انفجار الوضع في سورية معطوفا على استفحال الأوضاع في غزة وتعذّر التوصل إلى وقف لإطلاق النار حتى الآن، فضلا عن اهتزاز وقف النار في لبنان، عزز الاعتقاد في واشنطن بأن المنطقة تقترب من فوهة البركان. حالة الحرب المستمرة منذ 14 شهراً على أكثر من جبهة، تثير الخشية من الأدهى والأخطر بعد أن تعذّر إطفاء نارها بصورة حاسمة حتى الآن. ويعزز التخوف من هذا الاحتمال، أن عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب اقتربت إلى البيت الأبيض (46 يوماً) مع ما لوّح به عن عزمه اعتماد سياسات متشددة خاصة في غزة، لو بقيت قضية الأسرى الإسرائيليين من غير حلّ قبل تسلّمه سلطاته.
في المقابل، أوحى صمود وقف النار خلال أسبوعه الأول في لبنان رغم الاختراقات، باحتمال استمرار سريانه لاستكمال مدة الشهرين، بحيث يصبح بعدها مفتوحا على حل لإنهاء الحرب، كما هو مأمول لو بقيت الأمور تحت السيطرة. وفي ذات الوقت انتعش الأمل بالتوصل إلى وقف نار في غزة، بعد أن أعلنت الدوحة استئناف دورها في المفاوضات في هذا الخصوص. والأهم هو ما يتردد عن أن الحلحلة التي بدأ يعيشها لبنان والمحتمل أن تشهدها غزة قريبا فضلاً عن التطورات التي انفجرت مؤخرا في سورية، تنضوي جميعها في خطة أوسع لإعادة ترتيب معادلات المنطقة من جديد، وفق ما فرضته التطورات الميدانية خاصة في لبنان في الأشهر الأخيرة. وما يعزز أجواء التفاؤل في هذا الصدد أن إيران كانت إما طرفا في نسج هذا التوجه وإما أنها التحقت به. وقد انعكس ذلك في المقالة التي نشرتها مجلة "فورين افيرز" المرموقة والتي كتبها نائب الرئيس الإيراني محمد جواد ظريف، مهندس ترميم العلاقات بين إيران والغرب، وأثارت اهتماما ملحوظا في أوساط المعنيين بشؤون السياسة الخارجية.
الخشية من الأخطر في هذه الحروب مشروعة. رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تمكّن بمناوراته وبسبب تراخي الرئيس جو بايدن، من إطالة وتمديد الحرب، بالرغم من تحذيرات الإدارة الأميركية التي تجاهلها رئيس الليكود وبدون كلفة. وقد يتمادى أكثر في زمن ترامب الذي سبق ودعا نتنياهو أكثر من مرة إلى "استكمال المهمة" في حروبه، مع أنه دأب على نبذ الحروب. ورغم نبرة التشدد والتوعّد في حديث الرئيس المنتخب عن النزاعات، إلا أنه أعطى أكثر من إشارة لتفضيله مباشرة رئاسته الثانية من دون حروب الشرق الأوسط، مع أنها لو انتقلت إليه فلن يتردد في أن يكون مطواعا لنتنياهو أكثر من بايدن.
لكنه قد لا يحتاج إلى الانهماك فيها؛ فوقف النار الذي دخل حيز التنفيذ في لبنان جاء بمواصفات ومقاييس إسرائيل وشروطها التي ضمنت لها الاستمرار في خرق الاتفاق بزعم ممارسة حق الدفاع عن النفس. والمرجح أن تنجح مساعي وقف النار في غزة؛ حيث هدد ترامب باستخدام القوة المفرطة لو فشلت وبقيت مسألة الأسرى الإسرائيليين من غير حل قبل عودته إلى البيت الأبيض. والمعروف أن فريق ترامب كان على تواصل وتوافق مع الإدارة في ما يتعلق بحروب المنطقة ومحاولات التعامل مع المعادلات التي رست عليها. ويبدو من المعطيات والمؤشرات التي بدأت تتبلور ملامحها، أن واشنطن تتطلع إلى شرق أوسط مختلف قد يكون قيد التكوّن وبمساعدة ومشاركة طهران. مقالة ظريف "لو كانت من غير توقيع لبدا كاتبها وكأنه حليف لأميركا"، بتعبير أحد المراقبين. تحدث عن "انفتاح إيران على الحوار مع الآخرين، بمن فيهم واشنطن". وشدد على تركيز إيران على "التنمية والجانب الاقتصادي والاستقرار في الشرق الأوسط"، مع التوكيد على "التفاوض المتكافئ" بشأن الملف النووي. ويذكر أن طهران كانت قد ربطت العودة إلى طاولة المفاوضات النووية "بوجوب تعويض واشنطن على العقوبات" التي فرضتها على إيران بعد انسحابها من الاتفاقية في 2017. وحفلت مقالته بالكلام عن أهمية "التكامل الاقتصادي" في المنطقة وبما "يخفض اعتماد الخليج على القوى الخارجية"، مشددا على سعي إيران إلى السلام ولو أنها "واثقة من قدراتها على الدفاع عن نفسها".
توجيه هذا الخطاب عبر هذه المطبوعة المقروءة في أوساط النخب وصناع القرار، وتوقيت نشرها في أعقاب ما يصنفه المراقبون في خانة انكفاء أذرع إيران في المنطقة، بدا وكأنه بمثابة "اعتراف" بهذا الانكفاء مع الاعتزام على سلوك توجه مختلف في الإقليم. تحوّل في التموضع على الأقل بانتظار مرور العاصفة. وثمة من يرى فيه مخاطبة للرئيس المنتخب ترامب، بهدف خفض سخونة الوضع في المنطقة، علّ ذلك يساهم في تنفيس احتمالات توسيع رقعة الحرب في المنطقة. لكنه مسار ما زال في بداياته ويتناسب مع خطاب ترامب عن الحروب. لكن المنطقة مليئة بالألغام ونتنياهو متخصص في استحضار صواعق التفجير اللازمة للاستمرار في الحروب واستدراج الردود لتوظيفها في توفير الذرائع وتكبير الأهداف.
المصدر: العربي الجديد