2024-07-01 06:25 ص

سياسة تخفيف الأحمال.. كيف تحولت مصر من النور إلى الظلام؟

2024-06-17

“وصلنا الحمد لله إن مبقاش فيه تخفيف للأحمال ودا يعتبر إعجاز”، لم يمر شهران على هذا التصريح الذي أدلى به المتحدث باسم وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة، أيمن حمزة، في مايو/أيار عام 2023، حتى عادت الكهرباء للانقطاع في جميع أنحاء مصر مع العودة لخطة “تخفيف الأحمال”.

ورغم بذل الحكومة المصرية قصارى جهدها وحشد أجهزتها الإعلامية ومسؤوليها لتبرير أزمة الكهرباء، فلا يمكنها أن تخفي حقيقة أن انخفاض إنتاج الغاز إلى أدنى مستوى له منذ بدء تشغيل حقل “ظهر” قبل 6 سنوات، قد شهد عودة انقطاع الكهرباء وتضاعفت الأزمة مع مرور الوقت حتى يومنا هذا، فما سبب الانتكاسة؟ وأين يكمن سبب الأزمة؟ وهل فوجئ بها المسؤولون أم أساؤوا تقديرها؟

بداية الأزمة
في عام 2014، واجهت مصر أزمة هي الأسوأ في الطاقة وانقطاع الكهرباء بشكل يومي، ما أدَّى إلى شلل متفاوت في المرافق الحيوية بالقاهرة ومحافظات أخرى، لدرجة أن مترو الأنفاق الذي ينقل ملايين الركاب يوميًا توقف عن العمل للمرة الأولى، ما أصاب العاصمة المصرية التي يعيش فيها أكثر من 20 مليون نسمة بالشلل لساعات متواصلة، واضطرت الشبكة القومية للكهرباء إلى قطع الكهرباء لمدة تصل إلى 22 ساعة كاملة حتى لا تنهار، وعزت ذلك إلى “عطل فني في خط إمدادات غرب القاهرة أثناء عمليات صيانة”.

وتفاقمت حينها أزمة الكهرباء بسبب النقص الحاد في الوقود والحاجة إلى مصادر طاقة بديلة، ونتيجة لذلك، توقف العمل تمامًا في البنوك مع بدء طرح شهادات استثمار قناة السويس أمام المصريين، وامتد تأثير الأزمة إلى قطاعات حيوية مثل المستشفيات ومحطات مياه الشرب وشبكات المحمول والاتصالات والإنترنت والمطارات والمنافذ والمخابز والمصانع، وتعطل بث عدة قنوات تلفزيونية في مدينة الإنتاج الإعلامي، ما أثر على الخدمة الإخبارية، واضطر القائمون عليها إلى استخدام المولدات الكهربائية لعودة البث مرة أخرى.

ومع وصول نسبة العجز في حجم إنتاج الكهرباء إلى مستويات خطيرة تقترب من 35%، وارتفاع حدة الاحتجاجات المنددة بانقطاع الكهرباء، وضعت الحكومة خطة لتجاوز الأزمة، ووعد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بحلها، لكنه – كعادته منذ ذلك الحين – طلب من المواطنين “الصبر” بدعوى أن الأزمة متراكمة منذ سنوات طويلة، وأن حلها “لن يحدث بين يوم وليلة”، وتحتاج إلى أموال ضخمة تصل إلى 12 مليار دولار، ووقت يصل إلى 5 سنوات.

لحل للأزمة، شرعت الحكومة المصرية في تطوير المحطات الموجودة فعليًا، ودخلت في تعاقدات مع شركات عالمية لإنشاء محطات توليد الكهرباء خوفًا من عجز الإنتاج وطمعًا في التحول إلى مركز لتوزيع الطاقة في المنطقة، وتمكَّنت منذ عام 2014 من تدشين أكثر من 48 مشروعًا لإنتاج الكهرباء من المصادر التقليدية، بتكلفة وصلت إلى 275 مليار دولار، وأبرزها 3 محطات عملاقة مع شركات “سيمينز” الألمانية (العاصمة الإدارية الجديدة وبني سويف ومحطة البرلس)، بإجمالي استثمارات بلغ 6 مليارات يورو، وطاقة إجمالية تصل إلى 14.4 ألف ميجاوات.

وفي منتصف عام 2022، بلغ عدد المحطات 69 محطة بإجمالي استثمارات وصلت إلى 355 مليار جنيه منذ 2014، وقدرة إنتاجية 60 ألف ميجاوات، وهو أعلى مما تحتاجه مصر، ما شجع الحكومة على تفعيل منظومة الربط الكهربائي بين القارات مع الأردن والسودان وليبيا، وبحث الربط مع السعودية ودول الخليج.

