الرأي قبل شجاعة الشجعان، هكذا تواتر قول العرب الحكيم. ولشجاعة شبّان جنين وطولكرم ونابلس وجنين وبلاطة وكلّ مخيّم وقرية ومدينة فلسطينية، نقف جميعاً إجلالاً واحتراماً، وننحني قبل ذلك وبعده خجلاً أمام كلّ شهيد يرتقي، ويُكتَب اسمُه في سجلّ خلود يزدحم يوماً إثر آخر. بيد أنّ المشهد العام تقول مُؤشّراته، جميعها تقريباً، إنّ الظرف القائم وتعقيداته لا تسمح باستمرار مقاومة هؤلاء الشجعان في الوقت الراهن والوسيلة المُتبنّاة. انقلبت أحوال كثيرة بعد السابع من أكتوبر (2023)، وبعد حرب الإبادة التي تقترب من إكمال عامها الأول، وعلينا جميعاً أن نتأمّل هذه الأحوال ونقرأها بتمعّن، وأنّ نعيد تقييم أشياءَ كثيرةٍ، بما فيها كيف نقاوم، ومتى وبأيّ وسيلة. لنقرأ بعض هذه التحوّلات الجذرية أولاً، ثمّ ندلف إلى خلاصة ما تستنتجه هذه السطور، وذلك كلّه من مربع الإيمان المطلق بحقّ شعبنا في المقاومة طولاً وعرضاً، طالما هذا الاحتلال المجرم رابض علينا. توقيت القول والنقد مهمّ، خاصّة حين تتوفّر مساحةٌ، ولو بسيطة، لاحتمالية تأثير الرأي والرأي العام على توجّه من بيده قرار هذا الفعل أو ذاك.
أولاً، في المشهد العام، في السنوات الماضية كنت أُنظّر لطلبتي في الجامعة في المساقات التي لها علاقة بالشرق الأوسط وفلسطين، قائلاً إنّ النكبة حصلت في غفلة من العالم، فلم يكن هناك إعلام مكثّف، يتابع الأحداث وينقلها مباشرةً، ولم يكن ثمّة وعي إنساني حقوقي يرفض جريمة سرقة بلد وطرد نصف شعبه. وكنتُ أستطرد وأقول إنّ عالم اليوم ووسائل الإعلام المباشر تغطي الأخبار في مدار الساعة، وتدير قرص الشمس والضوء على أيّ جريمة جمعية، الأمر الذي يُقلّل حجمها، ويُقلّص من زمنها. كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة كم كنت مُخطئاً وساذجاً (وربّما غيري كثيرون)، بعد أن شاهدنا (ولا نزال نشاهد) ما يفوق الخيال من الإجرام الإسرائيلي الفاشي في مرأى ومسمع ومراقبة وعدم اهتمام العالم كلّه، بل ودعم القوى الكُبرى للمجرم ذاته.
فوجئت إسرائيل نفسها بمدى لامبالاة العالم وعجزه عن فعل شيء جدّي وحقيقي يوقف إبادتها في قطاع غزّة. اكتشفت أنّ بإمكانها أن تبيد الفلسطينيين وتنكّبهم نكبةً ثانيةً والعالم كلّه يتفرّج. ما أُطلق عليه “محور المقاومة” حساباته مُعقَّدة ومُتردّدة، وأولوياته تُحدّدها مصلحة دولته الأكثر أهمّية، إيران، وليس مصلحة فلسطين. قرارات كلامية من مجلس الأمن لا فعل لها يُوقف المذبحة. إدانات من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تدوس عليها إسرائيل. تصريحات وتنديدات لفظية لا أوّل لها ولا آخر، لم تقدّم أو تُؤخّر أو تُخفّف من حجم الإبادة. مظاهرات مليونية طافت عواصم ومدنا عديدة في العالم، ورفعت اسم فلسطين وقضيتها إلى قلب السماء، لكنّها لم تغيّر شيئاً في الأرض. ماذا فعلت وتفعل إسرائيل إزاء هذا الاكتشاف المُذهل، أي عجز العالم عن إيقاف المذبحة الفلسطينية اليومية؟… لم تتوقّف عند خططها العسكرية المباشرة الرامية إلى تدمير قطاع غزّة وناسه والمقاومة فيه، لكنّها، واستغلالاً للعجز العالمي المفاجئ، استدعت خططاً قديمةً جديدةً كانت مركونة على رفّ الأهداف الاستراتيجية برسم انتظار اللحظة المواتية، وفي رأسها تدمير الوجود الفلسطيني البشري في فلسطين، والتهجير القسري أو الطوعي، وتدمير أيّ شكل لأيّ كيانية فلسطينية مهما كانت هشّةً وعاجزةً. مجموع هذه الأهداف يعمل في تذرية الشعب الفلسطيني وتحويله من “شعبٍ” إلى “أفرادٍ”، وإلى تجمّعات سكّانية معزولة بعضها عن بعض، مُستنزَفة بالخلاص الفردي، ولا هدفَ وطنيا يجمعها.
