2024-11-28 11:32 م

سقوط الأقنعة

2020-08-17
بقلم: بثينة شعبان
لا جديد في الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي سوى توقيته، فقد جرى اختيار التوقيت بعناية من جانب الأميركيين والإسرائيليين لخدمة حملة ترامب الانتخابية وتعزيز فرص نتنياهو للاستمرار في رئاسة الحكومة، وما عدا ذلك، فقد كان قائماً ومنذ عقود بأساليب سرّية ومختلفة إلى أن زارت الوزيرة الإسرائيلية أبو ظبي وجالت في أرجاء جامع الشيخ زايد، واستُقبلت الفرق الرياضية الإسرائيلية وإلى ما هنالك من خطوات، بعضها جرت الإشارة إليه في الإعلام، وأكثرها كانت تمرّ تحت الطاولة.
لا جديد في الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي سوى توقيته، فقد جرى اختيار التوقيت بعناية من جانب الأميركيين والإسرائيليين لخدمة حملة ترامب الانتخابية وتعزيز فرص نتنياهو للاستمرار في رئاسة الحكومة، وما عدا ذلك، فقد كان قائماً ومنذ عقود بأساليب سرّية ومختلفة إلى أن زارت الوزيرة الإسرائيلية أبو ظبي وجالت في أرجاء جامع الشيخ زايد، واستُقبلت الفرق الرياضية الإسرائيلية وإلى ما هنالك من خطوات، بعضها جرت الإشارة إليه في الإعلام، وأكثرها كانت تمرّ تحت الطاولة.

والمشكلة التي ما زالت قائمة هي ما سماه السيد الرئيس بشار الأسد "حالة الإنكار" التي تنسحب على تاريخنا لمئات السنين، والمسؤولة إلى حدّ بعيد عن الكبوات والنكسات في هذا التاريخ؛ فمنذ أن التقى الملك السعودي عبد العزيز بن سعود الرئيس الأميركي على متن سفينة عام 1945 واتفقا على أن النفط الخليجي مقابل حماية عروشهم، وأن العملة الوحيدة المسموح باستخدامها لبيع الثروة النفطية الهائلة هي الدولار، منذ ذلك التاريخ وُضع نفط الخليج ومصير شعب الخليج في خدمة الولايات المتحدة الأميركية وربيبتها "إسرائيل"، وجرى تحريم المساندة والدعم الحقيقيين للقضية الفلسطينية، ومنذ مراسلات "حسين _ ماكماهون" ومؤتمر الصلح في باريس ولورانس وأمثاله، يكتبون النصوص ويوقّعها المسؤولون العرب، الذين يتبعون هواهم في التفكير، ويثقون برغباتهم ويتجاهلون الواقع الذي ما زال يصفعهم مرة تلو الأخرى على وجوههم، منذ ذلك التاريخ قضي الأمر واستحال تغيير أيّ من المعادلات.

واليوم نعيش حلقة مكررة مطابقة تماماً لحلقات عاشها أجدادنا وأوصلت العرب إلى هذا المصير، بحيث تدّعي الإمارات أنها بهذا الاتفاق أوقفت خطة ضمّ العدو الصهيوني للأراضي الفلسطينية، بينما يؤكد المسؤولون الإسرائيليون أن هذا غير صحيح، وأن خطة الضم تأجلت قليلاً بناء على طلب ترامب، ولا شك أنها ستُستأنف بعد الانتخابات الأميركية وبعد انتهاء جدل نتنياهو الداخلي، وخاصة أنها ستستفيد من كسر حلقة عربية أخرى، وإضعاف بلد عربي آخر، الذي لا شك ستحذو حذوه بلدان خليجية قريباً، وهي التي رحبت بالاتفاق وستخطو الطريق ذاته مع الكيان الغاصب.

ولكنّ الأهم في الموضوع، الذي ربما لا يتوقّف عنده أو حتى يدركه موقّعو الاتفاق أنفسهم، هو أن العدوّ لن يعاملهم معاملة الندّ للندّ أبداً، وأنهم هم وحدهم يعيشون في وهم الصداقة والتكافؤ بينما يعدّهم العدو خدماً لمخططاته، ويعدّ مثل هذه الاتفاقات دليلاً أكيداً على قوة "إسرائيل" وتعاظم مكانتها الإقليمية، وعلى ضعف العرب وبعثرة صفوفهم وانهيار مكانتهم الإقليمية والدولية، وأحد أسباب هذا الانهيار هو الحروب التي خاضوها ضد إخوانهم في العراق وليبيا وسوريا واليمن؛ فهم لا ينسون أنّ أولى الطائرات التي قصفت بغداد انطلقت من الإمارات وقطر والسعودية، وأنه لو تمسكت هذه البلدان بمنع الطائرات الأميركية من استخدام أجوائها لضرب العراق لما أصبح العراق لقمة سائغة للمعتدين، وأنه لو كان العراق وسوريا وليبيا واليمن في عزّ قوتهم لما تمكّن الأعداء من فرض شروطهم على الإمارات ومن سيليها من دول الخليج في الاستسلام للكيان الصهيوني.
والحقيقة الثانية الغائبة عن أذهان هؤلاء هي أن الإسرائيلي لا يفرّق بينهم وبين الفلسطينيين، فكلهم في النتيجة عرب بالنسبة إليه، وهو مدفوع بالحقد عليهم وعلى تاريخهم وحضارتهم، والطمع بأرضهم وثرواتهم، ولو كان لديه أدنى نية لاحترام من يوقّع اتفاقاً معه اليوم لكان برهن من قبل عن احترامه بنود اتفاقية كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، التي طبق العدو الصهيوني ما يناسبه منها، وأهمل كلّ ما يمكن أن يحقق مصلحة الطرف الآخر، ومع ذلك، فإن من يوقّعون معه اليوم إمّا أنهم لا يقرأون فصول التاريخ هذه، أو أنهم لا يريدون لأي أمر واقعي أو تاريخي أن ينغّص عليهم نشوة أوهامهم بأنهم يفعلون ما يمكن أن تحمد عقباه، غير مدركين أنهم يحكمون على أنفسهم وبلدانهم وأجيالهم قبل كل شيء بالضعف والتبعية وانعدام الوزن والقيمة في الحاضر والمستقبل.

