2024-11-30 02:28 م

هل ينقذ غريق غريقا؟!

2019-06-08
بقلم: بثينة شعبان
تقول الحكمة الشعبية المتوارثة إنّ الغريق يحاول أن يشدّ من يحاول إنقاذه إليه فيغرقه معه... وقد حفلت كتب الموروث الشعبي بقصص من غرقوا وهم يحاولون إنقاذ غريق عزيز عليهم، ولذلك فإنّ الحكمة التي تمّ استخلاصها هي ألاّ تغامر بحياتك لإنقاذ من هو آخذ في الغرق لأنّه سيغرقك معه، إلّا إذا كنت تتدبر عملية الإنقاذ بحكمة ودراية وتعقّل.

لم تغادرني هذه الحكمة وأنا أشاهد على مدى الأسبوعين الماضيين التجاذبات الأميركية والخليجية بشأن إيران والمنطقة، حيث أتت القمم الثلاث الخليجية والعربية والإسلامية التي دعت إليها السعودية وسيّرتها وفق أجندتها بعدما طال انتظار الرئيس ترامب قرب الهاتف ليستقبل مكالمة من إيران وبعدما أفصحت معظم المصادر العارفة بالشأن الإيراني عن أنّ هذا الهاتف سيبقى صامتاً ولن يأتي أبداً بالمكالمة المنتظرة.

وإعمال العقل بعد هذه التجربة وبعدما تقبلت الولايات المتحدة ولو على مضض، الدرس من إيران، وعلمت للمرة الألف أنّها تتعامل مع بلد يقوده سياسيون ذوو كرامة، إعمال العقل كان يقتضي أن تتجاوب السعودية مع دعوة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف للتوصل إلى اتفاق على معاهدة حسن الجوار وحفظ أمن المنطقة للجميع، لأنّ مثل هذا الاتفاق سيخفف من كاهل السعودية والإمارات الابتزاز المالي المستمرّ الذي تتعرضان له من قبل القوى الاستعمارية بذريعة درء الخطر الإيراني عنهما. ولكن مبادرة ظريف لم تقع على آذان صمّاء ولاقت تجاوباً من قبل عدد من الدول العربيّة والخليجية والإسلامية التي أيّدت دعوة أمير الكويت صباح الأحمد الصباح (للتمسك بخيار الحوار لاحتواء الموقف وتجنيب منطقتنا ويلات حروب عانينا منها طويلاً).

كما أكّد هذا الموقف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي كشف عن معرفته أنّ عدداً من دول الخليج (الفارسي) جاهز لبحث مبادرة وزير الخارجية الإيراني للاتفاق على عدم استخدام القوة أولاً وأنّ موسكو ستكون جاهزة للمساعدة. أضف إلى هذا أنّ الرئيس العراقي برهم صالح تحفّظ على البيان الختامي المكتوب والمعدّ مسبّقاً من دون أن يناقشه أحد، الذي لا يعبّر عن جوهر ما دار من مداولات، وأكّد باسم العراق أنّ تعريض أمن إيران للخطر يهدّد أمن الخليج (الفارسي) والمنطقة العربيّة بالخطر. وبهذا يمكننا القول وبكلّ موضوعية أنّ الكيان الصهيوني وصقور الإدارة الأميركية لم ينجحوا في جعل هذه القمم الثلاث تصعّد من العداء السعودي أو الإماراتي ضد إيران، بهدف جعلها العدو بدل العدو الحقيقي للوجود العربيّ ألا وهو إسرائيل، بل على العكس من ذلك فقد كشفت مواقف الدول الحاضرة في هذه القمم، إلاّ بعض الاستثناءات التابعة كلياً، أنّ فشل الولايات المتحدة في ابتزاز إيران والضغط عليها عبر التكتل الهش لدول الخليج والسعودية، لن ينتج عنه أيّ نجاح في استدراج المسلمين والعرب أو حتى الخليج (الفارسي) إلى رحلة التيه التي لا يعلمون هم إلى أين يمكن أن تودي بهم، وهو المخطط الحقيقي الذي وضعته إسرائيل لهذه القمم. في جوهر الأمور كلّ هذا يجري طبعاً من وجهة نظر الصهاينة والمتصهينين معهم من أجل تمرير "صفقة القرن" وتصفية القضية الفلسطينية وتسليم المنطقة إلى الهيمنة الصهيونية الإسرائيلية، ولكنّ مجريات هذه القمم ونتائجها وانطلاقة الروح الشعبية في إيران ولبنان وسوريا واليمن وبلدان عديدة أخرى لإحياء يوم القدس العالمي، ورفض "صفقة القرن" جملة وتفصيلاً، كلّ هذا يشير إلى أنّ الحقوق العربيّة في فلسطين والجولان وشبعا لا تسقط من خلال فبركات إعلامية تظهر بمظهر القوة ولا أساس شرعياُ أو قانونياً أو سياسياً أو اجتماعياً تستند إليه في نهاية المطاف.

