2024-11-25 07:36 م

عبد القادر ياسين: هزيمة عام 1948 كانت بقرار عربي بامتياز

2020-04-15
يواصل الكاتب والباحث الفلسطيني عبد القادر ياسين، سرد رواية سقوط مدينة يافا في قبضة الاحتلال الصهيوني، ويكشف من موقع الشهادة حقيقة الموقف العربي الرسمي مما جرى للفلسطينيين عام 1948..

من حوارات والدي مع أصدقائه، ومن خلاصة ما سمعته من أبناء يافا، حين التقينا في "المزاريطة"، وخلال الإقامة بمعسكر القنطرة شرق، انعقدت لقاءات طويلة، فتكوَّنت لديَّ صورة مبسطة عن سقوط مدينة يافا في أيدي العصابات الصهيونية المسلحة، في 13 نيسان / أبريل 1948.

أولًا، كانت البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية، في تدهور، اطرد، مع امتداد القتال. ثم هناك الصراع المستهجن بين رئيس بلدية يافا المنتخب، يوسف هيكل، وبين مجمل أعضاء "اللجنة القوميية" ليافا؛ الأول ينتمي إلى "المكتب العربي"، الذي ترأسه موسى العلمي، وموَّله نوري السعيد، باسم الحكومة العراقية.

وقد اقتنع العلمي بأن حل القضية الفلسطينية، بعد الحرب العالمية الثانية، انتقل من لندن إلى واشنطن، على ما أبلغ به العلمي أحمد الشقيري، مودعًا إياه، على باب الطائرة، التي أقلت الشقيري، مديرًا لفرع المكتب العربي في واشنطن.

أما لماذا اختار العلمي كلًا من الشقيري، وهيكل، لعاصمتيْ الامبرياليتين، الأمريكية والبريطانية؛ فقد كشف العلمي، بنفسه، عن هدف "المكتب" هنا، المتمثِّل في "تخليص الرأي العام الغربي من شرور الدعاية الصهيونية!" أما أعضاء "اللجنة القومية"، فلم يخفوا ارتباطهم بـ "الهيئة العربية العليا"، الجبهة الشكلية للأحزاب السياسية العربية الفلسطينية، وقد عمدت "جامعة الدول العربية" إلى استحداث تلك الهيئة، بعد فشل تلك الأحزاب في إحياء "اللجنة العربية العليا"، تجمُّع الأحزاب، إبان ثورة 1936 ـ 1939، الوطنية الفلسطينية المسلحة، ووضعت الجامعة الحاج أمين الحسيني، على رأس "الهيئة".

وظلت هذه مهمة جامعة الدول؛ إذ كانت، لاحقًا، وراء تنصيب أحمد الشقيري على رأس الحركة السياسية الفلسطينية (1964 ـ 1967)، وحين استنفد الشقيري الغرض من تنصيبه هذا، سارع النظام السياسي العربي إلى إزاحته عن رئاسة "منظمة التحرير الفلسطينية"، التي كان هذا النظام قد استحدثها، صيف 1964، بغرض قطع الطريق على المنظمات الفدائية الفلسطينية، التي توالدت، بسرعة البرق، حتى فاق عددها الثلاثين منظمة، العام 1963!

وقد خشيت دول عربية ـ على ما بينها من خلافات محتدمة ـ أن تورِّطها هذه المنظمات في حرب، لم تكن تلك الدول، قد استعدَّت لها، مع إسرائيل! أما وقد وقعت الحرب، وتم التوريط، فقد غدا لسان حال الدول العربية، خاصةً دول "الطوق": "أنا الغريق، فما خوفي من البللِ!"، بعد أن دخلت مصر، وسوريا والأردن، في حرب، أضاعت فيها بقية الأراضي الفلسطينية، إضافةً إلى الجولان السوري، وسيناء المصرية.

كما أن الإطاحة بالشقيري جاءت في سياق بحث النظام الناصري عن كباش فداء، يُحمِّلها وزر الهزيمة؛ فتخلَّص هذا النظام من الأحمديْن: أحمد الشقيري، وأحمد سعيد (مدير إذاعة "صوت العرب")، الذي انحصر كل ذنبه في إذاعة البيانات، التي كانت تصله، من القيادتيْن، السياسية والعسكرية، في مصر ليس إلا!

سقوط يافا

نعود إلى سقوط يافا، الذي تحقق، بعد أن شحَّت الذخيرة، وتناقص السلاح في أيدي المقاتلين العرب، مقابل سلاح العصابات الصهيونية، الذي تضاعف كمًا، وارتقى كيفًا، بما وصل تلك العصابات من القوات البريطانية، طواعيةً، أو بالسرقة، عشية انسحاب تلك القوات من فلسطين (15/ 5/ 1948). لذا، سرعان ما قصفت تلك العصابات يافا براجمات الألغام، وقذائف الهاون، والمورتر (البريطانية الصنع)، فازدادت الجبهة الداخلية اليافية تخلخلًا.

