المكان: أمام مقر المكتب الإقليمي للأمم المتحدة بالقاهرة
الزمان: الثلاثاء 23 أبريل/نيسان 2024
الحدث: وقفة احتجاجية نظمها عشرات الصحفيين والنشطاء لدعم غزة والسودان، والتنديد بالمجازر التي يتعرض لها الملايين هناك، وانتقاد الدور المحدود للمنظمات الأممية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن أمام ما يتعرض له البلدان، والمطالبة بتشكيل لجان مستقلة للتحقيق في الجرائم المرتكبة ومحاسبة المسؤولين، والضغط لأجل فتح المعابر وإدخال المساعدات وضمان وصولها لكل المحتاجين.
وقبل أن يُنهي المتظاهرون وقفتهم، السلمية الرمزية المحدودة، النسوية في معظمها، إذ بقوات من الأمن المصري تقتحم المكان وتعتقل ما بين 14 إلى 17 شخصًا، معظمهم من النساء، ومن بينهم 5 صحفيين، حيث زجت بهم في سيارات الشرطة واقتادتهم إلى قسم شرطة المعادي بالقاهرة.
وكان من بين المعتقلين المحامية الحقوقية ماهينور المصري، ومديرة برنامج حقوق النساء بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية لبنى درويش وعضو نقابة الصحفيين المصريين إيمان عوف، والناشطات راجية عمران ومي المهدي ورشا العزب وأسماء نعيم ومي المهدي وهدير المهداوي وفريدة الحفني ولينا علي.
الغريب والمثير للجدل أن الاعتقال لم يقتصر على المشاركات في الوقفة فقط، بل شمل من كان موجودًا في المكان، حتى لو كان مارًا بالصدفة، كما حدث مع الصحفي محمد فرج الذي تصادف وجوده هناك في أثناء ذهابه لاصطحاب أطفاله من المدرسة، فضلًا عن السائق الخاص لإحدى الناشطات المشاركات في الوقفة.
ورغم إخلاء سبيل معظم المقبوض عليهم في أثناء الوقفة إما بكفالة مادية وإما إخلاء بضمان محل الإقامة، حسبما كتب عضو مجلس نقابة الصحفيين المصريين، هشام يونس، على صفحته الشخصية على فيس بوك، فإن حالة من الغضب خيمت على الأجواء جراء تلك الخطوة غير المبررة، خاصة أن الوقفة كانت تدين محدودية الدور الأممي ولم تتطرق للنظام المصري لا من قريب أو بعيد، ليبقى السؤال: ماذا تريد السلطات المصرية من مثل تلك الممارسات التي تزيد حالة الاحتقان الشعبي وتضع النظام بأكمله أمام حزمة من التساؤلات الحرجة أمام الشارع؟
غضب بين عموم الصحفيين
خيمت حالة من الغضب على الأسرة الصحفية المصرية جراء حملة الاعتقالات تلك، التي تأتي في وقت توجه فيه أصابع الاتهام للشارع المصري بصفة عامة بالتقصير في حق إخوانه في غزة والسودان رغم ما يتعرضون له من جرائم إبادة مكتملة الأركان.
وقد طالبت لجنة الحريات بنقابة الصحفيين في بيان لها نشره رئيس اللجنة محمود كامل على صفحته الشخصية على فيس بوك بإخلاء سبيل المقبوض عليهم، لافتة إلى أن الوقفة استهدفت رفض التخاذل الأممي تجاه عدوان الكيان الصهيوني على أهل غزة، خاصة الانتهاكات التي تتعرض لها النساء هناك وفي السودان في ظل الصمت الأممي الفاضح، دون أي تجاوزات تتطلب القبض عليهم أو منعهم من ممارسة حقهم الدستوري في التعبير عن الرأي.
وأكدت اللجنة على أن التضامن مع الشعبين، الفلسطيني والسوداني، “لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره جريمة، لأنه الموقف الشعبى المصرى الدائم دعمًا لقضايا الأمة العربية”، مشددة على أن “دعم القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في الحياة، ومقاومة جرائم المحتل، واجب وطني وإنساني في ظل الجرائم الوحشية، التي يرتكبها الكيان الصهيوني، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى”.
