لطالما كان الحديث عن سوريا مميزا ًومعطرا ًبخصوصيتها وبعلاقتها الأبدية – الفريدة مع التاريخ، وشهدت أرضها تعاقب الغزاة والحضارات فيما بقيت شعوبها ووضعت بصمتها بدمائها ورسمت ملامحها وحافظت على كبريائها وعنفوانها وحيويتها وتقاليدها، وفرضتها حتى على الغزاة اللذين وضعوا أقدامهم على أرضها ... ومن اللافت أن أعدائها لم ينفكوا يوما ًعن شغفهم وسعيهم للسيطرة عليها, وخاضوا لأجلها أعتى المعارك والتي لا تزال مستمرة ً حتى يومنا هذا ... فقد كان لموقعها الجغرافي ولنشاط أهلها وبراعتهم الفضل الكبير في تحويلها إلى مركزٍ رئيسي للتبادل التجاري, الأمر الذي جعل منها أرضا ً تصارع عليها جيرانها وكافة الدول القوية في العالم القديم, لذلك كان من النادر لها أن تكون أرضا ً مستقرة ومستقلة وبحدود اّمنة دون أن يدفع أهلها الثمن ويقدمون التضحيات فداء ً لها ...
ومن المؤسف أن نرى "العرب" لم يدافعوا عن سوريا ولم ينظروا إليها على أنها تمثل الحدود الشمالية للوطن العربي، وأنها القلعة والخندق الأول أمام الغزاة اللذين عبروا جبال طوروس وزاغروس، بالإضافة إلى العدو التركي و"الجار" التاريخي المعروف بأطماعه الدائمة بأراضيها وثرواتها، والذي لا زال حتى اليوم يقاتل من أجل إقتطاع واستلاب المزيد من أراضيها، ناهيك عن الأربعمائة عام من الاحتلال العثماني لها ولشقيقاتها العرب ...
فقد ظلت سوريا لقرون وعقودٍ طويلة خاضعة لتأثير وتهديد ما يمكن تشبيهه بمثلثٍ رأسه تركي وأضلاعه وهابية -إخوانية، وأضيف إليه ضلعٌ رابع في العصر الحديث بعد زراعة الكيان الصهيوني على حدودها الجنوبية، واليوم وفي الحرب الكونية الحالية هناك من أراد إضافة ضلعٍ خامس يتمثل بقيام كيانٍ أو دويلة كردية في شمالها الشرقي...
كيف يمكن إقناع بعض العرب بمقولة – عدو جدك ما بودك -، ونحن نرى الأعراب يعتلون غالبية مقاعد القيادة في الدول والعروش ويسوقون الشعوب العربية إلى حيث لا تريد، وبعكس هويتها وإنتمائها ولحمتها وعروبتها وإسلامها وكل معتقداتها على تنوع وفرادة مكونات المجتمعات العربية.
وكيف يمكن تفسيرُ، حب وتعلق وخنوع وعمالة البعض منهم للأتراك والصهاينة والفرنسيون والأمريكيون ...إلخ، وكيف يكون الحديث عن الحقيقة وعن أسباب الحرب الكونية على سوريا في الوقت الذي لا زال فيه من يرون في تركيا دولة الخلافة الإسلامية وليس دولة الإحتلال العثماني، ويرون فرنسا وانكلترا وأمريكا صليبيون وليسوا فرنجة، وأن الإسرائيليون هم جيران وأصدقاء وليسوا محتلين وغاصبين... كيف يمكن دفع التائهين للتمييز بين الفتوحات والغزو، وبين تركيا "السلطنة" وإمبراطورية الظلم والإبادة والتهجير والقتل والإحتلال، بأنها ليست دولة شقيقة حنون تدافع عن السوريين وغيرهم... وأن الوهابيون عرب مدافعون عن الدين الحنيف ولا يسعون لتشويهه، وأن أصولهم وعلاقاتهم السرية والعلنية مع الصهاينة هي مجرد نزوة وعلاقات عابرة.
وكيف نفسر مشاريع التقسيم الأمريكية بالإعتماد على كرد سوريا، والإحتلال العثماني الجديد بقيادة أردوغان، وسايكس بيكو الجديدة بقيادة الليبراليون الجدد في أوروبا، ومحاولات ضم الجولان المحتل إلى الكيان الغاصب... تبدو القصة متعبة بالتوازي مع الجهل البريء وغير البريء المتفشي في مجتمعاتنا، هلموا نطلب المساعدة من صفحات التاريخ ....