وقد فتَّ في عضدها، ما نشطت أجهزة الإعلام في الدول العربية المحيطة بفلسطين في ترويجه، عن فظائع أفراد العصابات الصهيونية المسلَّحة، حين اجتاحوا قرية دير ياسين، وشقوا بطون الحوامل، وذبحوا أطفالًا في أحضان أمهاتهم، واعتدوا على الأعراض؛ مستغلِّين خروج رجال القرية، للاشتراك في تشييع جنازة عبد القادر الحسيني، قائد قوات "الجهاد المقدَّس" الفلسطيني (9/ 4/ 1948).

وبدل أن ينشر الإعلام العربي هذه الفظائع على الرأي العام العالمي، فإنه عمد إلى إشاعتها في أوساط العرب الفلسطينيين، فدب الرعب فيهم، وأخذوا يردِّدون: "الأرض ولا العَرْض!" متواكلين على أن سبع دول عربية وعدت بدخول فلسطين، بجيوشها، بمجرد انسحاب القوات البريطانية منها. وقد تعزَّز هذا الوهم، مع ما أُشيع بأن الدولة الصهيونية ستقوم في فلسطين، لمدة سبع نقاط؛ قد تكون سبع دقائق، أو سبع ساعات، أو سبعة أيام، أو سبعة أشهر، أو ـ لا سمح الله ـ سبع سنوات! ونسب من أشاع هذه الفِرية، ورودها في كتاب "الجفر" المقدس لدى البعض منا!

اشتدَّ الضغط العسكري على يافا، وتضاعف قصف راجمات الألغام، وقذائف الهاون، والمورتر، وانهارت الدفاعات العربية عن يافا.

هكذا سقطت يافا، في أيدي العصابات الصهيونية المسلحة، يوم 13 نيسان/ أبريل 1948، بعد أن وقَّع أربعة من وجهاء يافا، أعضاء في "اللجنة القومية" للمدينة وثيقة، اعتبرت يافا مدينة مفتوحة، والأربعة هم: أحمد أبو لبن، أمين أندراوس، صلاح الناظر، وأحمد عبد الرحيم، وعن الجانب الصهيوني، وقَّع قائد عصابة "الهاغاناه" في لواء تل أبيب.

بعدها، تدافع أهالي يافا إلى ميناء المدينة، يحملون معهم ما تمكنوا من حمله، بينما قام الشباب بتجميع الجُروم، ونزل الناس، زرافات ووحدانًا، حتى غصَّت بهم الجروم. وحدث أن حملت إحدى النساء وليدتها، وإن اكتشفت، بعد إقلاع الجرم التي يُقلها، بأنها حملت وسادة بدلًا من الوليدة، وكان الوقت قد فات، والجرم أقلع مبتعدًا عن منطقة الخطر.

يمَّمت كل الجروم وجوهها شطر مصر، ما أكَّد، من جديد، بأن هوى جمهرة الفلسطينيين مصريٌ، وكانت النساء الفلسطينيات يغنيين ـ في مناسباتهم السعيدة ـ أُغنية مصرية شائعة، تقول:

ملك الملوك يا فاروق                     يا حبيب أمك وأبوك
كل الستات حبوُّك                           يا ملكنا، وتعيش لينا

وهي أُغنية توضح المزاج السياسي لنسبة كبيرة من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، آنذاك، وهو مزاج معادٍ لـ عبد الله بن الحسين، ملك شرقي الأردن، آنذاك، المزاحم الأول لفاروق على خلافة المسلمين، التي خلا مقعدها، بإلغاء السلطنة العثمانية، مطلع عشرينيات القرن العشرين. وفي ميناء بورسعيد، لاقى أهالي يافا، ما سبقت الإشارة إليه، في الحلقة السابقة.