الإبادة في غزّة وسكوت العالم عنها، بما فيه تخاذل أقرب المُقرَّبين لفلسطين وللفلسطينيين من أنظمة عربية وإسلامية، أغرى (ويُغري) إسرائيل باستثمار اللحظة التاريخية التي قد لا تتكرّر، ونسخ ما قامت به في قطاع غزّة إلى الضفّة الغربية؛ تدمير البشر والوجود الجمعي الفلسطيني، أوجد بيئة طاردة تدفع الى الهجرة الطوعية، وقد تتطوّر الأمور تهجيراً قسرياً فعلياً، جزئياً أو تدريجياً، ونهباً أكثرَ للأرض وتعميقَ الاستيطان، وتغيير الحدود الجغرافية والديموغرافية للضفّة الغربية، وتدمير أيّ شكل للوطنية الجمعية الفلسطينية. تجد إسرائيل في المقاومة المسلّحة الفردية والمجموعاتية الذريعة المطلوبة لتسريع تنفيذ ما تحلم به. صحيح أنّ إسرائيل لم تكن يوماً في حاجة إلى ذرائع لتنفيذ سياساتها التوحّشية والعدوانية والاستيطانية. وصحيح أنّه سواء قاوم الفلسطينيون أو ساوموا سوف تحاول مواصلة تنفيذ ما تريد. ولكن الحال في هذا الوقت، المُتّصف بسعار فاشي يميني إسرائيلي غير مسبوق، أن عدم توفير الذرائع للفلسطينيين يهيئ هامشاً ولو ضئيلاً للعمل السياسي، ولتركيز الدعم الشعبي العالمي لفلسطين، ولتقديم مساحات يمكن أن يشتغل فيها هذا الدعم. هذه الهوامش التي بالإمكان توسيعها يُخشى أن تضيع في غبار الرصاص المقاوم (على بطولته ونظافته) وما يترتّب عليه من حروب واجتياحات إسرائيلية.
ثانياً في التوقيت والوسيلة، وهنا يمكن القول إنّ ما كان بإمكان الضفّة أن تقوم به توقيتاً ووسيلةً قد فاته القطار عملياً. كان من الممكن (وإنْ من غير نتائجَ أكيدةٍ) أن تهبّ الضفّة وتنتفض في أوائل الحرب نصرة لغزّة، الأمر الذي كان سيربك الحسابات الإسرائيلية ويعقّدها، ذلك شريطة أن تكون تلك الهبّة والانتفاضة المُفترَضة شعبيةَ الطابع غير مسلّحة، على غرار الانتفاضة الأولى. لربّما كانت تلك النافذة الزمنية الأكثر أهمّية من ناحية التوقيت، والشكل المقاومي الأكثر فاعلية من ناحية الوسيلة، القادر على إيجاد نمط الإسناد المُؤثّر في معادلة الحرب على غزّة. لكن تلك الفرصة مرّت وأغلقت النافذة المُؤقّتة، ولم يقع الإسناد المرجو من ناحية شكل المقاومة. ما يحدث حالياً من بسالة يقوم بها شباب الخلايا العسكرية لا يُؤثّر في المعادلة الكبيرة، ولا في ميزان القوى، توقيتاً أو أسلوباً، يُقدّم شهداءَ كُثراً، لكنّه يُوفّر ذرائعَ أكثرَ لعدو اكتشف حرّيةً مطلقةً ليقوم بأقصى ما يمكن أن يقوم به من جرائم.
ثالثاً، في المشهد الفلسطيني، والذي ما زال أسير سياق الانقسام الذي يتحكّم فينا سياسةً وقيادةً وفعلاً متشظياً. أسهم هذا السياق في تسهيل جريمة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة وفي إطالة زمنها، ووفّر لإسرائيل مساحاتٍ وفجواتٍ اشتغلت فيها وعملت على توسيعها. لا نستطيع مواجهة إسرائيل في جبهة أخرى، وهذه المرّة في الضفّة الغربية الأضعف عسكرياً من قطاع غزّة بما لا يُقارَن، ونحن مُكبّلون في سياق انقسامي مُدمّر. الوحدة الوطنية والقيادية هي الدرس المرير والسهل، لكن العميق والعصي على التطبيق، الذي علينا جميعاً استيعابه وتشرّبه.
منذ سنوات الاستعمار البريطاني، كان الانقسام الفلسطيني (بين الحسينيين والنشاشيبيين مثلاً) هو الطابور الخامس الذي يخدم العدو. ما ينجزه طرفٌ فلسطيني، حتّى لو كان محدوداً، يدمّره الطرف الآخر في وحل التنافس السياسي الأعمى، والمستفيد في الحالات كلّها هو العدو. شواهد هذا لا تُحصَى في سنوات الانقسام الحديث التي رأيناها منذ 2007. الغريب والمُدهش في مسألة وعي الوحدة أنّ الجميع مُقتنع بها نظرياً، ومركزيتها مُترسّخة في الوجدان الجمعي والقناعة الفردية. هناك ثقافة عميقة وتاريخ وتجربة طويلة تقوم حول إجلال عناد العصي التي تمتنع عن التكسر إذا اجتمعت، لكن عند التطبيق يُصاب الجميع بالشلل، فيطحنهم العدو فُرادَى.
والخلاصة أنّ أيّ مقاومة في الضفّة الغربية لن تحقّق ما تريده، وما نريده، من دون أن تقوم على مربّع الوحدة، وتُقودها بوصلة قيادية متوافق عليها. في أكثر من مقاربة كتابية أو حوارية في السنوات الماضية، جادلتُ بأنّه في ظرف تكون فيه موازين القوى مُنحرَفةً بشكل كبير ضدّنا فإنّ “البقاء مُقاومة”. هذا البقاء هو المُستهدف الآن، وعلينا أن ننطلق من هذا الهدف في كلّ ما يمكن أن نقوم به. المقاومة المسلّحة المُتعجّلة، التي تقودها النيّاتُ الطيّبةُ، والشجاعةُ الفريدةُ، لكن تغيب عنها الاستراتيجية الأوسع، التي تضع “البقاء” والصمود في عين الهدف الذي يقصده العدو.
المصدر: العربي الجديد | خالد الحروب