منذ بداية التدخل التركي في سوريا، حاول الرئيس التركي إعتماد صيغةٍ مخادعة تُبعد عن تحركاته ومواقفه وصمة وصِفة المحتل وتُخفي أهدافه العثمانية وشفغه بإستلاب وقضم المزيد من الأراضي السورية إلى حدود "السلطنة" البائدة.
الدور التركي المشبوه في سوريا ... فقد وجد الرئيس التركي ضالته في المسودة الأمنية لبروتوكول أضنة لعام 1998, واعتبره أرضيةً مناسبة لتدخله السافر والمشبوه في سوريا، لتأتي سنوات الحرب وتسقط كافة الأقنعة التي اختبئ ورائها, ويتضح إعتماده على الإرهاب والإرهابيين بشكل فاق إعتماد كافة الغزاة والمتاّمرين على سوريا, وليتحول لاحقا ً إلى إحتلالٍ وعدوانٍ صريح تحت ذرائع مختلفة، تصدّرتها ذرائعه وأكاذيبه حيال حماية الأمن القومي التركي والقضاء على الوحدات الكردية (PYD) التي تعتبرها بلاده تنظيماتٍ إرهابية، وعليه فقد ابتكر ذرائع عدوانه واحتفظ لنفسه بحقوق استعمال واستثمار تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" الإرهابيين والنسخ المنحولة عنهما والتي دعاها بالتواطىء مع كافة أعداء سورية ب "المعتدلة"، بالإضافة إلى المخدوعين به و"بعدالته وتنميته".
إذ سبق لرئيس "الائتلاف المعارض" المدعو أنس العبدة، أن كشف المخطط وتحدث على قاعدة "خذوا أسرارهم من صغارهم"، وأكد أن بروتوكول أضنة: "يهيئ الأرضية اللازمة لأنقرة، لإقامة منطقة آمنة في سوريا"، وهذا يساعدها على تأمين حدودها وعلى "عودة السوريين إلى بلادهم بأمان"، واعدا ًومعاهدا ً دولة الإحتلال التركي بقبض ثمن عدوانها على سوريا من خلال مرحلة إعادة الإعمار.
قصة المنطقة الاّمنة ... فعلى طريق تحقيق أطماعها، ومنذ العام 2013 بدأت تركيا بالسعي والمطالبة بإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، والتي قوبلت دائما ً برفضٍ أمريكي، لكن هذا لم يُثني أنقرة عن متابعة بث أكاذيبها ومرواغتها الأردوغانية، للإدعاء بأن سعيها لإنشاء هذه المنطقة يهدف إلى حماية المدنيين من "النظام"، وتأهيلها لعودة اللاجئين إليها، فضلا ًعن منع سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) على تلك المناطق، بفضل امتلاكه مشروعا ً انفصاليا ً يهدد أمن الدولة التركية.
وقد شكل الرفض الأمريكي لإنشاء هذه المنطقة طيلة سنوات الحرب سببا ً ومصدرا ً رئيسيا ً للتوترات وللخلافات بين الدولتين، خصوصا ً مع إعتماد واشنطن على التشكيلات الكردية التي ابتكرتها وأطلقت عليها اسم "قوات سورية الديمقراطية"، ومنحتها "شرف" محاربة "داعش" في الوقت الذي حرمت تركيا منه مرارا ً وتكرارا ً خصوصا ً في الرقة...
واليوم وبعد إعلان الرئيس ترامب عن إنسحاب قواته من سوريا، والذي رحبت به تركيا بداية ً مع كلامه لأردوغان بأن:" سورية كلها لك "، ولاحقا ً أظهرت غضبها بعد تصريحات وزير الخارجية بومبيو، ومستشار الأمن القومي بولتون، حيال التحذير من "قتل تركيا للأكراد"، ومن إطلاق عملية عسكرية ضدهم بعد انسحابها، بالإضافة إلى تغريدة ترامب الجديدة ب "تدمير تركيا اقتصاديا ً إن هاجمت الأكراد" في سوريا، ومن ثم قبوله المفاجئ بإقامة تركيا منطقتها الاّمنة بطول 460 كم وبعمق 32 كم، وذلك بعد الإتصال الهاتفي مع أردوغان.
قمة بوتين – أردوغان ... فقد استبقت موسكو القمة بالتعبير عن قلقها من استمرار التواجد الإرهابي في إدلب, فيما خرج الرئيسان – بالأمس - وفي مؤتمرٍ صفحي, ليتبين بوضوح أن بوتين وضع أردوغان في الزاوية, ودفع بملف إدلب نحو صدارة اللقاء, حيث أعلنا إتفاقهما على خطوات من شانها الحفاظ على استقرار الوضع في إدلب وأن وقف العمليات القتالية لن يكون على حساب محاربة الإرهاب، وأنهما مستمران في التنسيق عبر وزيري دفاع البلدين للإتفاق على خطة ستُنَفَّذ على الأرض, يبدو أن فرصة بقاء "جبهة النصرة" وتوابعها تتضاءل تماما ً, الأمر الذي بدا كصفقة ٍ مستعجلة للقضاء على التنظيم الإرهابي هناك, مقابل الحديث عن اللجنة الدستورية كنوع من المقايضة غير المتكافئة والتي تسحب البساط من تحت أقدام الرئيس التركي المخادع, مع تأكيد الرئيس الروسي أنها "قضية هامة لكنها خاضعة للمفاوضات", مشددا ًعلى ضرورة تتمثل فيها جميع المكونات السورية, وبذلك يكون الرئيس بوتين قد فرّغ المنطقة الاّمنة من محتواها بحسب الأطماع والمشروع العثماني, مع دعمه وتأييده للحوار بين الأطراف الكردية والدولة السورية.