وبحسب ما ذكرته وسائل الإعلام المحلية، فإن الحكومة نجحت بذلك في إنهاء ظاهرة “انقطاع الكهرباء”، وتحويل عجز القدرات الكهربائية من 6 آلاف ميجاوات في يونيو/حزيران 2014 إلى فائض وصل إلى 13 ألف ميجاوات في يونيو/حزيران 2020.

من فائض الإنتاج إلى العجز
بالعودة قليلًا إلى عام 2018، أعلنت مصر وقف استيراد الغاز المسال من الخارج في سبتمبر/أيلول، بعد سلسلة من اكتشافات حقول الغاز، أكبرها على الإطلاق حقل “ظُهر” البحري العملاق باحتياطات تُقدَّر بنحو 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز، ومساحة تصل إلى 100 كيلومتر مربع، ما دفع مصر إلى تكثيف إنتاجها، والسعى إلى أن تصبح مركزًا إقليميًا لتداول الطاقة في المنطقة من خلال تسييل الغاز وإعادة تصديره.

ومع بدء حقل “ظهر” في الضخ المبدئي للغاز الطبيعي بمعدل 350 مليون قدم مكعبة يوميًا، تضاعف الإنتاج الإجمالي تقريبًا من نحو 3.8 مليار قدم مكعبة يوميًا في عام 2016 إلى 6.6 مليار قدم مكعبة يوميًا في سبتمبر/أيلول 2018، مع توقعات بتحقيق حقل “ظهر” الاكتفاء الذاتي من الغاز بنهاية عام 2018 وفقًا لتصريحات وزير البترول والثروة المعدنية طارق الملا.

وارتفعت صادرات الغاز الطبيعي المصري منذ ذلك الحين تدريجيًا من 1.4 مليون طن في 2018، إلى 3.5 مليون طن في 2019، ما يقدر بنحو 1% من إجمالي صادرات الغاز المسال في السوق العالمية، لتتراجع إلى 1.3 مليون طن في 2020 بسبب جائحة كورونا، ثم عاودت الصعود في عام 2021 لتصل إلى 7 ملايين طن، وحققت أرقامًا قياسية في عام 2022 بصادرات وصلت إلى 8 ملايين طن، بقيمة 8.4 مليار دولار، لكن الوضع تغير مع دخول عام 2023 حين بدأ التراجع في الإنتاج.

بالتزامن مع الإعلان عن الاكتفاء الذاتي من الغاز، وهو الوقود الرئيسي المستخدم لمحطات الكهرباء، وقَّعت مصر اتفاقية لاستيراد الغاز من “إسرائيل” في واحدة من أهم الصفقات منذ توقيع اتفاقية السلام بينهما قبل 45 عامًا، واشترت شركة “دولفين” القابضة الخاصة 85 مليار متر مكعب من الغاز من حقلي ليفياثان وتمار البحريين على مدار 15 عامًا، ووصلت قيمة الصفقة إلى 20 مليار دولار.

وفي عام 2020، شرعت “إسرائيل” بموجب الصفقة في ضخ الغاز الطبيعي إلى مصر بواقع 200 مليون قدم مكعبة يوميًا، على أن ترتفع إلى 4.7 مليار متر مكعب سنويًا بحلول النصف الثاني من 2022، وجرى الترويج لكميات الغاز القادمة من “إسرائيل” على أنها “ليست للدولة، لكن للقطاع الخاص الذي يريد الاستثمار في الغاز، ويمكن إعادة تصديره للخارج”، وفقًا للمتحدث باسم وزارة البترول حمدي عبد العزيز، ومع ذلك، فإن الغاز الإسرائيلي سيُكلف على الأرجح، كما يقول المحللون، أكثر من الغاز المصري بسبب التكاليف الإضافية لاستيراده.

المثير للجدل أن الوقت الذي تم الاتفاق فيه على هذه الصفقة مع تل أبيب لم تكن مصر تعاني من أزمة في الكهرباء أو نقص في إنتاج الغاز في ظل مجموعة من الاكتشافات النفطية مثل حقل ” أتول” وحقل “نورس” وحقول شمال الإسكندرية، بإجمالي احتياطات تصل إلى 8.5 مليار قدم مكعبة، وبدء الإنتاج الفعلي من حقل “ظهر”، الذي يعدّ الأكبر في البحر المتوسط، والذي قال وزير البترول إنه يوفر نحو 2.5 مليار دولار سنويًا من ميزانية الدولة، و2.7 مليار قدم مكعبة يوميًا من الغاز، وهي الكمية التي تُقدَّر بـ40% من الإنتاج اليومي لمصر.

