بقلم: اليف صباغ
يتمثّل انتصار المقاومة الفلسطينية، كما نفهمه، بدحر الاحتلال الإسرائيلي وانسحاب "جيشه" وقواه الأمنية كافة من المناطق التي احتلّت في العام 1967 على الأقل، ورحيل المستوطنين، لكونهم جزءاً أساسياً من هذا الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة الحقيقية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967.
ولن نشهد هذا الانتصار للمقاومة الفلسطينية إلا إذا استطعنا الارتقاء بالمقاومة الشعبية على اختلاف أشكالها ومستوياتها وتسمياتها، هبةً أو انتفاضةً أو غير ذلك، إلى الحالة الثورية والثورة الفعلية، بالمفهوم الذي عرفته الشعوب التي ناضلت وتحرَّرت من الاستعمار من حيث الجوهر، مع الاهتمام بالخصوصية الفلسطينية، وخصوصية العصر الذي نعيش فيه.
إن الاستعداد الشّعبي والحيوية النضالية التي يبديها الشعب الفلسطيني، وخصوصاً الشباب، ذكوراً وإناثاً، هو الضمان الأهم لاستمرار المقاومة، ولكنه لا يكفي إن لم يرافقه تخطيط وتوجيه عقلاني وشجاع في الوقت ذاته، بعيداً من النزعات البدائية والسلوكيات العاطفية.
إن الشجاعة مطلوبة وضرورية، على أن يرافقها العقل، والشجاعة لن تؤتي ثمارها الناضجة ما لم يرافقها الانضباط العقلاني، ويوجهها لتحقيق الهدف المحدد، فالانضباط العقلاني الثوري يجعل المناضل سيد نفسه؛ يميز بين السلوك المضرّ والسلوك المفيد الموجّه نحو الهدف.
مثل هذا الانضباط الثوريّ لا يمكن أن يتحقَّق من دون قيادة ثورية ناضجة. وما التحرك الشبابي الشعبي الذي نراه، والاستعداد الفعلي للتضحية، سوى رفض لحالة الإحباط ومن يُروّج له، واستدعاء للقيادة الثورية العقلانية والشجاعة، لتأخذ دورها، فهل من يسمع النداء؟!
أين نحن من الحالة الثوريّة؟
إنَّ حركات التحرّر القوميّ عرفت الحالة الثورية على أنها الحالة التي وصلت فيها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لجماهير الشعب إلى الحضيض، بحيث لم يعد الشعب قادراً ولا راغباً في تحملها (استمرار الاحتلال وممارساته القمعية). وعندما تدرك النخبة الثورية ذلك، تتحرك لقيادة الجماهير المسحوقة، فتحرضها وتجندها ضد المحتل... ويكون المحتل في حالة ارتباك وفقدان التوازن الذاتي.
في مثل هذه الحالة، لا بد من التحرك الجماهيري لحسم المعركة، ويمكن تلخيص الحالة الفلسطينية الراهنة بما يلي:
1. الحالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الحضيض.
2.الشعب الواقع تحت الاحتلال يرفض سلطة الاحتلال، وهو مستعدّ لمواجهتها في الميادين.
3. المحتل لم يعد قادراً على السيطرة والحكم بأدواته وأساليبه القديمة، وهو مضطر إلى أن يستبدل بها مرة استرضاء الشعب، ومرة أخرى قمعه أكثر مما سبق، وهي السياسة المعروفة بـ"العصا والجزرة".
4. المحتلّ يعيش أزمة داخلية وانشقاقات يمكن أن تشير إلى اختلال في توازناته الداخليّة، إذا ما أحسنّا استخدام اللحظة.
5.لا شكّ في أن العوامل الإقليمية والدولية لها تأثيراتها في مسار الثورة. قد تحاول عرقلتها في حال كانت الموازين ضد حرية الشعوب، وقد تدفع بها إلى الأمام في حال كانت الموازين لصالح حرية الشعوب (مثال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي)، ولكن الأساس يبقى هو الأساس، وهو العامل الذاتي، أي الاستعداد الجماهيري للنزول إلى الشارع، واستعداد النخبة الثورية لقيادة الجماهير.
