2024-11-30 06:28 ص

حقبة جديدة بالفعل

2020-01-17
بقلم: بثينة شعبان
الولايات المتحدة التي حاولت منذ نشأتها أن تعيد صياغة العالم عبر الحروب على شعوب العالم كلها، خسرت هذه المرة خسارة كبرى لاعتبارها قد وجهت الضربة القاضية لذاتها كنموذج يحتذى في "الديمقراطية" وصون "حقوق الإنسان"، وغادرت الساحة وضمائر كلّ المهتمين كقوة ونظام يجب الاقتداء به. ولقد أصبح متفقاً عليه أن الحرب على سوريا قد غيرت الواقع الإقليمي والدولي، وذلك من خلال ولادة محوري المقاومة ومكافحة الإرهاب.

لعلّ جريمة الاغتيال التي ارتكبها ترامب بحق كوكبة من قادة المقاومة تأتي له بما لم يكن يحتسب على الإطلاق. ولعلّ نتائج هذا الحدث الجلل ستمتد على مدى سنوات وستكون الفتيل الذي يسارع في تغيير العالم إلى ما يشتهي البعض وما لم يكن يشتهيه آخرون أبداً.

لقد أصبح متفقاً عليه أن الحرب على سوريا قد غيرت الواقع الإقليمي والدولي، وذلك من خلال ولادة محوري المقاومة ومكافحة الإرهاب، وأيضاً من خلال اشتداد عود تحالفات في منظمة البريكس وشنغهاي تقودها الصين وروسيا وتقف بخطوات محسوبة في وجه هيمنة القطب الغربي الواحد التي بسطت سلطتها على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. لكنّ ارتدادات الحدث الجلل في 3 كانون الثاني/ يناير وحّدت العالم بطريقة ما، بحيث نلحظ نتائج هذا الحدث وتفاعلاته في الدولة التي ارتكبته وفي الدول التي وقع العدوان عليها وفي دول أخرى كثيرة في العالم،عبّرت عن مواقفها فيما التزمت الصمت في أحداث أخرى كبيرة من الشدّ والجذب وبين الشرق والغرب.

لا شك في أن الردّ الإيراني بقصف قواعد أميركية في العراق هام جداً لأكثر من سبب:

- أولاً لأنها المرة الأولى التي تتجرأ فيها دولة على استهداف قاعدة أميركية ما كسر هيبة الولايات المتحدة.

- ثانياً لأن الدول التي تعتقد أن حماية الولايات المتحدة لها تنقذها من أي خطر مصيري لابدّ وأن تعيد التفكير مرة ثانية وتعيد حساباتها الإقليمية والدولية بما يتناسب مع الواقع الجديد.

- ثالثاً لأن تفاعلات الحدث على مستوى الكونغرس الأميركي والمؤسسات الأميركية والإعلام والشعب الأميركي قد تجاوزت أي تفاعلات سابقة لأي حروب خاضتها الولايات المتحدة.

كما أن ردود الأفعال في أوروبا وأفريقيا وآسيا سواء من تأبين الشهداء أو من مواقف صدرت عن حكومات هذه البلدان ومسؤوليها،جعلت من هذا الحدث علامة فارقة في بداية حقبة جديدة. وليس أقل شأناً في هذه العلامة الفارقة تصويت البرلمان العراقي بإخراج القوات الأميركية والأجنبية كلها من العراق، وزيارة سفير الصين لرئيس وزارة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي، وعرضه عليه مساعدة الصين في الإمداد العسكري وتأمين الوسائل لحفظ أمن العراق.

وعلينا أن نتذكر هنا أن المناورات البحرية التي قامت بها الصين وروسيا وإيران قبل فترة وجيزة من اغتيال الشهداء، كان تعبيراً عن تعاضد هذه القوى في وجه الهيمنة الأميركية التي ما برحت تحاول بسط هيمنتها وسيطرتها على المضائق البحرية، إذ أن الصين تريد ضمان أمن الشاطئ الشرقي لبحر العرب، لأن الولايات المتحدة تتحكم بالشاطئ الغربي ولا تريد أن تجازف بإمكانية إغلاق طرق إمداد النفط إليها الآتية من إيران والعراق.

