تبدو أجندة الملك الأردني، عبد الله الثاني، شديدة الازدحام، منذ زيارته لواشنطن في تموز الماضي، وصولاً إلى لقاءاته المتتابعة في موسكو وبغداد، وأخيراً في القاهرة. فبعدما تنفّس مكتب الملك الصعداء في ظلّ تخفيف القيود التي فرضها «كوفيد-19» محلياً وعالمياً، ومع رحيل «الكابوس» المتمثّل في إدارة دونالد ترامب، تجد عمّان الفرصة مناسبة للترويج لنفسها سياسياً واقتصادياً، عبر ملفَّين رئيسين: هما فلسطين وسوريا، فيما يبدو لبنان أيضاً «صيداً ثميناً»، ربّما يعود الاشتغال على خطّه بفوائد غير سهلة على المملكة
عمّان | متأبّطاً ملفّات بلاده الخارجية، يستميت عبد الله الثاني في محاولته إعادة عمّان إلى المشهد الإقليمي، كلاعب رئيس وليس كموظف تنفيذي كما كان الحال منذ عام 2011. وبعيداً عن الوضع الداخلي والمؤشّرات الاقتصادية المقلقة في شأن نسب الفقر والبطالة وغيرهما، يبدو الملك أكثر اهتماماً بتثبيت وضع الأردن إزاء الحلفاء والأصدقاء والأعداء على السواء، مراهناً على إمكانية تحسين الوضع الداخلي عبر القناة الخارجية، بالنظر إلى أن الفرص داخلياً تبدو محدودة جدّاً. بدأ التحضير لما تَقدّم منذ ما قبل دخول الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى البيت الأبيض، وذلك من بوّابة الملفّ الفلسطيني الذي تَمثّل المقترح الأردني الرئيس فيه في إحياء «عملية السلام»، بشكل يضمن تنفيس أيّ احتقان في الضفة أو في غزة، وإنعاش الاقتصاد الفلسطيني عبر القناة الأردنية. وهذا ما ظهرت بوادره في اللقاء الذي جمع وزير الخارجية أيمن الصفدي، بنظيره الإسرائيلي يائير لابيد، على الجانب الأردني من جسر الملك حسين في تموز الماضي، والذي أفضى إلى رفع سقف الصادرات الأردنية إلى الضفة الغربية من 160 مليون دولار سنوياً إلى حوالى 700 مليون دولار سنوياً، منها 470 مليون دولار للمنتجات المطابقة للمواصفات الفلسطينية، في زيادة ضخمة تقارب 437%، تضع علامات استفهام حول الاهتمام المفاجئ بالصادرات الأردنية إلى الضفة الغربية، ولا سيما مع غياب ممثّل للسلطة الفلسطينية عن الاجتماع، واعتبار أن 67% من هذه الصادرات مطابقة للمواصفات الفلسطينية.
وبعد لقاء الصفدي - لابيد بنحو شهر، اجتمعت وزيرة الصناعة والتجارة والتموين مها علي، مع وزير الاقتصاد الوطني الفلسطيني خالد العسيلي، في عمّان، حيث أطلعت علي، العسيلي، على الترتيبات الجارية بالفعل لرفع الصادرات الأردنية إلى السوق الفلسطيني. على أن عمّان لا تلعب منفردة في الملفّ الفلسطيني، بل تنسّق بشكل مباشر مع رئاسة السلطة والقاهرة، وهذا ما يفسّر اللقاء الثلاثي الذي انقعد أول من أمس في العاصمة المصرية، والذي يأتي في إطار محاولة الحفاظ على التهدئة، وإحداث انتعاش اقتصادي في الضفة عبر الأردن، وفي غزة عبر مصر، ضمن شروط تل أبيب التي تستهدف تقوية علاقتها مع جيرانها المطبّعين من جهة، وإسناد السلطة في الوقت الحالي تجنّباً لأيّ فوضى في مناطق سيطرتها، من جهة أخرى. إذاً، وضع الأردن تصوّراته الخاصة في الملفّ الفلسطيني، وتحرّك تبعاً لها، بعد أن سمع من بايدن ما يؤكد عدم وجود نيّة أميركية لرعاية مفاوضات فلسطينية - إسرائيلية بالشكل المعهود، من دون معارضة المسار الذي قد تتّفق عليه تل أبيب ورام الله، فضلاً عن دعم «حلّ الدولتين» الذي يتمسّك به الأردن لاعتبارات داخلية تقيه خطر الوطن البديل.