6. في حالتنا الفلسطينية الراهنة، يتوفر المركب الأول من العامل الذاتي، ويغيب المركب الثاني، وهو النخبة الثورية المؤهلة لقيادة الجماهير، والتي تتمتع بالثقة المطلوبة، بل أكثر من ذلك، تقف النخبة السياسية "الحاكمة" في مكان آخر من الشعب، ولا تتمتع بثقته لقيادة النضال، بل تشكل عاملاً معوقاً للتحرك الجماهيري الواسع، وإلى حد ما تشكل أداة للمحتل لترويض الجماهير وإخماد شعلة نضالها. إن لم يكن ذلك صحيحاً قطعاً، فعلى الأقل، تشعر الجماهير بالتخوّف من ذلك، ولهذا الخوف ما يبرره من ممارسات خلال السنوات السابقة.
للوصول إلى الحالة الثورية والانتصار على المحتل في فلسطين، لا بد مراجعة ثلاثة ملفات أساسية، بهدف التغلّب على معوقات تحوّل الحالة النضالية إلى حالة ثورية:
الملف الأول، مراجعة تاريخ المقاومة الفلسطينية، مروراً بهباتها الشعبية وانتفاضاتها وجولاتها الثورية منذ مائة عام ونيّف، فبعض إخفاقاتنا تكمن في تراثنا الثوري الخاص، إذ نكرّر أخطاء سابقة بسبب عدم قيامنا بالمراجعات الضرورية والمتعمّقة لتاريخنا، وعدم الوقوف، بموضوعية وجُرأة ثورية، على نقاط ضعفنا وقوتنا على حد سواء.
الملف الثاني، أن نكون واقعيين، ولكن ليست واقعية الانهزاميين العاجزين، بل واقعية الثوريين الَّذين يدرسون الواقع كما هو من أجل تغييره، لا من أجل التساوق معه. كثيرون يدعون إلى الواقعية وهم يبحثون عن مكان لهم ضمن المخططات المعادية، فالسياسة، في نظري، ليست "فنّ تحقيق الممكن" أبداً، كما يسوّق "الواقعيون"، وإنما هي فنّ تحقيق الهدف، وإن بدا مستحيلاً. وإذا ما قبلنا بسقف منخفض من الأهداف في ظروف قاهرة، فمن الضّروري الحذر، والحذر الشديد، وإلا سنقع أو ندخل في أنفاق لا تسمح لنا باستكمال المسيرة، وهذا ما وقعنا به في أوسلو.
لدراسة الواقع الحاضر وكيفية الخروج منه، علينا أن نجيب على الأسئلة التالية:
1. من الهيئة القيادية الثورية؟ هل هي منظمة التحرير الفلسطينية أم السلطة الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال مباشرة؟ وكيف يمكن تقاسم الوظائف بينهما، بهدف تحرير السلطة من الضغوط التي تمارس عليها؟
2. من هي القوى الفلسطينية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الحاضنة للثورة وصاحبة المصلحة في انتصارها؟ في المقابل، من هي القوى المعوِّقة أو المعادية لها؟ ولماذا؟ وهنا، علينا الاهتمام بدراسة المتغيرات التي حصلت خلال العقدين الماضيين في الضفة والقدس بشكل خاص.
