2024-11-24 10:00 م

فاضحة ازدواجية المشاركين-غزة تُسقط ورقة التوت عن “كوب 28”

بينما كان العشرات من اطفال ونساء غزة يتساقطون جراء القصف الإجرامي الإسرائيلي على ضواحي ومخيمات غزة، وأضعافهم تحت الأنقاض، عقب انتهاء الهدنة المؤقتة وإصرار الاحتلال على مواصلة حرب الإبادة التي يشنها ضد الفلسطينيين، كان زعماء وقادة وممثلو حكومات وهيئات قرابة 200 دولة يلتقطون الصور في دبي إيذانًا بانطلاق فعاليات النسخة الـ 28 من القمة السنوية لمؤتمر الأطراف المعروفة باسم “كوب 28” والتي مقرر لها أن تستمر خلال الفترة من 1- 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري.

العالم الذي انتفض لحماية الأرض من الوقود الأحفوري وتقليل الانبعاثات الكربونية، من أجل إنقاذ الكائنات البحرية والطحالب في المستنقعات، والحيوانات البرية في الصحاري مترامية الأطراف، والمحاصيل في الأراض الزراعية، ويبذل قصارى جهده لوقف الثقوب داخل طبقة الأوزون، يقف عاجزًا متخاذلا أمام مشاهد الموت المستمرة في غزة.

وفي الوقت الذي يؤرق الضمير العالمي انبعاث هنا أو زيادة نصف درجة حرارة هناك، لم يحرك ساكنًا أمام سقوط 6150 طفلًا و4000 امرأة و207 من الطواقم الطبية وقرابة 72 صحفيًا، وما يزيد عن 37 ألف جريحًا، و6500 شخصًا تحت الأنقاض، أثر 1400 مجزرة ارتكبها المحتل الإسرائيلي وأودت بحياة أكثر من 15 ألف شهيدًا منذ 8/10/2023 حتى 1/12/2023، في مشهد يعكس مستوى متدني من الازدواجية الفجة غير المسبوقة، وإسقاط كلي وجزئي لكافة الشعارات التي تشدق بها الجميع حول الإنسانية والعدالة واحترام القانون الدولي.

قمة استثنائية.. لكن من نوع آخر
يصف البعض هذه النسخة من قمة “كوب 28” بأنها استثنائية، استنادًا إلى كونها تأت وسط ظروف مناخية قاسية، تغيرات متلاحقة في شتى بقاع الأرض، أسفرت عن كوارث كان لها أثرها السلبي على خارطتي البيئة والاقتصاد، كما أنها وضعت حياة آلاف الأشخاص على المحك.

ويرى أنصار هذا الرأي أن تلك الاستثنائية تمثل امتدادًا لما كان عليه الوضع في القمة السابقة التي احتضنتها مدينة شرم الشيخ المصرية، حيث الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الكارثية على المنظومة العالمية، وهو التأثير الممتد حتى اليوم والذي يلقي بظلاله القاتمة على قمة دبي الحالية.

لكن وبعيدًا عن تفسير معنى الاستثنائية لدى هذا الفريق، فإن “كوب 28” تتزامن وظرف إنساني استثنائي من نوع أخر، حيث شعب يُباد عن آخره، بدعم من قوى كبرى تُصدر نفسها على أنها حامية حمى العالم، حقوقيًا وإنسانيًا وتاريخيًا وسياسيًا، لكنها تشارك عن عمد وباستراتيجية ممنهجة في إبادة أكثر من مليوني مواطن لا جريمة لهم سوى أنهم رفضوا الخروج من بيوتهم ومغادرة وطنهم، فما كان لهم من مصير سوى مسحهم من الحياة لأجل محتل غاشم مدجج بالغطرسة الغربية العسكرية والسياسية.

ومن هنا يكتسب مؤتمر دبي تلك الاستثنائية التي تضعه، مستضيف وحضور ومشاركين، في مأزق حقيقي، مأزق الازدواجية والكيل بمكيالين، نظرة إنسانية حانية للكائنات البحرية والبرية في العالم في مقابل نظرة قسوة وانتقام وتجاهل لمصير شعب يحاول الكيان المحتل كتابة شهادة وفاته على مرأى ومسمع من العالم الذي لم تؤرق مضاجعه تلك المشاهد التي تزلزل العقول وتخلع القلوب من أقفاصها.