هزيمة الجيوش العربية

نأتي إلى دخول الجيوش العربية فلسطين، مع انسحاب القوات البريطانية منها، وإعلان "الوكالة اليهودية"، عشية هذا الانسحاب، عن قيام "دولة إسرائيل" (14/ 5/ 1948). وعادت هزيمة الجيوش العربية في تلك الحرب، أساسًا، إلى ما يلي:

ـ قدَّر رؤساء أركان الجيوش العربية، في اجتماعهم، في إطار جامعة الدول العربية، في القاهرة (كانون الأول/ ديسمير 1948)، بأن لدى العصابات الصهيونية 64 ألف مقاتل، بينما الرقم الصحيح هو 68 ألفًا، ومثلهم في الاحتياط. وبينما تؤكد البديهيات الحربية ضرورة وصول المهاجمين إلى ثلاثة أضعاف المدافعين، فإن مجموع مقاتلي الجيوش العربية، الذين دخلوا إلى فلسطين، لم يصل إلا إلى 21 ألف مقاتل، أي أقل من الثلث! أغلب الظن لأن الأنظمة العربية استهانت بقوة العصابات الصهيونية المسلَّحة، بينما توهمت تلك الأنظمة، بأنها قادرة على سحق تلك العصابات بقلة من الجنود! والأدهى أن رئيس الجمهورية السورية، شكري القوتلي، طالب الأنظمة العربية، بعدم دخول جيوشها إلى فلسطين، حتى تُحسب الهزيمة العربية في فلسطين، على "جيش الإنقاذ"، بقيادة فوزي القاوقجي!

ـ دخلت الجيوش العربية (المصرية، والأردنية، والعراقية، والسورية، واللبنانية، وعيِّنة من الجنود السعوديين) إلى فلسطين، تحت إمرة ست قيادات، بينما توحَّدت العصابات الصهيونية المسلَّحة، في "جيش الدفاع الإسرائيلي"، وتحت إمرة قيادته.

ـ تولى الملك عبد الله قيادة هذه الجيوش، التي ظلَّت على الورق، ولو كانت حصلت، فإن رئيس أركان الجيش الأردني، الجنرال البريطاني، جون باجوت غلوب، هو من كان سيتولى هذه القيادة، عمليًا!

ـ صادرت الحكومة المصرية سفينة أسلحة، كانت متوجهة إلى الجيش الأردني! بينما أمر رئيس الوزراء السوري، جميل مردم، سفينة محمَّلة بالأسلحة للجيش السوري، بالتوجُّه إلى ميناء حيفا الإسرائيلي! ما دفع الشاعر السوري، عمر أبو ريشه إلى نظم قصيدته في هذا الصدد، أنهاها بـ:

إن أرحام البغايا لم تلد                   مجرمًا مثل جميل المردم

ـ اتهمت قيادة الجيش المصري، القوات الأردنية، بتركها الجنود المصريين لقمة سائغةً، للقوات الإسرائيلية، وتجاهلت القوات الأردنية طلبات النجدة، التي لطالما وجَّهها إليها المقاتلون المصريون؛

ـ تدنى مستوى الأسلحة، وشحَّت الذخيرة، وضعُف التدريب العسكري للجنود العرب، الذين جهلوا طبيعة الأرض الفلسطينية، ومسالكها، بل جهلوا الهدف، الذي دخلوا فلسطين من أجله؛ حيث أخبرت قيادة عربية جيشها بأنه ذاهب في نزهة، أما قيادة أخرى، فأبلغت جيشها بأنه يتجه إلى إجراء مناورة فحسب!

ـ التزمت جيوش مصر، والأردن، والعراق، بالتعليمات البريطانية، بضرورة عدم تخطِّي حدود الدولة العربية الفلسطينية، التي حددها قرار التقسيم! ما جعل تلك الجيوش تنقض على المقاتلين الفلسطينيين، وتخلِّصهم أسلحتهم، ومَن رفض منهم تسليم سلاحه، أودعوه السجن؛ وذلك حتى لا يحول المقاتلون الفلسطينيون دون التمسُّك بالخطة البريطانية! لذا، لم يكن مستهجنًا أن تنتهي الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى بهزيمة الجيوش العربية، حتى أن ما كان في أيدي العرب الفلسطينيين من أراضٍ بلغ 80% من مجموع الأراضي الفلسطينية، هبطت، على أيدي الجيوش العربية، إلى مجرد 22%!

ـ مارست أجهزة الإعلام العربية تضليلًا مكشوفًا، وساذجًا، أسهم في تزييف وعي الأمة. وأذكر في هذا الصدد عيِّنة واحدة من ذاك التضليل، حين نشرت صحيفة يومية قاهرية عنوانًا كبيرًا في صدر صفحتها الأولى، جاء فيه ما نصُّه "جيشنا يحتل مدينة الجورة في ضوء القمر". فأولًا، الجورة مجرد قرية صغيرة، وثانيًا، فإنها كانت لا تزال في أيدي العرب الفلسطينيين، وبالتالي لم تقم القوات المصرية بتخليصها من العصابات الصهيونية. أما "ضوء القمر"، فليس إلا من أجل تعزيز روماتسية المعركة الوهمية!

لذا، يمكننا القول بأن الهزيمة كانت بقرار رسمي عربي، بامتياز.


عربي 21