2024-11-30 09:30 ص

بُناة المستقبل

2019-08-27
بقلم: بثينة شعبان

في الأسبوع القادِم يتوجّه ملايين التلاميذ والطلاب في العالم العربي إلى مدارسهم وسط أجواء مُضطربة تعيشها هذه البلدان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فكلّ بلد يخوض معركة مختلفة وأحياناً مُتأخّرة من دون أن يمتلك أدوات تغيير حقيقي عن الماضي الذي أوصله إلى هذه الحال.

وما عدا معارك تحرير الأرض من الإرهاب والاحتلال في سوريا والعراق واليمن وليبيا لست متأكّدة من نجاعة المعارك الأخرى التي يخوضها الآخرون في المضمار السياسي أو الانتخابي ذلك لأن المشكلة لا تكمُن في الشكل بل في الجوهر الذي لم يتمّ التعرّف على حقيقته والعمل حسب مُقتضاه في الماضي من الأيام. أي بعد المعارك التي يخوضها جيشنا في ريف حماه وإدلب وحلب واللاذقية، ولاحِقاً في شرق الفرات، والتي يخوضها العراقيون في بقاعٍ مختلفةٍ من العراق، واليمنيون والليبيون أيضاً، لا بدّ من فسحة للتفكير والتخطيط الاستراتيجي حول الوجهة المقبلة التي ننوي اتخاذها ولا بدّ قبل ذلك من مُكاشفة صريحة وجريئة حول نقاط الضعف التي أوصلتنا جميعاً إلى هذا المُنتهى وهذا بحدّ ذاته ليس بالعمل القليل لأنه يتضمَّن التحدّي لكلّ ما اعتدنا عليه من ضبابية في التعامُل مع الأخطاء وتوصيف المُنزلقات التي قادت إلى نتائج غير مُرضية للجميع. وعلّ أول ما علينا أن نستذكره هو أن الإنسان هو اللبنة الأساسية في أيّ بناء سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، فإذا صَلُحت نشأته وإعداده وتدريبه وتأهيله صَلُح كلّ ما يقوم به، والعكس صحيح.

في الوقت الذي ينشغل فيه كل قُطر بمعاركه الآنيّة واليومية والمُلحّة يتوجَّه ملايين الأطفال والتلاميذ والطلاب إلى رياضهم ومدارسهم وجامعاتهم ونمرّ بهم مرور الكِرام من دون أن نتوقَّف للحظةٍ ونتساءل عن جودة وأهمية ما يُقدَّم لهم من معارف وأصول تربوية تشكّل جذوة أخلاقهم وشخصيتهم في عالم الغد الذي نرتقبه جميعاً. في حَمْأة الدفاع عن النفس ومحاولة الصمود في وجه كلّ محاولات الاستهداف والتدمير يغيب عن بالنا أن المعركة الأهم والأبقى يجب أن نخوضها مع هؤلاء منذ نعومة أظفارهم فنعدّهم لمستقبلٍ نحلم به لهم وللوطن.

مؤشّران خطيران في العالم العربي يُنبئان بخطوط حمر ألا وهما تراجُع التعليم وتراجُع مستوى اللغة العربية. والأمران مُرتبطان أشدّ الارتباط، فاللغة هي أداة التفكير وما لم نُتقِن الأداة لا يمكن لنا أن نتمتّع بتفكيرٍ ناضج. والذريعة لتراجُع اللغة العربية أحياناً هي وسائل التقانة الحديثة وكون اللغة الإنكليزية هي الأهم في هذا المجال وكون اللغة العربية غير قادِرة على المواكبة مع أن اللغة العربية هي أقدر لغات الأرض على الاشتقاقات وهي أغنى لغات الأرض بالمُفردات ولا شك أنها من أجمل اللغات على الإطلاق. ولكنّ تراجُع حركة الإبداع والتأليف باللغة العربية وتراجُع مستوى القراءة بين أبناء الضاد وتراجُع تعليم هذه اللغة قد أثّر سلباً على حضورها وعلى درجة إتقانها بين أبنائها.

