المستشفيات وقتل الأطفال الرضع بمنع أية فرصة علاج يحتاجونها. هذه مسألة يستحيل القفز فوقها بالنسيان والتجهيل. لأول مرة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى تكتسب القضية الفلسطينية زخما سياسيا وإنسانيا غير مسبوق بفضل الإعلام البديل وثورة الاتصالات. صدمة الصور الشنيعة استدعت تظاهرات احتجاجية بمئات الآلاف فى شوارع العواصم والمدن الكبرى مثل واشنطن ونيويورك ولندن وبرلين وميلان ومدريد وبرشلونة وباريس فضلا عن العديد من العواصم العربية. لأول مرة تتبدى التداعيات الخطرة المحتملة على مصالح واستراتيجيات الولايات المتحدة من انحيازها المطلق لإسرائيل. تحركت قوى رفض لسياسة الرئيس «جو بايدن» فى أوساط المؤسسات الاستخباراتية والأمنية والخارجية الأمريكية، كما من قطاعات واسعة داخل حزبه الديمقراطى، خاصة الأفارقة الأمريكيين وحركة «أصوات يهودية». بتعبير صريح لرئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» أمام السفراء الغربيين الذين التقى بهم فى ذروة الحرب: «هذه حربكم كما هى حربنا» النور ضد الظلام، والحضارة ضد التوحش. كانت تلك نظرة عنصرية فاحشة لا ترى فى الفلسطينيين سوى «حيوانات بشرية»، كما قال وزير دفاعه، ولا يجدى معهم سوى قصفهم بقنبلة نووية كما أضاف وزير آخر! «إنه سقوط سياسى وأخلاقى للغرب». كان ذلك تعبيرا مضادا لمفوض السياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى «جوزيب بوريل». برغم التضحيات الهائلة التى بذلت، فإن أهم النتائج السياسية للحرب على غزة إعادة إحياء القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطنى كما لم يحدث من قبل. 

المصدر: ١٨٠ بوست