2024-11-22 05:49 م

يحيى المشد.. العالم المصري المسؤول عن مفاعل العراق الذي اغتالته إسرائيل

2021-07-03
في أواخر سبعينات القرن العشرين، التحق العالم المصري يحيى المشد بالمشروع النووي العراقي، وهو متخصص في هندسة المفاعلات النووية، قبل أن يُغتال في ظروف غامضة بالعاصمة الفرنسية باريس يوم 13 يونيو (حزيران) 1980. وعلى الرغم من أن القضية قيدت ضد مجهول حينها، إلا أن الشرطة الفرنسية قد أشارت في تقرير لها إلى تورط منظمة يهودية في اغتيال المشد، فلماذا اغتال الموساد الإسرائيلي عالم الذرة المصري؟ وما علاقة «البرنامج النووي العراقي» بذلك؟

«الموت في ظروف غامضة».. هكذا تخلص الموساد من يحيى المشد
في عام 1980 وصل العالم المصري يحيى المشد إلى فرنسا في مهمة رسمية للتأكد من مواصفات شحنة اليورانيوم الفرنسية، وبعد أن أتم مهمته، وقبل أن يغادر إلى وطنه، دخلت إحدى العاملات بفندق «لو مريديان» إلى غرفته لتجده غارقًا في دمائه وقد تعرض للطعن والضربِ حتى الموت. 

كان الشخص الوحيد الذي رأى المشد في الليلة السابقة «عاهرة فرنسية» – مأجورة – لم يسمح لها المشد بدخول غرفته. أطلقت السيدة على نفسها اسم ماري إكسبريس، ولم تنجُ هي الأخرى إذ لقت مصرعها بعد أسبوعين من الحادث، بعدما صدمتها سيارة سوداء في قضية قيدت هي الأخرى ضد مجهول.

وفقًا لما جاء في حلقة برنامج «سري للغاية» من إنتاج قناة الجزيرة عن اغتيال المشد، فقد أراد الفاعلون أن يظهروا الجريمة وكأنها قتل بدافع الغيرة، ووجدت الشرطة على مناشف دورة المياه أحمر شفاه نسائي، وهو ما ربطوه بوجود عاهرة في الغرفة، وقد استخدم الجناة أداة حادة حتى تبدو الجريمة عادية ولا تثير الشبهات شكًا في تورط أجهزة استخباراتية، وكأن من ارتكبها رجلًا عاديًا وليس أجيرًا، لذا استخدموا أحد مقتنيات الحجرة في قتل عالم الذرة المصري.

كانت هناك بالفعل عاهرة فرنسية تنتظر المشد حتى يعود إلى الفندق، ويظن البعض أن ذلك كان بغرض قتله وفقًا للخطة الأولى، وقد لاحقته السيدة إلى المصعد، ومن ثم إلى غرفته؛ إلا أنه كان رجلًا متدينًا، وهو ما منع تلك الخطة عن الاكتمال، لذا لجأ الجناة إلى الخطة البديلة: ضرب أفضى إلى موت، في قضية قيدت ضد مجهول.

سافر المشد إلى فرنسا بتكليفٍ رسمي برفقة عدد من زملائه العراقيين العاملين بالمشروع النووي العراقي، إذ التحق به في نهاية السبعينات بعدما وقع عقدًا مع هيئة الطاقة الذرية العراقية عام 1979، وبعد واقعة الاغتيال مباشرةً تلقى العاملون في المفاعل النووي العراقي رسائل تهديدات من مجموعة غامضة، تسمى «لجنة حماية الثورة الإسلامية» من المفترض أنها تابعة لإيران، وخلال السبعة أشهر التي تلت موت المشد تعرض عالمان نوويان عراقيان لحوادث تسمم منفصلة، لقيا على أثرها مصرعهما.

لم تكن كل هذه الحوادث والاغتيالات مصادفة، إذ يعتقد معظم الخبراء بحسب صحيفة «ذي أتلانتك» أن الموساد الإسرائيلي كان وراء هذه الحوادث حتى وإن لم يعلن مسؤوليته عنها. إذ كانت إسرائيل هي المستفيد الأول من عدم حصول العراق على مفاعل نووي.

وفقًا للصحيفة لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تلجأ فيها الاستخبارات الإسرائيلية إلى التخريب والاغتيال من أجل ردع دولة أخرى عن امتلاك أسلحة نووية. عن ذلك يؤرخ الكاتب تيرانس هنري في مقالة كتبها لـ«ذي أتلانتك» عام 2005 للجهود السابقة التي بذلتها كل من مصر وإيران القرن الفائت من أجل الحصول على أسلحة نووية، وكلتاهما تعرض للتهديدات الإسرائيلية.

