2024-11-25 08:45 م

كيف حولت أموال شركات السلاح مراكز الفكر الأميركية لصانعة حروب؟

2021-09-23
د. علي دربج – باحث ومحاضر جامعي
لطالما تمتعت المراكز والمؤسسات الفكرية في الولايات المتحدة بسلطة ونفوذ ضاغط على صناعة القرار الأميركي، بحيث إنه لا يمكن الاستهانة بتأثيرها في النقاش حول السياسات الواجب اتباعها خصوصًا على المستويين الخارجي والعسكري.

منذ منتصف القرن العشرين، لعبت المراكز الأكاديمية الأميركية (المصنّفة أولى أميركيًا) والتي تظهر بشكل مستقل، وغالبًا ما يكون لديها مصادر تمويل غامضة، وذات توجه أيديولوجي معينّ، دورًا كبيرًا في تقديم المشورة للكونغرس والوكالات الفيدرالية بشأن أولويات السياسة الرئيسية التي ينبغي تطبيقها والسير بها.

ما يجهله كُثر، أن ما تشهده الميزانيات العسكرية الأميركية، من زيادات هائلة في النفقات الدفاعية والتي تستخدم في صناعة الحروب وتطوير أسلحة استراتيجية جديدة، انما هو نتيجة للجهود الكبيرة التي تبذلها تلك المؤسسات عبر التقارير والنصائح والدراسات والتوصيات التي تقدمها للمشرّعين الأميركيين في مجلسي الشيوخ والنواب الذين يتبنون بدورهم ما يصدر عن هذه المراكز ـ المنغمسة أصلًا بعلاقات مالية تبعية مع المقاولين وشركات الدفاع الأميركية ـ التي تدفع باتجاه اشعال الحروب في غير منطقة من العالم، خصوصًا في الشرق الأوسط وأفغانستان سابقًا، إضافة الى التحريض على تسعير المواجهة القائمة مع  الصين وروسيا حاليًا.

في تشرين الثاني 2018، منحت الحكومة الأميركية عقدًا ضخمًا بقيمة 769 مليون دولار لشركة  “Alion Science and Technology”  “أليون للعلوم والتكنولوجيا”، وهي شركة مقاولات دفاعية، وعدت بأن تذهب الأموال لابتكار حلول استخباراتية وتكنولوجية “متطورة” تدعم “المقاتل” مباشرة.

تضمن عقد أليون العمل في مركز الاستشعار عن بعد، وهو مركز استخبارات لتطوير القدرات الاستخباراتية للجيش الأميركي البرية والبحرية والمحمولة جوا. أظهرت السجلات الفيدرالية أن الكثير من الأعمال ذهبت إلى شركات مقاولات فرعية، مثل “فينتل” “Venntel”، وهي شركة تقوم بجمع بيانات الموقع من الهواتف الذكية، وشركة “Leidos” “ليدوس”،  التكنولوجية، والتي تقدم خدمات لمجموعة متنوعة من أنظمة الأسلحة ووكالات الاستخبارات.

المفاجأة كانت أن جزءًا من الأموال المخصصة للعقد، ذهبت أيضًا إلى مراكز الفكر (الصقور) اليمينية في البلاد، والتي تدعو بشكل روتيني إلى زيادة ميزانيات البنتاغون، واستخدام أكبر للقوة العسكرية الأميركية. وابرزه هذه المؤسسات والمعاهد الفكرية هي: “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، أو” CSIS”، و”منتدى المحيط الهادئ” وهما اثنان من معاهد البحوث المستقلة التي حصلت من شركة “أليون” على حصة من مبلغ 769 مليون دولار، هذا بالاضافة الى مراكز أخرى أقل شهرة وهي: “شبكة الأبحاث الروسية المحدودة”، و”مركز الأبحاث الصينية المتقدمة، ومركز “تحليل السياسة الأوروبية”.

يُعدّ التمويل غير المباشر، الذي يتم توجيهه من خلال عقد يهدف إلى تعزيز قدرة الحكومة القتالية أمرًا غير معتاد، مقارنة مع العديد من منح البنتاغون التي تتدفق إلى المعاهد البحثية. ومع ذلك، هناك العديد من مراكز الفكر البارزة تعتمد على عقود وزارة الحرب المباشرة، وهي علاقة تمثل تضاربًا مماثلًا في المصالح.