وتراجُع اللغة بهذه الطريقة هو تعبير أكيد عن الانهزامية النفسية التي تعاني منها هذه الأمّة اليوم والشعور بالنقص اتجاه الأمم الأخرى ولغاتهم ومُنتجاتهم. حين يكون المرء فخوراً بلغته ومُتمكّناً منها يكون بالتأكيد فخوراً بهويّته وحضارته وتاريخه وعامِلاً من أجل مستقبله، وهذا الانتماء يبدأ منذ الصِغَر فقد اعتمدت الصين على رياض الأطفال اعتماداً حقيقياً لتربية الأجيال بينما لا تدخل إلا نسبة ضئيلة جداً من أطفال العرب في كافة أقطارهم إلى رياض الأطفال وبذلك نكون قد هدرنا السنوات التكوينية والأساسية لتكوين شخصية الطفل وهويّته وانتمائه.  وحتى حين يلج أبواب المدارس فإن المدارس العربية لا تركِّز على تكوين الشخصية ولا على تعليم الأطفال عادة القراءة والبحث والتفكير، بل مازال الأسلوب تلقينياً وبعيداً عن تحفيز التفكير وطرح الأسئلة بدلاً من تقديم الأجوبة الجاهِزة. في مدارس الدول المُتقدّمة في الشرق والغرب يتعلَّم الطفل اليوم عادة القراءة والبحث منذ سنيه الأولى في المدرسة بينما يتم تسليم أطفال العرب أدوات الآي باد أو جهاز الهاتف للتسلية واللعب وقَتْل الوقت وتعطيل التفكير.

ليس صحيحاً أن العالم لا يقرأ اليوم وأن أطفال العالم لا يقرأون، ولكنّ الصحيح هو أن معظم أطفال العالم العربي لا يقرأون. المُحبِط جداً في هذا الإطار هو أن نُخبة من العرب في مدنهم الأساسية يرسلون أطفالهم إلى مدارس أجنبية لا تُدرِّس اللغة العربية إلا لِماماً لأنهم يريدون لأطفالهم ان يتعلَّموا لغة أجنبية وأن يكونوا في مدارس ذات مستوى تعليمي أفضل. إن هذا شبيه بمَن يترك بيته يحترق ويلجأ إلى بيت الجيران بدلاً من إطفاء حريق منزله. كما أن معظم هؤلاء يعدّون أطفالهم للعيش في الغرب مُتحدّثين عن بلدانهم بلغةٍ إقرارية أن لا مستقبل لها وأنهم يريدون مستقبلاً أفضل لأبنائهم وكأن المستقبل في الغرب موصوف ومصنوع حتى قبل وصول أبنائهم هناك. أوليس أبناؤهم هم الذين يساهمون في صناعة مستقبل أفضل في الغرب؟ والسؤال هنا لماذا لا يتمكَّن هؤلاء من صناعة مستقبل أفضل في ديارهم؟  ذلك لأن البيئة غير قادِرة على استيعاب هؤلاء.

والسؤال التالي هو هل هبطت هذه البيئة من السماء أم أنها من صُنع هؤلاء الذين يشغلون المكان؟ أوليسوا هم أنفسهم مسؤولين عن تصحيح هذه البيئة وتخليصها من أمراضها كي يتمكَّنوا هم وغيرهم من لعب دورهم في بناء مستقبل أفضل؟ المشكلة في عالمنا العربي تكمُن أولاً وقبل كلّ شيء في هذه النفسية الانهزامية والتنصّل من المسؤولية وتحميل المسؤولية للحكومات أو المسؤولين أو أصحاب الشأن أو لحُفنةٍ من الفاسدين أو المُخرّبين. ومهما يكن من أمر ومهما كان نقص الكفاءة واضحاً لدى ذوي الشأن ومهما كانت مقولة وجود فاسدين ومُخرّبين صحيحة فإنّ الذي لا شك فيه هو أن هؤلاء ليسوا المسؤولين الوحيدين عن الخطأ والخطر ولكنّ النسبة العالية من الجبناء والمُتحلّلة من المسؤولية هي المسؤولة الأكبر عن انعدام البيئة السليمة والمُحفّزة للإنتاج والإبداع، وعن انعدام التقدّم في مجتمعاتنا.

إذ هل يُعقَل ألا تكون جامعة عربية واحدة ضمن أول مئة جامعة في العالم؟ وهل يُعقَل أن تصل لغتنا التي هي مصدر كبريائنا وتعليمنا الذي هو أساس مستقبلنا إلى هذه الدرجة من الضياع من دون أن تتشكَّل هيئات وجمعيات ومؤسَّسات ترفع صوتها عالياً وتحاول تصحيح المسار قبل أن يودي بنا جميعاً إلى الهاوية؟ في هذا التوقيت الذي يتوجَّه به أبناؤنا إلى المدارس علينا أن نفكِّر أن معركتنا الأساسية هي في مدارسنا وجامعاتنا، فهي تعتمد أولاً وأخيراً على بناء الإنسان ومن دون هذا البناء لا يمكن أبداً بناء المستقبل الأفضل لبلداننا.                            

الميادين