ابن بنها الذي راح ضحية «الحلم النووي» العربي
ولد يحيى المشد في 11 يناير (كانون الثاني) 1932 بمدينة بنها، إلا أنه تعلم في مدارس طنطا، وقضى أغلب حياته في محافظة الإسكندرية، كما حصل على شهادة الهندسة من قسم كهرباء جامعة الإسكندرية عام 1952، وقد أرسلته الحكومة المصرية إلى بريطانيا لاستكمال دراسته بعد أربع سنوات من تخرجه، إلا أن ذلك تزامن مع العدوان الثلاثي على مصر، والأزمة السياسية بين مصر وبريطانيا، وعلى أثر ذلك تحولت بعثته إلى الاتحاد السوفيتي، فمكث هناك ست سنوات عاد بعدها متخصصًا في هندسة المفاعلات النووية.

في أواخر الخمسينات كانت مصر قد أطلقت مشروعًا للصواريخ الباليستية بمساعدة علماء ألمان، كان بعضهم يعمل مع النظام النازي سابقًا، وهو المشروع الذي تفاخر به الرئيس المصري جمال عبد الناصر في عرضٍ عسكري عام 1962، متباهيًا أن بإمكان الصواريخ إصابة أهداف في جنوب لبنان.

كان هذا قبل أن يتعرض العديد من العلماء الألمان إلى حملة تخويف تابعة للموساد الإسرائيلي تحت اسم «عملية داموكليس»؛ إذ قتل أحد العلماء بعد شهرين من العرض العسكري، في حين تعرضت أسر البقية للتهديدات الصريحة. وغادر بعد ذلك الألمان مصر وبرنامجها الصاروخي.

في تلك الأثناء كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد أنشأ هيئة الطاقة الذرية المصرية ضمن خطته لتطوير جهود البحث العلمي في المجال النووي، وبعد عودة المشد من الاتحاد السوفيتي التحق بالهيئة وأصبح مسؤولًا عن قسم الهندسة النووية في جامعة الإسكندرية عام 1968، وبعدها استضافته بغداد لمدة أربع سنوات للتدريس في الجامعة التكنولوجية، وكان يزور في هذه الأثناء هيئة الطاقة الذرية العراقية أيام العطلات.

بعد «نكسة يونيو 1967» جرى تجميد البرنامج النووي المصري حيث توفى بعدها جمال عبد الناصر، وتولى الرئيس محمد أنور السادات سدة الحكم في مصر، لتتوقف جهود البحث العلمي مع صعود تيار الانفتاح التجاري، وحينذاك التحق العالم المصري يحيى المشد بهيئة الطاقة الذرية العراقية للعمل على المشروع العراقي النووي، إذ كان البحث العلمي بالنسبة إليه حلم حياته – بحسب المقربين منه.

أما عن ملابسات اغتيال المشد فيحكي رونين برجمان، وهو محلل عسكري بجريدة يديعوت أحرونوت ومؤلف كتاب «عن اغتيالات الموساد»، أن الأنباء قد وصلت إلى مسامع الاستخبارات الإسرائيلية حينذاك باعتزام الرئيس العراقي صدام حسين متابعة برنامج سري يعمل على تطوير الأسلحة النووية.

كان ذلك أمرًا مؤرقًا بالنسبة إليهم مما استدعى إرسال عملاء الموساد لمطاردة مجموعة جديدة من «علماء الأسلحة»، كان بينهم الخبير النووي يحيى المشد أثناء عمله على البرنامج النووي العراقي لحساب صدام حسين. إذ تلقى عملاء الموساد الأوامر بقتله فور رؤيته، بحسب برجمان.

تصميم المفاعلات النووية جعله هدفًا للاستخبارات الإسرائيلية
كانت المشادة الأولى بين يحيى المشد وإسرائيل خلال إقامته للتدريس في النرويج بين عامي 1964 -1966، إذ لاحظ العالم المصري تحيز الإعلام الغربي تجاه الصهيونية العالمية، وتجاهل حق الفلسطينيين، وهو ما دفعه إلى كتابة كلمة مطولة عن الاحتلال الإسرائيلي ألقاها في إحدى الندوات التي دعا إليها بالنرويج؛ مما لفت أنظار البعض في اللوبي اليهودي، ودفعهم لتتبع نشاطه العلمي.