كما أن إيران تريد أن تكون جزءاً من تحالف قوي يساعدها في الوقوف في وجه العقوبات والاعتداءات والهيمنة الأميركية. ولكنّ الردّ العراقي والردّ الإيراني على قوتهما لا يشكلان سوى أول الغيث لأنّ ارتدادات الحدث خرجت عن إرادة الراغبين بالفعل ودخلت في آليات انتقال العالم التي كانت على السكة أصلاً، من عالم القطب الغربي الواحد إلى عالم أممي متعدد الأقطاب أو متعدد التحالفات، وبهذا فإن نتائجها ستكون أكبر من المتوقع وأكبر من نتائج الحدث على أهميته. فالولايات المتحدة التي حاولت منذ نشأتها أن تعيد صياغة العالم عبر الحروب على شعوب العالم كلها، خسرت هذه المرة خسارة كبرى لاعتبارها قد وجهت الضربة القاضية لذاتها كنموذج يحتذى في "الديمقراطية" وصون "حقوق الإنسان"، وغادرت الساحة وضمائر كلّ المهتمين كقوة ونظام يجب الاقتداء به. فالأميركيون أنفسهم من مسؤولين وكتّاب وإعلاميين فتحوا  ورقة المحاسبة مطالبين بتغيير قواعد السلوك العدواني الأميركي التي لا تنسجم حتى مع دستورهم وقوانينهم، ناهيك عن القانون الدولي والشرعية الدولية.

أما الصين التي بدأت مبادرة "حزام واحد وطريق واحد" لتخلق شبكة تنموية في عشرات دول العالم على أساس الندية والحوار والعيش المشترك، فقد خطت خطوة هامة في تقديم نفسها كمورد للسلاح وضامن لأمن بلدان كانت حتى الآن تقع تحت السيطرة الأميركية حصراً، كما أنها خطت خطوات جريئة في تأمين أمن الطاقة وتأمين بلدان مثل إيران تقع عليها أقسى العقوبات الأميركية، وفي هذه الخطوات رسائل إلى كلّ دول العالم أن البدائل موجودة وأنه ليس عليهم بعد اليوم الارتهان إلى نموذج لا يحظى باحترامهم وقناعتهم ولا يشاطرهم الرؤى حول مصالحهم الوطنية.

كما أن أحد الارتدادات على المستويات الداخلية الذي سلّط الضوء عليه تصويت البرلمان العراقي، هو الفرز المؤكد بين من يعمل لصالح قضية شعبه ووطنه وبين من يرهن إرادته للمحتلّ والمعتدي على أرضه. ويجب ألا نقلّل من أهمية هذا الارتداد في عصر اعتمدت فيه الولايات المتحدة على عملاء لها في بلدان كثيرة لتنفيذ مخططاتها، وتوفير عناء القتال والتمويل على جيشها، فجنّدت جيوشاً من الخونة متخفيّن في بلدان عديدة يأتمرون بأمرها ويحققون مصالحها.

ولا شك أبداً في أنّ زحف الملايين في العراق وإيران لتشييع الشهيدين أبو مهدي المهندس وقائد قوة القدس الفريق قاسم سليماني كان استفتاءً هاماً وضخماً لصالح من نذروا أنفسهم لخدمة مصالح أوطانهم، ووقفوا حصناً منيعاً في وجه كلّ من حاول النيل من هذه الأوطان حتى وإن دفعوا حياتهم ثمناً لذلك. فلا شك في أنّ دماءهم سوف تشعل مشاعل الإخلاص والانتماء والوفاء للوطن وقضاياه، بعيداً عن الخونة والعملاء المتآمرين عليه والذين يشغلون مواقع هامة ولكن لصالح الأعداء.

وفي هذه الأثناء أتى تحرير عميد الأسرى السوريين صدقي المقت ليرسل رسالة مؤيدة لمسار الشهيدين في العراق وإيران، هي رسالة الصمود والتحدي للمعتدي والمحتل الإسرائيلي، ورسالة انتصار إرادة الأسير على إرادة السجانين والظالمين. هذه أوراق تضاف إلى سجلّ ثقافة المقاومة وهي أوراق لا يستهان بها ويجب اعتمادها واستخدامها في وجه كلّ من رهنوا إرادتهم للمال أو للشيطان. كما أن الرسالة التي يجب ألّا تُنسى هي أن العديد من قوى العالم يؤيد الحق حين تصل اليه الرسالة بشكل سليم وواضح، ومن هنا يجب معالجة مناحي التقصير وعدم الركون إلى الدعايات الصهيونية التي تحاول أن تُظهر أن العالم معها وأن تبث اليأس والقنوط في أنفس المنتمين والمؤتمنين على قضاياهم.

لقد بذل شهداء المقاومة حياتهم كي نحيا نحن جميعاً، وقد يكون دور دمائهم الطاهرة بعد استشهادهم استكمالاً للدرب المحقّ الذي اختاروه والذي سيغيّر المنطقة والعالم، لما فيه إحقاق الحق ونصر المظلومين وبسط الأمان والسلام بدلاً من الحروب والدمار، وما ذلك على الله بعزيز.

هذه حقبة جديدة بالفعل تتطلب منا رؤى جديدة واستراتيجيات جديدة واجتراح أدوات جديدة تليق بحجم المهمة والهدف السامي الذي نسعى إلى تحقيقه.