ففي العام 1810 طرق الوهابيون أبواب دمشق واحتلوها، وخرجوا على يد الألباني محمد علي باشا والي السلطنة العثمانية في مصر، والذي فاز بولايةٍ إضافية على سوريا مقابل إنسحابه من أنقرة وعودته إلى مصر بعد أن تابع طريقه نحو القضاء على السلطنة في عقر دارها ... ولم يتوقف أحفاد اّل سعود - ومن لف لفهم - عن مهاجمة سوريا، حتى بعدما نالت استقلالها في نيسان 1946, وحاولوا السيطرة عليها من الداخل ومولوا المؤامرات وسعوا لإغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق لضرب الوحدة, ولم يتركوا لسوريا فرصة ً واحدة لتلملم نفسها, واستهدفوها عبر حلف بغداد, وبأحداث الثمانينات والإخوان المسلمين, وصولا ً إلى دورهم في الحرب الإرهابية الحالية.
وأما الأمريكان والفرنسيين والإنكليز، فلا يخفى على أحد ما كانوا وما زالوا عليه من حقد وعداء ونوايا استعمارية واضحة، وليس وجودهم العسكري اليوم في الشمال السوري إلاّ استمرارا ً لأطماعهم التاريخية في سوريا، في الوقت الذي يحتفظ الكيان الصهيوني بمهامه الأبدية كشوكة استعمارية في خاصرة الأمة.
وقد يساعد هذا الإستعراض التاريخي السريع في فهم الأسباب التي دفعت الأعراب للتاّمر الجديد على سوريا، وعرقلتهم لمحاولات السلام فيها، وأصبح من البديهي فهم عرقلتهم لعودتها إلى الجامعة العربية، ولفك التجميد عن عضويتها، ومنع لبنان من دعوتها لحضور القمة الإقتصادية... وعشرات المواقف التي تصدر عن بعض الحكومات والعروش العربية....
وأما عن الموقف التركي، الخطير والمعقد، والذي لخصه الرئيس التركي متعاميا ًعن إنتصار سوريا ومحورها المقاوم , ومتجاوزا ً لهزائم محوره الأمريكي ومشروعه العصملي الخاص أيضا ً، بعباراتٍ سخيفة سطرها في مقالٍ نشرته الإسبوع الماضي صحيفة ال "نيويورك تايمز "تحت عنوان "خطة تركيا لتحقيق السلام في سوريا"، تحدث فيه كصاحب حق ومالكٍ حقيقي للأرض وما عليها، ودعا إلى تشكيل "قوة استقرار" بزعامة أنقرة لإحلال السلام والاستقرار في سوريا، بعد إنسحاب القوات الأمريكية، كما حاول فيه استمالة الأكراد وحصر المشكلة معهم بمسلحي "وحدات الحماية" والتي تصنفها أنقرة تنظيما ً إرهابيا ً، ووعدهم بإدارتهم لمجالس محلية في مناطق سيطرتهم، بعد انتخاباتٍ برقابةٍ تركية ... في الوقت الذي توجه فيه للسوريين بجملة أكاذيب وبوعودٍ سخيفة, تؤكد عزمه التدخل بالتمثيل السياسي للشعب السوري... مختتما ً مقاله بتأكيد أوهامه بأحقية بلاده في الإشراف المباشر والمطلق على إدارة الشأن السوري... ولا يسعنا هنا سوى البحث عن العقلاء وأصحاب العقول والعزة والكرامة في رفض هذه المسرحية والعودة إلى جادة العقل والصواب وإلى حضن الوطن.
أخيرا ً ... لا بد للسوريين ولكافة الشعوب العربية أن تعيد تقييم مواقفها وحساباتها على ضوء الحقائق التاريخية بعيدا ً عن الأوهام والأكاذيب التي تدغدغ المشاعر العاطفية والدينية والتي اجتهد الغزاة والأعراب للإختباء ورائها , وأن يعيدوا التفكير بمقولة – عدو جدك ما بودك - , والإهتمام بتعرية السياسات والساسة العملاء من الأعراب واللذين ينوبون عن الأمريكان والأوروبيين والأتراك والصهاينة في تدمير ذاكرة المواطن العربي ويأخذونه بعيدا ً عن بوصلته وطبيعته وحيث يجب أن يكون , فالإنتماء للأمة العربية هو فعلٌ وهوية ومبدأ ووفاء.
أردوغان والأوهام العثمانية
2019-01-22
بقلم: ميشيل كلاغاصي