ومع تعاظم آمال الحكومة في التحول إلى مركز إقليمي ودولي للطاقة مع زيادة إنتاجها من الغاز في السنوات الأخيرة، مثَّل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، في فبراير/شباط 2022، نقطة تحول في قطاع الطاقة عالميًا، وأظهر تفاوتًا كبيرًا بين الدول العربية، ففي الوقت الذي استفادت فيه الدول المصدّرة للنفظ والغاز من ارتفاع الأسعار بسبب زيادة الطلب على الغاز في دول أخرى، عانت دول أخرى مثل مصر لاعتمادها على واردات الغذاء والطاقة.

أدَّى انقطاع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا إلى ارتفاع سعره، ما أغرى الحكومة المصرية بالاتجاه إلى تصدير الغاز المنتج لتوفير العملة الأجنبية، وجعلت من ذلك أولوية على حساب المواطن في وقت يعاني فيه الاقتصاد بالفعل من شح الدولار وتراكم الالتزامات الخارجية للدائنين التي وصلت إلى 162.5 مليار دولار في ديسمبر/كانون الأول 2022.

وأظهرت هذه الأزمة نقاط ضعف اقتصادية كبيرة وصلت معها المنتجات البترولية إلى أكبر فئة تستوردها مصر عام 2022، وبلغت نسبتها 14.6% من إجمالي الواردات، بقيمة 16.6 مليار دولار مقابل 11 مليار دولار عام 2021 بارتفاع بلغت نسبته 50%، ما دفع الحكومة المصرية إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي والمصادر الأخرى للاقتراض.

في أغسطس/آب من نفس العام، أعلن رئيس الوزراء عن خطة لترشيد استهلاك الكهرباء هدفها غير المعلن قطع الكهرباء لمدة ساعة إلى ساعتين في كل محافظة لتوفير 15% من الغاز المستخدم، وترشيد استهلاك الغاز الطبيعي والاستفادة من ارتفاع أسعاره عالميًا من خلال تصديره للخارج لمواجهة أزمة شح النقد الأجنبي والحصول على العملة الصعبة، وتوقع أن ذلك سيحقق عوائد تصل إلى 450 مليون دولار شهريًا.

تبع ذلك التوجه إلى قرارات تقشفية حكومية مع تخفيف الأحمال جزئيًا بقطع التيار عن بعض الشوارع والميادين العمومية والمحاور الرئيسية، وخفض الاستهلاك في المباني والمرافق الحكومية والقطاع العام طوال ساعات العمل الرسمية وغلق الإنارة الداخلية والخارجية بعد انتهاء العمل، وإلزام المحلات والمولات بتخفيض الإضاءة.

وبدأت الحكومة في تحويل بعض المحطات للعمل بالمازوت الأرخص سعرًا آنذاك، ومع استقرار أسعار الطاقة، أصبح سعر المازوت أعلى من الغاز الطبيعي، لتبدأ الحكومة العودة لتشغيل المحطات بالغاز الطبيعي لتقليل فاتورة استيراد المازوت في ظل الأزمة الدولارية.

الدولار أهم.. ترشيد على حساب المواطن
في بداية صيف عام 2023، انقلبت خطة الحكومة على حساب حصة المواطن من الكهرباء مع تطبيق المرحلة الثانية من ترشيد الاستهلاك والإعلان عن تطبيق التوقيت الصيفي بعد إلغائه منذ عام 2014، وهو نفس العام الذي أعادت الحكومة فيه هيكلة التعريفة الكهربائية للتخلص من الدعم نهائيًا في غضون 5 سنوات، وهو ما أثار تساؤلات عدة عن أسباب انقطاع الكهرباء رغم إنشاء مشروعات لتوليد الكهرباء بمليارات الدولارات.

في البداية، بررت الحكومة الانقطاع المتكرر للكهرباء بارتفاع درجات الحرارة التي تؤثر على ضغط الغاز وكفاءة المحطات خلال فصل الصيف، وهذا يعني أن هذه الأزمة مؤقتة، ويُفترض أن تنتهي بانتهاء فصل الصيف، لكن مع مرور الوقت تخطت أزمة الكهرباء هذه حدود الصيف، وامتدت لفصل الخريف والربيع والشتاء، ثم عاودت الدخول في الصيف مرة أخرى، ليتكَّشف السبب الحقيقي وهو نقص الغاز.