مصير المنطقة الاّمنة .... فقد أتى بالأمس, كلام الرئيس الروسي عن ضرورة العودة إلى العام 1997 والذي يعني العودة إلى ما قبل إتفاقية أضنة لعام 1998, وبما يشي بمحاولة روسية تسعى لإعادة جلوس الطرفين السوري والتركي وجها ً لوجه , أو بشكٍ غير مباشر, وبحضور وإشرافٍ روسي عوضا ًعن المصري – كما حدث في العام 1998, ما يعني استبدال الدور المصري بالدور الروسي, فيما حافظ الدور الإيراني على ثباته ومقعده إلى جانب الروس في مساعدة الطرفين على إنتاج صيغةٍ جديدة لإتفاقية أضنة والتي يمكنها أن ترى النور هذه المرة, والمساعدة على بلورتها في إتفاقٍ ببعدين سياسي وأمني, يضمن مصالح كلا الدولتين, ويتيح للجيش السوري إمكانية العودة للسيطرة على كامل الحدود المشتركة بينهما, الأمر الذي يشي بموافقة الرئيس التركي على هذا الطرح, ويفسر في الوقت ذاته تصريحات وزير الخارجية جاويش أوغلو وحديثه عن إتصالاتٍ "غير مباشرة مع الحكومة السورية", ويفسر أيضا ً تمسك بلاده الشديد بإنشاء هذه المنطقة "بالتعاون مع واشنطن أو موسكو أو أي دولة أخرى", وبتأكيده أن بلاده "قادرة على إنشائها بمفردها" -ودائما ً الكلام بحسب جاويش أوغلو-, وعليه أسدلت القمة ستارها بإعلان الاتفاق على عقد قمة ثلاثية في موسكو بمشاركة الرئيس الإيراني في شهر شباط القادم.
الدعم الأممي للمنطقة الاّمنة .... كعادتها تبدو الأمم المتحدة غير مستقلة بقراراتها، والتي تنبع من مصالح دول الهيمنة الغربية عليها, وتبقى عاجزة عن لعب دورها الأساسي في ضبط الصراعات والتضييق عليها, وإعطاء الدبلوماسية والحوار كافة الفرص لتجنب الصدامات والحروب العسكرية المدمرة, لكنها تخلت من خلال الحرب على سوريا عن اّخر أوراق التوت وفضحت حقيقة إصطفافها إلى جانب دول العدوان على سوريا عبر كافة قراراتها المتعلقة وتجاهلها المتعمد لمئات رسائل الخارجية السورية حيال الممارسات التركية ودعمها المطلق للتنظيمات الإرهابية واستمرار عدوانها على سوريا, كذلك عبر موفديها ومبعوثيها لحل الأزمة في سورية... وعليه كان لها وعبر أمينها العام موقفٌ خاص ومؤيد لإقامة المنطقة الاّمنة في سوريا, من زاوية "مراعاة المخاوف الأمنية للدولة التركية", وإلى وجوب عقد اجتماع في الأمم المتحدة لإتخاذ قرار إنشاء المنطقة الآمنة في الشمال السوري.
أخيرا ً... بالتأكيد, يبدو أن الرئيس التركي يحاول الإستمرار باللعب على الجبهتين الروسية والأمريكية, في الوقت الذي بدأ يضيق أمامه نطاق المراوغة لإرتباطه بإتفاقيات سوتشي وأستانا مع كل من روسيا وإيران, وأنه لا يمكن لأحد أن يثق بالوعود والعهود التركية، خصوصا ً مع كلام الوزير أوغلو: "بأن لاشيء مؤكد بعد بشأن المنطقة الاّمنة", ومع نفاق الرئيس التركي الذي دأب على إتباع سياسة الخداع والمراوغة ونقض العهود والتراجع عن الاتفاقات، والذي يجيد استغلال أنصاف الفرص، ليضيف - بأوامر أمريكية - المزيد من التعقيد والضبابية، على مسار ربع الساعة الأخير للحرب على سوريا، الذي وعلى ما يبدو أنه سيعتمد الأشهر عوضا ً عن الدقائق كواحدة لقياس الزمن وإحلال السلام...
رأس "النصرة" وتحرير إدلب .. وعودة إتفاقية أضنة إلى الواجهة
2019-02-01
بقلم: ميشيل كلاغاصي