وكانت النقابة قد أعلنت عن وقفة تصعيدية على سلالمها في الساعة الخامسة مساء الأربعاء 24 أبريل/نيسان الحاليّ، لدعم المعتقلين والمطالبة بالإفراج عنهم، لكن تم تأجيلها في الساعات الأخيرة لمنح السلطات فرصة لتصحيح هذا الخطأ، وفتح قنوات اتصال بين مجلس النقابة والأمن المصري، وذلك قبل أن يتم إطلاق سراحهم، حسبما ذكر عضو المجلس هشام يونس.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يلقي فيها الأمن المصري القبض على مشاركين في وقفات لدعم غزة من الصحفيين والنشطاء، فقد تكرر هذا الأمر مرتين قبل ذلك، من أمام نقابة الصحفيين وداخل الجامعة الأمريكية بالقاهرة، منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وسط حملات إعلامية ممنهجة يقودها إعلاميون مناصرون للنظام لشيطنة المشاركين في تلك الوقفات واتهامهم بالعمل لصالح أجندات أخرى.
انتقادات حقوقية.. وصمة عار
اعتبر حقوقيون ومنظمات معنية بالحريات أن اعتقال أشخاص بسبب وقفات سلمية لدعم غزة أو السودان هو وصمة عار في جبين الدولة المصرية، وسقطة أخلاقية لا تُغتفر، فضلًا عن مخالفة ذلك للمواثيق الدولية التي تعزز حرية التعبير عن الرأي وتجرم ممارسات تضييق الخناق على النشطاء وأصحاب المواقف والآراء السياسية.
كما أصدرت العديد من منظمات المجتمع المدني المعنية بالحقوق بيانات منفصلة نددت فيها بتلك الخطوة المشينة وطالبت بالإفراج الفوري وغير المشروط عن المعتقلين، على رأسها: المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والتي اعتقلت إحدى باحثاتها (لبنى درويش)، مركز النديم لحقوق الإنسان والقانون، الائتلاف المدني لحقوق الإنسان، حزب العيش والكرامة، رابطة أسر المعتقلين، والحركة النسوية المصرية، هذا بخلاف منظمتي “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” اللتين عبرتا عن قلقهما من استمرار السلطات المصرية في استهداف الناشطات السلميات، وترهيب المدافعين عن حقوق الإنسان، وطالبتا بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
أما التيار الناصري المصري فنشر بيان على صفحة زعيمه المرشح الرئاسي الأسبق، حمدين صباحي، على منصة “إكس”، ندد فيه بالقبض على مناصري غزة، منوهًا أن “تكرار التعرض بالقبض علي المواطنين المصريين لمجرد تعبيرهم عن رأيهم وموقفهم تجاه الجرائم الوحشية والإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني “العصابات الصهيونية” لا يساعد أي موقف حتي ولو إنساني يقدم عليه النظام وإنما يزيده ضعفًا بسبب الممارسات القمعية للمنددين بالممارسات الصهيونية”، مطالبًا بالتوقف الفوري عن هذا السلوك الأمني “المرفوض والمدان ضد مواطنين يمارسون حقهم الدستوري بسلميّة مطلقة”.
استهداف مناصر غزة.. ماذا يريد النظام المصري؟
رغم تواضع الاحتجاجات المصرية لدعم غزة، مقارنة بما كان عليه الشارع المصري في السابق، حين كان يقود الحراك الشعبي العربي لنصرة القضية الفلسطينية على مدار عقود، وما يؤمل منه، فإن هذا التواضع يثير قلق السلطات المصرية، ويدفعها نحو استهداف تلك الوقفات السلمية، ما يثير الكثير من التساؤلات عن دوافع هذا الاستهداف التي تتمحور في أربعة مسارات رئيسية:
الأول: القلق من التظاهرات في مجملها.. فلدى النظام الحالي فوبيا من التظاهرات والفعاليات الشعبية والتجمعات بصفة عامة، حيث تذكره بما حدث في 25 يناير/كانون الثاني 2011، وعليه فأي تظاهرة حتى لو كانت لدوافع وأسباب بعيدة تمامًا عن أمور سياسية، تُقابل بالقوة والاعتقال والتنكيل.