وفي 27 يوليو/تموز 2023، أعلن رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي بحضور وزيري الكهرباء والبترول، عن خطة الحكومة للتعامل مع نقص الوقود المستخدم في تشغيل محطات الكهرباء، وأنها ستستمر حتى سبتمبر/أيلول من العام نفسه، وتتضمن هذه الخطة إجراءات عدة لتخفيف الاستهلاك منها قطع الكهرباء بحد أقصى ساعتين يوميًا للمباني السكنية فقط مع استثناء المستشفيات والوحدات الصحية والمباني الاستراتيجية، في إشارة غامضة إلى المؤسسات والهيئات والمرافق والمصانع التابعة للجيش، وإقامة مباريات كرة القدم نهارًا رغم انتهاء الموسم.

وتشمل الخطة أيضًا وعدًا باستيراد شحنات إضافية من المازوت بنحو 200 إلى 300 مليون دولار لسد عجز الإنتاج بانتظار انكسار الموجة الحارة، وهو ما يتعارض مع تصريحات سابقة لوزير البترول، طارق الملا، أعرب فيها عن رغبة الحكومة في “تقليل الاعتماد على المازوت في توليد الكهرباء”، لكن الحكومة تمضي في خططها رغم ارتفاع أسعار المازوت وانخفاض كفاءته مقارنة بالغاز الطبيعي، بالإضافة إلى أضراره البيئية وتأثيره على العمر الافتراضي لتوربينات محطات الكهرباء على المدى الطويل.

بعد أيام من إعلان هذه الخطة المثيرة للجدل، نشرت محافظات الجمهورية جداول مواعيد انقطاع الكهرباء استثنت منها المناطق الحيوية والسياحية مثل مرسى مطروح وجنوب سيناء والبحر الأحمر، بدعوى استهلاكها كمية قليلة من الكهرباء.

مع بداية تنفيذ جدول تخفيف الأحمال، تزايدت شكاوى المواطنين الساخطة على وسائل التواصل الاجتماعي مع عدم التزام الحكومة بمواعيد انقطاع الكهرباء المحددة مسبقًا، وتجاوزت الأزمة الموعد الذي حدده رئيس الوزراء للتعامل مع نقص الوقود (سبتمبر/أيلول 2023)، وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلنت منظومة الشكاوى الحكومية أنها تلقت أكثر من 18.5 ألف بلاغ وشكوى يعاني أصحابها من نفس مشكلة انقطاع التيار الكهربائي بعدد من المناطق والأحياء والقرى أو بعض المنشآت أو عدم استقرار التيار الكهربائي.

اضطر ذلك الحكومة إلى تغيير مواعيد تخفيف الأحمال، وعدم قطع الكهرباء ليلًا، خصوصًا مع اقتراب موعد الامتحانات، في حين وقعت الحكومة في فخ التناقضات عندما تحملت عدم انقطاع الكهرباء على مدار أيام الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأوقفت تنفيذ خطة تخفيف الأحمال خلال شهر رمضان، لتعاود العمل بها مع اقتراب فصل الصيف، الأمر الذي أثار جدلًا حول موعد انتهاء الأزمة.

ومع تزايد الشكاوى والضغوط على الحكومة، خرج رئيس الوزراء لينفي علاقة نقص احتياطي الغاز الطبيعي بنضوب حقل “ظهر”، وعدم كفاءة مشروعات الكهرباء العملاقة التي تم إنشاؤها خلال السنوات الماضية، وأرجع الأزمة إلى تزايد الاستهلاك بسبب أجهزة التبريد، وهو ما خلق طلبًا على الوقود لم تكن الحكومة تتحسب له.

مدبولي قال إن الأزمة ستستمر ما لم تنخفض الحرارة عن 35 درجة مئوية، وبرَّر جهود الحكومة بقوله: “إذا كنا زعلانين إن الكهرباء بتقطع 3 ساعات، كان اللي هيحصل إن المتوفر في الكهرباء هو 3 ساعات فقط وباقي اليوم الكهرباء مش متاحة، فمشروعات الكهرباء الكبيرة اللي الدولة عملتها هي اللي مكنتنا النهاردة إننا نبقى واقفين على الأرض الصلبة الموجودين فيها”.

وفي مقابل زيادة قدرات الشبكة القومية للكهرباء بحسب ادعاءات المسؤولين المصريين، انخفض متوسط نصيب الفرد من الكهرباء بدلًا من زيادته، وبلغ متوسط الاستهلاك عام 2020 نحو 2000 كيلووات/ساعة سنويًا، وفقًا لبيان وزارة الكهرباء المصرية، وهذا أقل من المتوسط العالمي البالغ 2730 كيلو وات/ساعة للفرد سنويًا.

بالإضافة إلى ذلك، زادت أسعار الكهرباء 7 مرات خلال 10 سنوات (من 0.145 جنيه عام 2014 إلى 1.25 جنيه عام 2024)، بنسب تتراوح بين 90% إلى 600%، وبمتوسط زيادة سنوية وصلت إلى 76% منذ تولي السيسي السلطة، وكانت نسبة الزيادة الأكبر من نصيب الشرائح الأقل استخدامًا، وهي الشرائح محدودة الدخل.