أشار جاك بولسون، مؤسس شركة Tech Inquiry “تك انكوايري” وهي “مجموعة مراقبة” رصدت العقد، إلى أن “اختلاط المشاريع بدا وكأنه يطمس الخطوط الفاصلة بين مؤسسات الفكر والرأي ومقاولي الاستخبارات”.

تظهر السجلات الفيدرالية أن شركة Alion، منحت أموالًا لـ CSIS من عقدها الاستخباراتي من ايلول 2020 حتى تموز الماضي 2021. كتب أندرو شوارتز المتحدث باسم مركز الـ CSIS، الذي تلقّى أقل من مليون دولار بقليل من عقد Alion للاستخبارات، في رسالة في البريد إلكتروني لصحيفة “ذي انترسبت” الـميركية أن “التمويل قد استخدم لمساعدة محللي الحكومة الأميركية – بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأفراد العسكريون – على فهم عملية صنع القرار الروسية بشكل أفضل، والتأثيرات المناخية على الأمن في القطب الشمالي، وقضايا الأمن الأفريقي بما في ذلك علاقات الصين العميقة بقطاع الأمن الأفريقي، وتهديدات الأمن الداخلي بما في ذلك الإنترنت”.

هذه المشاريع الخمسة المنفصلة استخدمت جميعها من قبل شركة “أليون” كوسيلة تمويل. لكن شوارتز لم يُجب عندما طلبت منه الصحيفة مشاركة منتجات العمل المحددة المتعلقة بعقد أليون، أو شرح سبب تمويل هذه المشاريع من خلال عقد استخباراتي يهدف إلى تعزيز القدرة على القتال.

ينتج مركز CSIS أبحاثًا مكثفة حول الموضوعات التي ذكرها شوارتز، بما في ذلك المشاريع الأخيرة التي توضح بالتفصيل الحاجة المزعومة للجيش الأميركي للانخراط في القطب الشمالي، ومواجهة نفوذ الصين في إفريقيا.

كثيرًا ما يدلي مسؤولو CSIS بشهاداتهم في الكابيتول هيل، وفي المنتديات العامة حول الحاجة إلى تعزيز جهود الإنفاق العسكري. في مقال نُشر مؤخرًا في صحيفة New York Times حول صراع الكونغرس ومستويات الإنفاق العسكري بعد الانسحاب من أفغانستان، حذر أحد مديري CSIS من أنه “على الرغم من التحول في سياسة الولايات المتحدة، يجب أيضًا عدم تقليص العنصر العسكري للقوة الوطنية”.

في تموز الماضي، استحوذت شركة “هنتنغتون إنغلز للصناعات”، Huntington Ingalls Industries وهي شركة عملاقة لبناء السفن وواحدة من أكبر شركات الدفاع في العالم، على شركة “أليون” التي رفضت التعليق على علاقاتها مع مراكز الفكر أو كيفية استخدام عقد الاستخبارات.

بالمقابل، حصل “منتدى المحيط الهادئ” على حوالي 586.555 دولارًا من عقد شركة “أليون”، بعدما دفع بقوة من أجل زيادة الإنفاق الدفاعي الصاروخي والبحري.  غير ان المنتدى لم يرد على طلب التعليق الذي تقدمت به الصحيفة، كما لم  تُجب وزارة الدفاع على استفسار مماثل.

إن تقاسم العقود التي تركز على الجيش الأميركي، بين مراكز الأبحاث والمقاولين الدفاعيين، يفتح نافذة صغيرة على العالم الأكبر لتمويل وزارة الحرب لأبرز الأصوات في مؤسسة السياسة العسكرية. فغالبًا ما تكون الأوصاف العامة للعقود العسكرية للمراكز البحثية غامضة، وفي بعض الأحيان تكون مبهمة تمامًا.

“معهد هدسون” هو مؤسسة فكرية أخرى متشددة تعتمد بشكل كبير على تمويل البنتاغون. حصل المعهد على عقد بقيمة 356,263 دولار مباشرة من البنتاغون هذا العام لإعداد “تقرير/موجز نهائي” حول الدفاع عن الطائرات. وفي العام الماضي 2020، تلقّى ما يقرب من نصف مليون دولار لإعداد تقارير وورش عمل نيابة عن وزارة الحرب. كما قام المعهد بالضغط مؤخرًا من أجل التطورات الرائدة مثل الطائرات “الشبحية” للتنافس مع الصين، والتركيز بشكل أكبر على قدرات الحرب الإلكترونية.