وعلى رغم أن الملف الفلسطيني يبدو المسيطر على جدول أعمال الملك عبد الله، إلا أن ما هو أخطر منه، والذي يُعتبر ملفاً أمنياً واقتصادياً، يتمثّل في الجارة سوريا، التي بدا لافتاً تبدّل اللهجة الأردنية تجاهها، عبر الحديث عنها كعضو في «جامعة الدول العربية»، ومخاطبة الدول العربية بضرورة إيجاد حلّ للوضع السوري من منظور عربي، في خطوة تبدو ذات دلالة كبيرة، بعد عقد من الحرب في سوريا، وصمود الدولة هناك، وإعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد، ولو عبر انتخابات اعتبرها الأردن «شكلية». هذا في البعد الأوّل من الملفّ السوري، أمّا البعد الثاني فمتعلّق باستمرار الهدوء على الحدود المشتركة، حفاظاً على المصالح الأردنية والأميركية في شمال الأردن، والمصالح الروسية، وتسكيتاً للتوتّر الإسرائيلي، بما يدرأ مواجهة أكبر في المنطقة تكون شرارتها الجنوب السوري، وذلك ما تتّفق عليه على السواء عمّان وواشنطن وموسكو التي قصدها عبد الله أخيراً بعد التوتر في درعا. والبعد الثالث والأخير يتمثّل في حصول الأردن على استثناء من تبعات قانون «قيصر» من أجل إحياء خطّ التجارة بين عمّان ودمشق، في ما قد يكون اتُّفق عليه بشكل ضمني خلال زيارة الملك لواشنطن، من دون المجاهرة به، وهو ما يفسّر اللقاءات الأردنية السورية على مستوى الوزراء بعد قطيعة طويلة منذ اندلاع الحرب في السوريا. ويركّز الأردن في محادثاته مع الأميركيين على الجانب الاقتصادي، بعد أن جسّ نبض السوريين الذين أبدوا حسن نوايا منذ عرض «المياه مقابل الكهرباء» على الأردن، في نهاية ولاية رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، الأخيرة.
على خطّ موازٍ، ثمّة فرصة ذهبية تراها أطراف عدّة في القبول الأميركي باستثناء الأردن من قانون «قيصر»، وذلك عبر فتح خط جديد على لبنان المتعثّر اقتصادياً، والذي يحتاج إلى تدخّل خارجي «غير فاقع» تبدو المملكة مناسبة لتولّيه، كدولة عربية تتسلّح بقرار عربي، وستُدعم بأموال عربية إن تَحقّق الاختراق للساحة اللبنانية، كما أنها حليف قوي للولايات المتحدة، ولديها «معاهدة سلام» مع إسرائيل وليس مجرّد اتفاق سلام حصل ضمن حرب انتخابية أميركية قابل للتغيير والتعديل وحتى الإلغاء. ويتّكئ الأردن، في ما يعرضه على لبنان، أي الكهرباء حالياً عبر سوريا، على مشروع الربط الثماني السابق، مع ملاحظة أن التجهيزات الفنية موجودة، وما يحتاج إليه الأمر فقط قرار سياسي ودعم اقتصادي بسيط للمضيّ فيه، وبهذا، يجد الأردن زبوناً جديداً لكهربائه بعد العراق والسلطة الفلسطينية والسعودية، من دون أن يغيب عن الذهن أن عمّان تستخدم الغاز الإسرائيلي، الذي يصل من المنطقة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا (ينتهي خط الغاز في منطقة الخناصري الشمالية البعيدة نحو 33 كم عن درعا)، لتوليد الكهرباء. يعلم الملك عبد الله ودائرته القريبة أن هذه المبادرات، سواءً سُمّيَت «الشام الجديد» أو «شرق أوسط جديد»، تحتاج إلى الجغرافيا الأردنية، وهو الآن معنيّ أكثر من أي وقت سابق باستغلال تلك الجغرافيا مقابل دعم حكمه ومن بعده ابنه من جهة، وبإحداث تطوّر في الوضع الاقتصادي الملتبس كي لا تخيّم النهاية اللبنانية الاقتصادية على الداخل الأردني، من جهة أخرى. ولذا، فهو بدأ باللعب بأوراقه المهمّة، ومن بينها ورقة اللاجئين الفلسطينيين التي يتحضّر لاستخدامها في مؤتمر المانحين في السويد، واللاجئين السوريين من خلال إيجاد طريقة لدفع «المجتمع الدولي» إلى الإيفاء بالتزاماته في شأنهم تجاه عمّان.
(الاخبار اللبنانية)