ومع مرور الوقت، بدأ دعم الكهرباء يتلاشى تدريجيًا في نفقات الموازنة العامة للدولة، وخلال عامين فقط، انخفض بند دعم الكهرباء من نحو 30 مليار جنيه في العام المالي (2017 – 2018) إلى أن توقفت الحكومة بشكل كامل عن دعم الكهرباء خلال الموازنات الثلاثة التالية رغم تصريحات وزير الكهرباء، محمد شاكر، باستمرار دعم الحكومة لأسعار الكهرباء حتى عام 2025.

ومع مرور الوقت، بدأ دعم الكهرباء يتلاشى تدريجيًا في نفقات الموازنة العامة للدولة، وخلال عامين فقط، انخفض بند دعم الكهرباء من نحو 30 مليار جنيه في العام المالي (2017 – 2018) إلى أن توقفت الحكومة بشكل كامل عن دعم الكهرباء خلال الموازنات الثلاثة التالية رغم تصريحات وزير الكهرباء، محمد شاكر، باستمرار دعم الحكومة لأسعار الكهرباء حتى عام 2025.

لماذا تتكرر أزمة الكهرباء؟
رغم إعلان الحكومة التوقف عن تصدير الغاز بشكل كامل خلال شهور الصيف، وتأكيدها على توافره بنفس الكميات، أشار مركز الأبحاث العالمي للطاقة “Ember” إلى انخفاض كميات الغاز الطبيعي، بالتزامن مع انخفضاض إيرادات صادرات النفط والغاز بأكثر من النصف على أساس سنوي في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2023 بعد انخفاض أسعار الغاز الطبيعي في السوق العالمية بنسبة 50%.

وأظهرت البيانات الرسمية الصادرة عن البنك المركزي المصري الاستمرار في تصدير الغاز المسال خلال أشهر الصيف التي تشهد ذروة ارتفاع درجات الحرارة طوال الأعوام الماضية، وتحقيق مصر نحو 2.86 مليار دولار من عوائد تصدير الغاز منذ بداية تصديره في عام 2018، ولم يكن الأمر قاصرًا على العام الماضي فقط، وفقًا لصفحة “صحيح مصر” المعنية بتدقيق تصريحات المسؤولين.

وبسبب عدم التزام وزارة الكهرباء بجداول تخفيف الأحمال، تَلَفت الكثير من الأجهزة الكهربائية التي تشهد ارتفاعًا جنونيًا في الأسعار، كما تزايد عدد ضحايا الحر الشديد وانقطاع الكهرباء المفاجئ، وكان آخرهم العازف محمد علي نصر الذي لقي مصرعه بسبب سقوطه في حفرة المصعد خلال انقطاع التيار الكهربائي بمدينة الإسكندرية، وسبقته 3 حالات على الأقل لمواطنين انقطعت عليهم الكهرباء في أثناء وجودهم بالمصعد.

المثير للجدل أن الحكومة تبحث عن فرص لتصدير الكهرباء لدول أوروبية ضمن مساعيها للتحول إلى مركز إقليمي لتصدير الطاقة، والأكثر إثارة أنها ستبيعها وفقًا لوكالة “بلومبرج” بتكلفة أقل من نظيرتها في السوق المحلي (نحو 40 قرشًا للكيلووات/ساعة في الوقت الذي تبيعها للمواطن بسعر يصل إلى 140 قرشًا للشريحة السادسة) في وقت يرتفع فيه الطلب على الكهرباء، ويشكو مواطنوها من انقطاعها المتواصل ورفع الدعم عن الطاقة وغلاء فواتير الكهرباء.

ووفقًا لوزير البترول الأسبق، أسامة كمال، فإن ارتفاع الطلب المحلي على الكهرباء كان متوقعًا، لكن الأزمة الرئيسية في رأيه هي نقص إمدادات المازوت اللازم لإتمام عمليات تشغيل محطات الكهرباء التقليدية، وهي الأزمة التي ظهرت بشكل كبير مع انتهاء اتفاق وقعته مصر مع السعودية في عام 2017 لمدة 5 سنوات لتزويد مصر بالمازوت مقابل 30 مليار دولار.

وكشف الاتفاق الذي انتهى في أكتوبر/تشرين الأول 2022، عن “صراع” حاد بين وزارتي الكهرباء والبترول بسبب ارتفاع مديونية وزارة الكهرباء لـ”البترول” إلى 160 مليار جنيه بنهاية عام 2023، مقابل نحو 153 مليار جنيه بنهاية الربع الثالث من 2023.