غزة تفرض نفسها
رغم محاولات النأي بما يدور في غزة عن فعاليات “كوب 28″، إذ أن الدولة الضيف هي عرابة التطبيع في المنطقة، وأحد أبرز المقربين من حكومة الكابينت التي تقود الحرب حاليًا، والتي سعت إلى التحايل على تلك الجريمة بتحديد جدول أعمال مركز حول قضايا بعينها، ليس من بينها الوضع في القطاع، إلا أن حرب الإبادة التي تُشن على مسافة 2140 كم من مقر انعقاد القمة ألقت بظلالها على المشهد، على خلاف ما كان يريده البعض ويخطط له.

البداية كانت مع دقيقة الحداد التي دعا إليها وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال كلمته لتسليم رئاسة المؤتمر إلى دبي، حيث طالب الحضور بالوقوف دقيقة صمت حدادًا على أرواح المدنيين في غزة، ثم جاءت كلمة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني لتضع غزة في قلب “كوب 28”.

العاهل الأردني استهل كلمته بأنه “لا يمكننا التحدث عن تغير المناخ بمعزل عن المآسي الإنسانية المحيطة بنا”، مضيفًا “في غزة، نزح أكثر من 1.7 مليون فلسطيني من منازلهم. وأصيب أو قُتل عشرات الآلاف في منطقة تقع في الخطوط الأمامية لتغير المناخ”، ومؤكدًا على أن “أن الدمار الهائل الذي خلفته الحرب يجعل التهديدات البيئية المتمثلة في ندرة المياه وانعدام الأمن الغذائي أكثر خطورة”.

كما حضرت غزة – ولو على استحياء-  في كلمات العديد من الزعماء والقادة المشاركين، فيما غابت عن بعضهم كالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي،  حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “يستحيل عدم التطرق إلى الأزمة الإنسانية التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المجاورة لنا نتيجة العدوان الإسرائيلي الذي لا يمكن تبريره تحت أي ظرف من الظروف” معتبرًا ذلك “جريمة إنسانية وجريمة حرب”، فيما شدد الرئيس العراقي عبد اللطيف على ضرورة إدانة الهجمات، داعيا المجتمع الدولي إلى “الوقوف بحزم” في وجهها.

وفي السياق ذاته وصف رئيسا كولومبيا وكوبا هذه الحرب بأنها “إبادة جماعية”، أما  رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامابوزا فقال إن بلاده “روعتها المأساة الجارية في غزة” واصفا الحرب ضد الأبرياء في  فلسطين بأنها “جريمة حرب يجب أن تتوقف”، فيما علق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على ما يدور في القطاع خلال كلمته قائلا “كما نرى في هذه المنطقة، تسبب النزاعات معاناة هائلة وتؤجج المشاعر. لقد سمعنا للتو أنباء عن تجدد دوي القنابل في غزة”.

وتُحدث إرباكًا بالقمة
الملف الغزي أحدث إرباكًا كبيرًا بالقمة التي كانت تعول عليها أبو ظبي لتحقيق حزم من الأهداف الاقتصادية والسياسية التي سعت من خلالها لتجميل صورتها التي تعرضت لتشويه كثير خلال الآونة الأخيرة بسبب سياساتها المثيرة للجدل في المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، وتعزيز حضورها الإقليمي والدولي المتقزم مؤخرًا.

إذ أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة غياب بعض الأسماء والشخصيات عن الحضور والمشاركة في تلك القمة بمعزل عما يحدث في غزة، على رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في ظل رغبة كل منهما في تجنب الكثير من الأسئلة الحرجة بشأن الوضع في القطاع، إذ يحملهما البعض جزءً من المسئولية في تفاقم المأساة، إما إشعالا لها كما هو الحال على المستوى الأمريكي الذي تسببت سياساتها في إفساد المناخ السياسي عالميًا، أو خذلانًا للفلسطينيين كما على المستوى العربي برمته، كما غاب عن الحضور رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن الذي ألغى مشاركته قبل يوم واحد فقط من انعقاد القمة.

ظلال غزة المخيمة على القمة لم تتوقف عند حاجز ما قبل انطلاقها ودفع بعض القادة لعدم الحضور، بل كانت حاضرة حتى بعد انطلاق بدايتها، حيث تغيّب أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، عن قائمة المتحدثين النهائية بعدما كان اسمه مدرجًا فيها، رغم حضوره الجلسة الافتتاحية، فيما انسحب الوفد الإيراني احتجاجًا على الوجود الإسرائيلي، الذي وصفه رئيس الوفد وزير الطاقة علي أكبر محرابيان بأنه “يتعارض مع أهداف المؤتمر وتوجهاته”.