القصيد في هذا الشأن هو ما بدأ الكيان الصهيوني بالترويج له علناً منذ عام 2005 وربما سرّاً منذ عقود قبل ذلك، وهو أنّ الخطر في المنطقة هو الخطر الإيراني أو الشيعي، وليس خطر الاحتلال اليهودي والاستيطان الصهيوني لفلسطين والأراضي العربيّة المحتلة الأخرى ومصادرة الحقوق الوطنية والإنسانية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ 71 عاماً وأهلنا في الجولان ومزارع شبعا وفي كلّ شبر من الأراضي المحتلة. والمروجون لهذه المعادلة في المنطقة هم أنفسهم إسرائيل والولايات المتحدة الذين حاولوا نفخ إكسير الحياة في قمم تسير في أوهام عكس حركة التاريخ والجغرافيا. ففيما الذي أصبحت الصين وروسيا قطبين عالميين أساسيين يرسيان الأسس المتينة لعالم متعدد الأقطاب، وفيما شكّل صمود سورية هزيمة لحرب الإرهاب المدروسة والممولة والمسلحة من قبل إسرائيل والسعودية ونحو مئة دولة أخرى ونصف، وفيما نجم عن صمود سوريا تحالف سوري إيراني روسي عراقي لبناني عبر حزب الله، وفيما صمد شعب اليمن صموداً أسطورياً ولم تتمكن كلّ قوى العدوان من كسر إرادته، في الوقت الذي سلّمت به الولايات المتحدة سرّاً أو جهراً أنّ إيران دولة إقليمية مركزية ولا يمكن شنّ حرب ضدّها لأنّ الخسائر ستكون غير محسوبة، في هذا الوقت تلجأ السعودية إلى عقد قمم ثلاث استعراضية فاشلة للتجييش ضد إيران في وضع دولي أنهكته صيحات الحرب الإسرائيلية وبحور الدماء والخراب التي تنشرها الولايات المتحدة عملاً بنصائح إسرائيلية؟

السؤال هو أليس لديهم مستشارون يناقشون المقترحات الإسرائيلية والأميركية بما يحفظ ماء الوجه على الأقل، ولا يورّطهم بنشاط سياسي ودبلوماسي فاشل مثير للسخرية والشفقة في آن؟ وأنا أطرح هذا السؤال أعلم أنّه لو تمّ إعمال العقل لما وصلت الأمور بالسعودية والإمارات إلى هذا الدرك الذي وصلت إليه اليوم.

المراقب الخارجي والموضوعي لمسار الأحداث يعلم علم اليقين أنّ الغرب برمّته في حالة انحدار، وأنّ القوة الأساسية المنبثقة من الشرق آخذة في التشكّل على مبادئ الشرعية الدولية والقانون الدولي والاحترام المتبادل والتشاركية والتواصل لما فيه خير الجميع، وهذه بالذات هي مبادئ حزام واحد طريق واحد التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبنغ التي تحوّلت إلى آليات عمل دقيقة ونافذة ومشاريع في أكثر من مئة وخمسين دولة والتي أعتقد أنّها مرشحة لصياغة عالم المستقبل. ككاتبة عربية شديدة الانتماء للعروبة الحقّة أحزن وأنا أرى بعض حكّام العرب يعملون ويفكرون ويتصرفون وكأنّهم خارج التاريخ وخارج السياق التاريخي الحقيقي الذي يصيغ مستقبل العالم، وأحزن أيضاً حين أرى محاولات خبيثة لاستغلال قصورهم هذا في الالتفاف على الحقّ التاريخي العربيّ في فلسطين والجولان وشبعا، وعلى سمعة العرب ومستقبل أبنائهم برغم ثقتي المؤكدة أنّ التاريخ تصنعه الشعوب وليس الحكّام مهما ظنوا أنّهم يملكون من أسباب القوّة، فالقوّة الحقيقية والتاريخية هي بأيدي الشعوب دائماً ومن يمثّلها فعلاً لا قولاً ولا طغياناً ولا استبداداً. أرى أنّ القوى الغربية الآخذة في الغرق والمغادرة حكماً لصدارة التاريخ، تسحب معها أنظمة عربيّة متهالكة لتضمن إغراقها متوهمة أنّ الحقوق التاريخية ملك حكّام هذه الأنظمة، وأنّ توقيعهم يعني تصفيتها غير مدركين أنّ كلّ إجراءاتهم الفاضحة هذه تساهم بالإسراع في تشكيل وعي عربيّ رأينا مؤشرات هامة له في قمة مكة، من خلال مواقف مشرّفة للعراق والكويت وأخرى لم يتمّ إلقاء الضوء عليها ولكنّها ستظهر إلى النور وتندمج في سياق التحالف والفعل المقاوم الرافض لترسيخ الاحتلال ومصادرة الحقوق، مهما بلغ الثمن ومهما طال الزمن، فالحقوق العربيّة لا تسقط بالتقادم أبداً وتجارب التاريخ كافية وافية لتؤكد لنا هذا..
(الميادين)