وحتى نهاية أبريل/نيسان الماضي، تجاوزت مستحقات وزارة البترول لدى وزارة الكهرباء الـ200 مليار جنيه، وارتفعت فاتورة الوقود الموردة إلى محطات الكهرباء بنحو 16% خلال الربع الأول من العام الجاري، وتواصل هذه المديونية الارتفاع مع استمرار حصول وزارة الكهرباء على ما قيمته 10 مليارات جنيه شهريًا، يُسدد منها 50%، وتُضاف باقي القيمة إلى المديونيات السابقة، ما اضطر “الشركة القابضة للكهرباء” لاقتراض نحو 51 مليار جنيه من 5 بنوك محلية، لتسديد جزء من مديونيتها لوزارة البترول.

ووفقًا لتصريحات رئيس الوزراء التي أشار فيها إلى أن التوربينات التي تشغل محطات الكهرباء تحتاج كميات أكبر من الوقود للوصول إلى نفس كفاءة العمل مع ارتفاع درجة الحرارة، لذلك فإن رقم المديونية مرشح للارتفاع، خاصة خلال شهور الصيف الحالية والقادمة، مع ارتفاع حجم استخدام الغاز الطبيعي والمازوت اللازمين لتشغيل محطات إنتاج الكهرباء التي لا تزال غالبتها تعمل بالوقود الأحفوري، حيث يمثل الغاز أكثر من 85% من إجمالي الوقود المستخدم داخل المحطات التقليدية.

في حين أن مقرر لجنة الصناعة في لجنة الحوار الوطني، بهاء دمتري، يرى أن سبب أزمة الكهرباء ينحصر في عدم الاستعداد للأزمة قبل حدوثها وتنفيذ مشروعات غير مدروسة أو مخططة علميًا، مع إغفال تطوير شبكة توزيع الكهرباء كما حدث مع محطات الكهرباء.

ويعيدنا حديث دميتري إلى النظر في حجم إنتاج الكهرباء في مصر عام (2020-2021)، وهي الفترة التي سبقت الدخول في ذروة المشروعات التي أنهكت الاقتصاد المصري مع التشكيك في جدواها، وبلغت حينها قدرة مصر الإنتاجية من الكهرباء 58 ألف ميجاوات يوميًا بفائض يمثل 25% تقريبًا من إجمالي الطاقة المولدة، وهو ما دفع مصر 44 مركزًا (من المركز 121 إلى المركز 77) في مؤشر جودة إمدادات الكهرباء بتقرير التنافسية العالمية.

أزمة طاقة أولًا
تنعكس أي أزمة في الوقود – سواء المازوت أو الغاز – بشكل مباشر على الكهرباء، ففي نهاية فبراير/شباط 2023، كان الإنتاج في حقل “ظهر” مستمرًا في الانخفاض للسنة الثانية على التوالي، وتراجع الإنتاج في ذلك العام إلى 14% مقارنة بانخفاض بنسبة 11% في عام 2022 (2.45 مليار قدم مكعبة يوميًا مقارنة بالرقم القياسي لعام 2021 البالغ 2.74 مليار قدم مكعبة يوميًا)، ويُتوقع أن ينخفض بنفس النسبة خلال هذا العام، وهو ما اعتبره المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء نادر سعد “أمرًا عاديًا بالنسبة للحقول مع مرور الوقت”.

ووفقًا لموقع “ميدل إيست إيكونوميك سيرفاي” (MEES) المتخصص في شؤون الطاقة، فإن الحقل سجَّل أكبر انخفاض في الإنتاج منذ اكتشافه عام 2015، خلال الأشهر الـ5 الأخيرة، إذ بلغ نحو 1.9 مليار قدم مكعب يوميًا، مع إيقاف شركة “إيني” الإيطالية المسؤولة عن تشغيل الحقل خطط تطوير الحقل بسبب عدم حصولها على 1.6 مليار دولار مستحقات لها لدى الحكومة المصرية.

تسبب ذلك في تراجع إجمالي إنتاج مصر من الغاز الطبيعي منذ 2022، بالتزامن مع بدء إنتاج حقل “ظهر” في الانخفاض، ليفقد نحو ملياري متر مكعب مقارنة بالربع نفسه من 2023، وتناقص بعدها حتى استقر الإنتاج عند 4.5 مليار متر مكعب في مارس/آذار الماضي، ووصل إلى مستويات ما قبل اكتشافه، مع مواصلة زيادة استهلاك مصر من الغاز في توليد الكهرباء والتدفئة.