وفي عام 2012 بثت قناة «ديسكفري» الوثائقية الأمريكية فيلمًا تسجيليًا بعنوان «غارة على المفاعل»، جرى تصويره بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي عن كيف تمكنت إسرائيل من إيقاف صدام حسين عن «تدمير العالم» بحسب روايتهم، وفي الدقيقة 12:23 تناول الفيلم قصة مقتل عالم الذرة المصري يحيى المشد بواسطة الموساد الإسرائيلي.

كان المشد عالمًا بارزًا في مجال تصميم والتحكم في المفاعلات النووية، وكتب شخصيًا أكثر من 80 بحثًا علميًا، كما أشرف على العديد من الأبحاث والرسائل العلمية في مجال الهندسة النووية مما جعله هدفًا للاستخبارات الإسرائيلية، خاصةً بعدما وفرت له العراق كل الإمكانات اللازمة من الأجهزة والإنفاق السخي للعمل على مشروعها النووي، إذ كانت إسرائيل تعمل على النيل من الأشخاص الضالعين في المشروع النووي العراقي مثل العلماء والمهندسين، هذا إلى جانب عرقلة المواد التي كانت في طريقها للمفاعل النووي.

كانت فرنسا قد وقعت اتفاقًا مع صدام حسين على التعاون النووي عام 1975، ووفقًا لوثائقي ديسكفري، اخترق الموساد الإسرائيلي هيئة الطاقة الذرية الفرنسية، وتمكنوا من تحديد هوية العالم المصري، وعملوا على استدراجه إلى فرنسا بحجة التأكد من مواصفات شحنات اليورانيوم التي كانت بصدد إرسالها إلى العراق. 

بوصول عالم الذرة إلى باريس التقى بعض عملاء الموساد مع المشد عارضين عليه المال والجنس وكافة المغريات الممكنة مقابل الإفصاح عن معلومات خاصة بالمفاعل العراقي، ولأنه رفض التعاون معهم اضطروا لقتله، بحسب وثائقي ديسكفري.

وبعد شهرين من اغتياله تمكنت إسرائيل بالتعاون مع إيران من قصف المفاعل النووي العراقي «أوزيراك»، وقد كان صدام حسين معاديًا لإيران حينذاك، بعدما قاد غزوًا لجنوب غرب إيران مؤملًا الاستفادة من فوضى ما بعد الثورة الإسلامية حديثة العهد وقتها، لتبدأ حرب تستمر ثماني سنوات بين البلدين، استغلتها إسرائيل لمصلحتها.

كانت إسرائيل على استعدادٍ لتزويد إيران بالأسلحة والمعلومات في الحرب العراقية – الإيرانية، كونها معركة مفيدة للطرفين، وفي مقال لمجلة «أير إنثوسياست» في 2004 جرى توثيق تلك الغارة الإسرائيلية الغامضة التي عرفت باسم «العملية أوبرا»، وكان سلاح الجو الإيراني هو ما قام بها لتدمير المفاعل «أوزيراك». 

أتت عملية تدمير المفاعل على مرحلتين، الأولى كانت الغارة الإيرانية فجر 30 سبتمبر (أيلول) 1980، لتصبح الغارة الجوية الأولى على المفاعل النووي، بهدفِ منع البلاد من تطوير أسلحة نووية؛ والمباني الثانوية للمفاعل فقط هي التي أصيبت.

أما الضربة الثانية فكانت في السابع من يونيو 1981، إذ انطلقت ثماني طائرات إسرائيلية من طراز «إف 15» من إيلات عبر البحر الأحمر، وحلقت على علو منخفض فوق الأراضي السعودية والعراقية حتى لا يجري رصدها، وعندما تمركزت فوق المفاعل النووي العراقي الرئيس «تموز 1» ألقت عليه قنبلة تزن 900 كيلو جرام؛ مما أدى إلى انهيار المفاعل بالكامل.

بعد وفاة يحيى المشد كانت العلاقات ما بين العراق ومصر قد تأزمت بعدما وقع الرئيس المصري اتفاقية «كامب ديفيد» مع إسرائيل، وهو ما جعل أسرته تعاني بعد وفاته من ضيق الحال، خاصةً بعدما انقطاع المعاش الذي صرفه الرئيس العراقي صدام حسين لأسرة العالم المصري بعد حرب الخليج، ولم يصرف لها سوى معاش صغير من وزارة التضامن الاجتماعي لا يتناسب مع القيمة الكبيرة للعالم الراحل.
(ساسة بوست)