وكان لهذا الحضور الغزي الذي سحب البساط من تحت أقدام الجميع تأثيره على استمرار رئيس الكيان المحتل إسحاق هرتسوغ، الذي ألغيت كلمته التي كان مقررًا أن يلقيها بنفسه، وذلك بعدما استأنفت قوات الاحتلال عملياتها العسكرية ضد القطاع.

ارتدادات عكسية
خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2022 اتفقت كل من المملكة الأردنية ودولة الاحتلال على تنفيذ ما سمي بـ “مشروع الطاقة البيئية” وهو المشروع المعروف باسم “المياه مقابل الطاقة” حيث يزود المحتل الأردن بالمياه نظير حصوله على الطاقة الشمسية، وكان هذا المشروع مثال على ما أطلقت عليه وقتها السياسات الصديقة للبيئة كخطوة أولى نحو تعميمه في منطقة الشرق الأوسط، وكان مقررًا التوقيع رسميًا على هذا المشروع خلال “كوب 28” في دبي.

لكن جاءت أحداث غزة لتفرض نفسها على المشهد بكل مجالاته، حيث خرج وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في مقابلة تلفزيونية له مع قناة “الجزيرة” معلنًا عدم التوقيع على هذا المشروع، مضيفًا: “هل تتخيلون وزيرًا أردنيًا يجلس بجانب وزير إسرائيلي ليوقع اتفاقية الماء والكهرباء وكل ذلك بينما إسرائيل تواصل قتل الأطفال في غزة؟”.

ومن المتوقع أن تتجاوز تلك الارتدادات العلاقات الثنائية بين الاحتلال والدول العربية إلى خارطة التحالفات العربية الأمريكية برمتها، فالدول التي تربطها علاقات جيدة مع الكيان المحتل قد تجد نفسها في مأزق إذا ما سعت للتقارب المناخي مع الولايات المتحدة بسبب موقفها الأخير من الحرب حسبما ذهب مدير ومؤسس متحف فلسطين للتاريخ الطبيعي ومعهد فلسطين للتنوع الحيوي والاستدامة بجامعة بيت لحم في فلسطين مازن قُمصية.

ويرى قُمصية أن “بعض الدول العربية الحليفة لأميركا والتي اتخذت مواقف أكثر تقاربًا مع إسرائيل خلال الفترة الأخيرة، ستجد نفسها مضطرة أمام شعوبها ألا تتخذ موقفاً أميركياً 100٪ في مفاوضات المناخ، من باب مخالفة أميركا بسبب موقفها في الحرب” متوقعُا أن ينسحب ذلك على التحالف الأمريكي الغربي من أوكرانيا وتايوان، فمن المحتمل أن “تبدأ الدول النامية في الابتعاد عن محور الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لتكوين صداقات مع روسيا والصين، وسيكون من المثير للاهتمام مشاهدة انعكاس ذلك على المفاوضات” بحسب تصريحاته لـ “الجزيرة نت”.

كما أن الضغوط التي من المتوقع أن يمارسها نشطاء المجتمع المدني والبيئة المشاركين في المؤتمر على ضيوفه والمشاركين فيه بشأن تجاهل تأثير الحرب التي يشنها الاحتلال في غزة على البنية التحتية وخدمات المياه والمرافق وموجات النزوح الجماعي للغزيين، من شأنه أن يمثل حرجًا كبيرًا للإمارات، الدولة المستضيفة للقمة، والتي تجمعها علاقات قوية بتل أبيب، ويجهض مساعيها بشأن التوصل إلى اتفاق للعمل الجماعي حول قضايا المناخ المختلفة، حسبما ذهب الزميل الأول في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فريدريك ويري في تحليله المنشور على موقع المؤسسة الإلكتروني بعد عشرة أيام فقط من بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع.

وهكذا فرضت غزة نفسها على فعاليات “كوب 28” رغم محاولات الفصل، لكنه الفرض الذي أحرج الجميع، وكشف عن عوار مبادئ المجتمع الدولي وزيف شعاراته وكذب توجهاته، ووضع الجميع، عرب ومسلمين وغرب وشرق، في مأزق حقيقي أمام ازدواجية وعنصرية وكيل بمكيالين يدفع ثمنه مليوني شخص داخل قطاع غزة.. فإلى متى يظل الضمير العالمي مستترًا؟ وحتى متى يبقى الغطاء العربي جملة لا محل لها من الإعراب؟


المصدر: نون بوست