هذا التراجع في إنتاج الحقل عزته مؤسسة “فيتش” المتخصصة في الطاقة إلى خروج بعض الآبار عن الخدمة بعد تسرب مياه البحر بسبب تسرع الحكومة في محاولة زيادة الإنتاج عن الحد المسموح به فنيًا رغم معرفتها أن هذا سيؤثر على استدامة تشغيل الحقل.

وبدلاً من أن يستغرق التشغيل الكامل للحقل من 6 إلى 8 سنوات، شرعت شركة “إيني” الإيطالية في بدء الإنتاج من الحقل بعد ضغط الجدول الزمني إلى 28 شهرًا “لتحقيق تطلعات الرئيس السيسي”، وفقًا لتصريحات نقلتها وسائل الإعلام المحلية عن الرئيس التنفيذي للشركة كلاوديو ديسكالزى.

وترسم معدلات الاستنزاف المرتفعة في حقول الغاز بمصر، إلى جانب خط أنابيب المشروع الضعيف، نظرة مستقبلية سلبية لإنتاج الغاز في البلاد على المدى الطويل.

ونفت الحكومة المصرية وجود مشكلات تقنية في الحقل المصري الأكبر، وقالت إنه يعمل بكامل كفاءته، لكنها لم تفسر سبب انخفاض إنتاجه بنحو الثلث من متوسط إنتاج يومي بنحو 3 مليار قدم مكعبة في عام 2020، إلى 2.1 مليار قدم مكعبة عام 2023.

ولم تفسر أيضًا سبب نقص إمدادات الوقود إلى محطات الكهرباء في ظل تأكيد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عدم وجود نقص في الغاز الطبيعي، وأنه لا يُصدر في أشهر الصيف، ويُصدر في بقية فصول السنة.

وبصرف النظر عن السبب الذي يقف وراء تراجع إنتاج حقل “ظُهر”، فإن إحدى الإشكاليات الأخرى المرتبطة بجذور أزمة الكهرباء هي إصرار الحكومة ووزارة الكهرباء على الاعتماد على البترول والغاز، والتباطؤ في تنويع مصادر الطاقة وتعزيز جهود إنتاج الطاقة المتجددة، رغم تأكيد وزير الكهرباء إمكانية توليد الكهرباء من المصادر المتجددة مثل الرياح والشمس.

في عام 2019، وصلت نسبة إنتاج الكهرباء من الغاز الطبيعي 96%، ووصلت في العام التالي إلى 95%، وخلال العام المالي 2021-2022، استهلكت محطات توليد الكهرباء أكثر 34 ألف طن من الوقود يمثل الغاز الطبيعي 78.6% منها بالتزامن مع توسع الحكومة في تصدير الغاز، واستمر الانخفاض في عام 2022، ووصل إلى حوالي 75%، وفي عام 2023 ارتفع الاعتماد على الغاز ووصل إلى 80% بسبب تراجع تصديره بعد انخفاض سعره عالميًا.

ومع اعتماد مصر على الغاز والمازوت في توليد الكهرباء بمتوسط نسبة تتخطى 90%، فإن حصة الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء لا تتعدى 10%، لكن الحكومة تستهدف رفعها إلى 42% (تشمل 14% من طاقة الرياح و21% من الطاقة الشمسية) بحلول عام 2035، وتظهر البيانات الحكومية ارتفاع إجمالي توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة في مصر إلى 25.59 ألف جيجاوات/ساعة خلال عام 2022، مقابل 23.97 ألف جيجاوات/ساعة في 2021.

وكانت الحرب الإسرائيلية على غزة سببًا مباشرًا في العودة إلى سياسة تخفيف الأحمال، فبدلًا من أن تزيد الكمية تدريجيًا، خفَّضت “إسرائيل” تصدير الغاز إلى مصر من 800 مليون قدم مكعبة يوميًا إلى صفر ثم عادت بأرقام ضعيفة وجهتها الحكومة إلى السوق المحلية، خاصة بعد وقف إمدادات الغاز في خط شرق المتوسط الذي يربط بين عسقلان والعريش، ووقف شركة “شيفرون” الأمريكية المشغلة لحقول الغاز الإسرائيلية العمل تمامًا في حقل “تمار” الذي يساهم في 40% من “إسرائيل” للغاز، بسبب قربه من منطقة الحرب، ووجهت استهلاكها من حقل “ليفياثان” للإنتاج المحلي.

أثَّر توقف واردات الغاز التي تستخدم مصر جزءًا منها لتلبية احتياجات السوق المحلي، والجزء الأكبر يتم تسييله في محطتين عاطلتين عن العمل في بلدتي إدكو ودمياط، وهما المرفقان الوحيدان من هذا النوع في شرق البحر المتوسط، تمهيدًا لإعادة تصديره إلى أوروبا والاستفادة من عوائده، ما اضطر الحكومة إلى استيراد الغاز المسال منذ نهاية العام الماضي لسد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك والعودة إلى سياسة تخفيف الأحمال لتغطية احتياجات السوق المحلي.