والمشكلة أنهم يفعلون ذلك كلّه بعد التطورات الإقليمية والدولية التي وفّرت لهم الكثير من الخيارات الدولية، بعدما كشفت هذه المرحلة هشاشة الدول الغربية ووهنها، وفتحت الباب على مصراعيه لخيارات أخرى تمثّلت في الصين وروسيا وأقطاب قادرة على أن تقدّم كلّ البدائل، مع الحفاظ على كرامات الدول وقرارها المستقلّ. وإذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه، فإن علاقات الكيان مع دول الخليج يلخّصها تاريخها السري، الذي اعتمد على زيارات رؤساء الموساد الإسرائيلي السابقين إلى هذه الدول منذ عقود، واليوم ستكون زيارة أول وفد إسرائيلي للإمارات برئاسة رئيس الموساد، ما يؤشّر إلى نوع العلاقة التي يتطلع الكيان إلى بنائها مع هذه الدول، وهي علاقات فيها الإسرائيلي هو السيد؛ وما على حكام الخليج سوى تلقي الأوامر من رئيس الموساد، الذي لن يألوَ جهداً لإضعاف هذه البلدان وتفتيتها وتحويلها إلى كيانات هامشية ينهبون ثرواتها ويستعبدون أهلها.

لن تفيد في هذه المرحلة الشتيمة والبكاء على الأطلال، بل المهم هو وضع هذا الحدث في إطاره الصحيح، وإعطاؤه فقط ما يستحق من التحليل والتفكير والانطلاق منه إلى ما يتحتّم فعله اليوم ليس فقط لفلسطين، وإنما أيضاً لإنقاذ الحضور العربي في كلّ بلدانه، وفرز الغثّ من السمين في القول والفعل بعد الإضاءة على المفاهيم والتصرفات والإجراءات التي أوصلت الأمور إلى ما هي عليه.

وأول مفهوم سقط في السياق العربي العام اليوم هو مفهوم الحيادية أو النأي بالنفس؛ فمن الواضح أن العرب جميعاً مستهدفون، وأن الهدف ليس ابتلاع فلسطين فقط، وإنما أيضاً انتزاع أي عامل يمكن أن يسمح لأي بلد عربي بأن يطمح ليكون قوة إقليمية، وتحويل هذه البلدان واحداً تلو الآخر إلى بلدان تنهشها الصراعات والتكتلات والأزمات الداخلية، وتتحوّل إلى دول فاشلة كي يسهُل على الكيان الغاصب بسط سيطرته العسكرية والاقتصادية والسياسية على المنطقة برمتها.

وتصريحات العثماني الجديد بقطع علاقاته مع الإمارات بسبب الاتفاق هي غاية في النفاق والفجور، وهو الذي يتمتع بأقوى العلاقات مع الكيان الغاصب، ويعمل بالتوازي معه على تفتيت هذه الأمة وتحويلها إلى" كانتونات إخوانجية" متصهينة تخدم الأقطاب الجديدة في المنطقة، وتدفن الهوية العربية تحت براثن الاحتلال التركي والصهيوني والأميركي والاستعمار والاستيطان والخيانة.

في هذا المفصل التاريخي يجب الاعتراف بأن الأدوات المستخدمة للمّ الشمل العربي لم تنجح يوماً لأسباب ذاتية وموضوعية، وأن التعويل على هذه الأدوات لن يجدي نفعاً؛ إذ لا بد من وقفة جريئة وصادقة مع مسار التاريخ، ومواجهة كلّ أسباب الفشل، والعمل مع المخلصين والصادقين والمؤمنين بالعروبة والمقاومة مهما صغر عددهم اليوم، والاعتماد على الحلفاء الحقيقيين لإعادة الحياة والاعتبار إلى محور يأخذ كلّ هذه الهنّات والصعوبات والتحديات بالحسبان، ويبني على أسس جديدة، مع الإيمان أن البداية صعبة ولكنها بالتأكيد أفضل من الترنّح بين صفحات ماضٍ لم يقدّم إلينا سوى الانتقال من سيّئ إلى أسوأ، لأن ناصية القرار المستقل الحقيقي كانت مفقودة، ولأن حالة الإنكار، وعدم الاعتراف بحقيقة ما يجري وانعكاساته المحتملة على أجيال المستقبل، مثّلا الممارسة الأعمّ والأشمل في تاريخ العرب.

هذه ليست دعوة إلى القنوط، بل على العكس هي دعوة إلى شحذ الهمم وإدراك حجم المخاطر والتحديات، ولكن مع القناعة بضرورة التحرك السليم المتوازن واجتراح الأدوات الناجعة، لأن الزمن مفصلي والمعركة مصيرية لمستقبل العرب جميعاً، لا لمستقبل فلسطين فقط، مع القناعة المطلقة بأن الانتصار هو دائماً حليف الشعوب المصمّمة على العيش الحرّ الكريم ودحر الأعداء والطامعين مهما عتوا وتجبّروا.