ويبدو أن ما حدث في 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين سمح النظام بالتظاهرات الشعبية لدعم القضية الفلسطينية والمقاومة، في محاولة لإيصال رسائل ما للخارج، ما زال يشكل هاجسًا لدى السلطات، لا سيما بعد خروج العشرات من المشاركين في تلك الاحتجاجات عن خطوطها المرسومة ودخولهم ميدان التحرير وترديد عبارات مدينة للموقف المصري المتخاذل، ما دفع القوات المتمركزة في محيط الميدان للتدخل وفض التظاهرة بالقوة واعتقال بعض المشاركين فيها.
هذا بخلاف تصاعد الاحتقان الشعبي جراء غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وتدني المستوى المعيشي بفعل التضخم وسياسة الاقتراض والاستدانة وغياب فقه الأولويات، وهو ما أدى بالبلاد إلى واحدة من أشرس أزماتها الاقتصادية في التاريخ، وهي المقومات التي يخشى النظام أن تحول التظاهرات الداعمة لغزة إلى منتقدة للنظام ومهاجمة له، وعليه يأتي التحرك السريع لمنع أي من مثل تلك الفعاليات مهما كانت دوافعها.
الثاني: تجنب إحراج النظام.. تخشى السلطات من استغلال تلك التظاهرات لتوجيه الانتقاد للموقف المصري المتخاذل إزاء غزة، حيث تعرضت القاهرة لموجات انتقادات عارمة بسبب غلقها لمعبر رفح ومشاركتها في الحصار خاصة بعد تصريحات تل أبيب وواشنطن بشأن تعمد الجانب المصري إبقاء المعبر مغلقًا، وهو ما يتعارض مع الرواية المصرية التي تحمّل الاحتلال مسؤولية الغلق.
وكانت الوقفات السابقة التي شهدتها نقابة الصحفيين قد تعرضت لهذا الأمر، وطالبت السلطات المصرية بفتح المعبر وإدخال المساعدات رغمًا عن الاحتلال، واتخاذ مواقف قوية لنصرة الغزيين، وهو ما وضع النظام في مأزق أخلاقي شعبي، مصريًا وعربيًا، وفي ظل بقاء الموقف الرسمي دون تغيير فإن الانتقادات ذاتها لم تتغير، وهو ما تخشاه السلطات مع كل وقفة أو احتجاج يتم تدشينه.
الثالث: رسائل طمأنة لحلفاء السيسي الأمريكان والأوروبيين.. حيث يحاول النظام إيصال رسالة لحلفاء النظام الغربيين بأن الوضع في مصر تحت السيطرة، مقارنة بالمشهد الأردني على سبيل المثال، حيث تضييق الخناق على الشارع وفرض حالة من الكبت والصمت القهري، بما يجنب الاحتلال وأعوانه مغبة الضغوط الشعبية ويعرض مصالحها وأهدافها للخطر.
الرابع: رسالة للمعارضين في الداخل.. فالنظام بهذا الاستهداف القاسي ينقل للمعارضة في الداخل رسالة تهديد وترهيب واضحة، مفادها أن أي خروج عن النص المرسوم سلطويًا فإن الاعتقال والتنكيل سيكون رد الفعل الوحيد، وأن أي حراك أو فاعلية لا بد أن يتم بموافقة النظام وتحت مباركته وبما يخدم أهدافه، مرسخًا لفكرة قتل الحريات وانتفاء وجودها داخل مصر وملاحقة كل من يحاول استخدام حقه الدستوري في التعبير عن رأيه بحرية.
وهكذا يُصر نظام السيسي يومًا تلو الآخر، بممارساته وإجراءاته ومواقفه، ومقارباته مع الاحتلال وحلفائه، على ترسيخ اتهامات الخذلان والانبطاح التي تلاحقه منذ بداية حرب غزة، وتحويلها إلى حقائق دامغة ما عادت تقبل الشك أو التشكيك.