ويشير الخبراء إلى احتمالية استخدام “إسرائيل” ورقة الغاز للضغط على مصر لتنفيذ مقترحات تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، مثل مخطط تهجير سكان غزة إلى سيناء، خاصة بعد اعتماد مصر الكلي عليها فيما يتعلق بالواردات ضمن صفقة استيراد الغاز الإسرائيلي، التي كان السيسي يفتخر بتوقيعها، بقوله “إحنا جبنا جون (هدف) يا مصريين”، لكنه يبدو أن هذا “الجون” في مرماه.

هل تستمر سياسة تخفيف الأحمال؟
مع اقتراب درجات الحرارة من ذروتها في فصل الصيف الحالي الذي يبدأ رسميًا في 21 يونيو/حزيران الجاري، اتجهت الحكومة قبل أيام قليلة إلى زيادة مدة تخفيف أحمال الكهرباء ساعة إضافية لتصل إلى 3 ساعات بدعوى “إجراءات بعض الصيانة الوقائية في جزء من شبكات الغاز الإقليمية مع زيادة معدلات الاستهلاك المحلي من الكهرباء نتيجة ارتفاع درجات الحرارة”، في حين اعتبرها البعض “هدية” الحكومة الجديدة التي تم تكليف رئيس الوزراء مصطفي مدبولي بتشكيلها، والتي نفَّذت هذا الإجراء بالفعل قبل أن تعلن وزارة الكهرباء العودة لتخفيف الأحمال لمدة ساعتين.

والواقع أن نقص الغاز الطبيعي تسبب في زيادة مدة انقطاع الكهرباء، كما تسبب هذا النقص في توقف إمدادات عدد من شركات الأسمدة الصناعات الكيماوية المصرية عن الإنتاج وغلق مصانعها مؤقتًا.

ومع تراجع إمدادات الغاز الطبيعي المستخدم لتوليد الكهرباء منذ 2017 وارتفاع الطلب على الكهرباء بسبب الزيادة السكانية، خيّر السيسي مؤخرًا المواطنين بين خيارين أحلاهما مر: انقطاعات الكهرباء وارتفاع ثمنها.

ويبدو أن المصريين مجبرون على كلا الخيارين، فمع تعديل خطط تخفيف الأحمال، يترقب المواطنون زيادة مؤجلة عدة مرات في أسعار الكهرباء في مطلع العام المالي الجديد في يوليو/تموز 2024، بنسبة تتراوح بين 20% و40% على الشرائح الأقل استهلاكًا، بدعوى تغطية جزء بسيط من تكلفة استخراج الغاز الطبيعي البالغة 4.25 دولار للوحدة، في حين تبيعه هيئة البترول لوزارة الكهرباء لإنتاج الكهرباء بسعر 3 دولارات للوحدة.

وقد تشمل قائمة السلع المرتقب زيادتها المواد البترولية في إطار خفض الدعم المرتبط ببرنامج قرض من صندوق النقد الدولي البالغ 8 مليارات دولار، وأرجع رئيس الوزراء ذلك إلى تغير سعر الصرف وزيادة تكلفة إنتاج الكهرباء بسبب ارتفاع أسعار الغاز عالميًا.

ورغم امتلاك مصر حجم احتياطات مؤكدة من الغاز الطبيعي تعادل نحو 37.9 ضعف استهلاكها السنوي وفقًا لبعض التقديرات، وتأكيد استمرارها في تصديره مع وصول أسعاره إلى أعلى مستوياتها منذ يناير/كانون الثاني الماضي بسبب موجة الحر، فإن الحكومة تريد التربح من بيعه للمواطن ومحاسبته على هذه الزيادة في الأسعار.

ووفقًا لعضو لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب، محمد بدراوي، فإن ذلك يتم من خلال بيع وزارة البترول الغاز لوزارة الكهرباء بالسعر الذي كانت ستحققه إذا صدرته إلى الخارج بالسعر العالمي.

ومع تفاقم الأزمة، تأبى الحكومة إلا أن تضع العبء الأكبر على المواطن دون أن تتطرق إجراءاتها لحلول مستدامة أو طويلة الأمد رغم التقارير الأممية التي تؤكد استمرار الاحترار العالمي وتفاقمه، ما يعني أن فصول الصيف التالية التي تبرر بها قراراتها ستكون أكثر سخونة، وأن الحكومة بحاجة إلى رؤية أوسع وحلول أعمق لطي صفحة أزمة الطاقة وإنهاء كابوس العجز.

المصدر: نون بوست