أكثر من ذلك، تلقّى “مركز الأمن الأمريكي الجديد” – وهو مركز أبحاث قدم القائمين عليه شهادة أمام الكونغرس هذا العام، للضغط من أجل توفير المزيد من التمويل للتكنولوجيا العسكرية المتقدمة في ساحة المعركة، والتركيز بشكل أكبر على الأسلحة التي يمكن استخدامها لمواجهة الصين – ما لا يقل عن 1.1 مليون دولار من تمويل البنتاغون.

وفي هذا الاطار، علقّ شاي كورمان المتحدث باسم “مركز الأمن الأميركي الجديد”، في رسالة بالبريد الإلكتروني على هذا الأمر قائلًا “إن المجموعة تحافظ على استقلالية فكرية كاملة”، مشيرًا إلى “أنها تتلقى تمويلًا حكوميًا على موقعها الإلكتروني”، لكنه لم يرد عندما طلب منه شرح مشاريع المركز الخاصة التي تدعمها وزارة الحرب.

غني عن التعريف، أنه غالبًا ما تعتمد وسائل الإعلام على آراء “مراكز الأبحاث” عند مقاربتها لموضوع ما. وكون مسؤولي مراكز الأبحاث نادرًا ما يسجلون أنفسهم كجماعات ضغط، فإنه ينظر إليهم على أنهم خبراء محايدون سياسيًا يتم توظيفهم للعمل داخل مختلف الإدارات الرئاسية.
وبناء على ذلك، حذّر النقّاد من أن “تدفق الأموال العسكرية قد شوه النقاش العام حول مستويات تمويل البنتاغون والسياسة الأمريكية”.

وفي هذا السياق، قال بن فريمان مدير مبادرة شفافية التأثير الأجنبي في مركز السياسة الدولية، وهو معهد أبحاث لا يقبل التمويل العسكري كما يقول على “أقل تقدير، ينبغي على مراكز الفكر التي تتلقى مبالغ كبيرة من التمويل مباشرة من البنتاغون، أو مقاوليه، أن تظهر ذلك بوضوح تام في منتجاتها المكتوبة وفي ارتباطاتها الكلامية”.

في العام الماضي، استعرض “مركز السياسة الدولية” أفضل 50 مؤسسة فكرية في اميركا. وجد التقرير روابط مكثفة بين البنتاغون والمتعاقدين العسكريين مع أكثر مراكز الفكر نفوذاً، وأوصى بالكشف بشكل أكبر. ويشير التقرير إلى أن “CSIS” تلقت أكثر من 5 ملايين دولار من التمويل الحكومي والمتعاقدين الدفاعيين، من 2014 إلى 2019.

كتب فريمان إن “إخفاء تضارب محتمل في المصالح في شهادة الكونغرس أو في العمل المنشور لمراكز الفكر، يترك للجمهور وصانعي السياسات انطباعًا أنهم يقرأون بحثًا غير متحيز أو يسمعون من خبير موضوعي حقًا، في حين أنهم في الواقع قد يستمعون إلى شخص يتم تمويل عمله من قبل منظمة ذات مصلحة مالية هائلة في موضوع هذا البحث”.

عمليًا، لم يقدم سوى عدد قليل من مؤسسات الفكر والرأي التي تركز على السياسة الخارجية الأميركية الرئيسية، والجيش شفافية كاملة أو رفضت الدعم العسكري. أصدرت “منظمة هيومن رايتس ووتش”، على وجه الخصوص، بيانًا مفاده “انها لا تأخذ أموالًا من الحكومات لأننا نبلغ عنها ويمكن لذلك أن يخلق شبهة للتحيز أو أن استقلالنا قد تم اختراقه. وعلى نفس المنوال، نعمل على حظر الألغام الأرضية والذخائر العنقودية والروبوتات القاتلة، لذلك لا نرغب في الحصول على أموال من الشركات التي تصنع هذه الأنواع من الأسلحة”.

في الآونة الأخيرة، ومع تفاقم ظاهرة التمويل لمراكز الفكر، أصبح هناك ضغط متزايد على مؤسسات الفكر والرأي لبذل المزيد من الجهد لقطع العلاقات مع الممولين الأجانب، وتوفير قدر أكبر من الشفافية المتمثلة بالإفصاح عن مصادر دخلها، وتحديد المجالات المحتملة لتضارب المصالح بشكل استباقي.


المصدر/ العهد الاخباري