3. هل لعبت أدت اتفاقيات باريس الاقتصادية دوراً إيجابياً أم سلبياً في جعل الاقتصاد الفلسطيني رافعة لمساندة الثورة أو عاملاً معوقاً لها؟
4. أي دور يؤديه صندوق النقد الدولي أو الأوروبي أو البنك الإسلامي في دعم انتصار الثورة الفلسطينية أو الحؤول دونه؟
5. ما دور البنوك المحلية في تطور الاقتصاد الفلسطيني؟ وهل لأصحاب هذه البنوك وإداراتها مصلحة في مهادنة المحتل الإسرائيلي أو أنَّ مصلحتها تتحقَّق بانسحابه من الأرض الفلسطينية؟
6. أدت البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الوطنية دوراً مهماً في انتصارات حركات التحرر القومي، فهل الأمر نفسه كذلك في فلسطين؟ وأين هي؟
7. هل تطوَّرت لدينا برجوازية وطنية خلال عقدين وأكثر من وجود السلطة الفلسطينيَّة؟
8. ما موقف شريحة التجار الفلسطينيين، وأصحاب الوكالات الأجنبية، وأولئك المرتبطين بتسويق الإنتاج الإسرائيلي، من الانتفاضة؟
9. كيف تطوَّر نظام الفساد والإفساد؟ وكيف يؤثر في تطور حركة المقاومة الوطنية؟
10.ما دور شركات العقارات الجديدة التي نمت بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين، في ظلّ السلطة الفلسطينية؟ وما علاقتها بسلطة الاحتلال؟ وما مصلحتها في مساندة الثورة؟
11. من هي القوى السياسيّة الخارجيّة (الأنظمة العربية وغيرها)؟ وما دورها في إضعاف العامل الذاتي للثورة؟
12. كيف نجعل من القوى المعوّقة للثورة قوى مساندة لها؟
13. كيف يؤثر الواقع الدولي والإقليمي في إمكانية الوصول إلى حالة ثورية وانتصار الثورة؟
14. ما المواقف والخطوات المطلوبة لتفادي الضغط الخارجي، بل تحويله إلى عامل مساعد بدلاً من أن يكون عاملاً سلبياً؟
15. ما هو الحال في "دولة" الاحتلال ("إسرائيل") وتوازناتها وصراعاتها الداخلية، وقدرة حكومتها على الاستمرار في الحكم، وكيفية التأثير فيها خلخلة توازناتها، وإضعاف قدرتها على الحكم ومقاومة الثورة؟
16. ما الأدوات التي يستخدمها المحتل لقمع الجماهير أو استرضائهم؟ وهل تحوَّلت أجهزة السلطة الفلسطينية إلى أداة تخدم المحتل؟
17. وهل تحوّلت الاتفاقيات، وخصوصاً اتفاقية باريس الاقتصادية وتوابعها، إلى أداة ضد تطور المقاومة الشعبية إلى ثورة وانتصار؟
18.ما العمل الإعلامي والسياسي المطلوب محلياً وعربياً ودولياً في مرافقة التحرّك الشعبي، للوصول إلى الحالة الثورية المطلوبة؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها، لا بدَّ من دراستها والتعمّق بها والإجابة عليها في خضم الأحداث الجارية. ومن دون ذلك، سنعود إلى حلقة جديدة من الصدام مع المحتل، من دون أن نصل إلى النتيجة المرجوة.
والملفّ الثالث هو ملفّ المفاوضات، فلا بدَّ من التحوّل من مفاوضات عبثية إلى خطوات أحادية الجانب سياسياً وميدانياً على الأرض، مع إبداء الانفتاح على المفاوضات لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، لا من أجل إعادة النظر في هذه القرارات أو إبقائها على الرف.
هذه الخطوات تبدأ بإلغاء اتفاقية باريس والتنسيق الأمني، وتمر بالتشريعات الوطنية، وتنتهي بمجلس الأمن. هكذا، يتحقَّق الدّمج الَّذي عرفته كلّ حركات التحرر في العالم، وهو الدمج بين أشكال النضال كافة ضمن الخصوصية الفلسطينية وخصوصية العصر الَّذي نعيشه.
أهمية القرار الفلسطيني المستقلّ
يشكّل استعادة القرار الفلسطيني المستقل شرطاً أساسياً لتحقيق ما ذكر أعلاه، وشرطاً لتحقيق الانتصار، وعلينا أن نذكر جيداً أن انطلاق الثورة الفلسطينية في العام 1965 كان هدفه عدم السماح بتحنيط قضية فلسطين في سراديب الأنظمة العربية وضمن مصالحها.
منذ زمن طويل، وللأسف الشّديد، أُعيد القرار الفلسطيني إلى الجامعة العجوز، وخصوصاً النظام المصري والأردني والسعودي، مع الالتزام بقراراتها ومبادراتها المستوحاة من جهات معادية لحقوقنا، فهل يؤتمن هؤلاء على حقوقنا ومستقبلنا؟ وهل يجوز لنا أن نعود إلى الجُحر الذي لُدغنا من مرات ومرات؟ إنَّ الشعوب المنتصرة هي الشعوب التي تتعلم من أخطاء الآخرين، فكيف لنا أن ننتصر ونحن لا نتعلَّم، لا من أخطاء الآخرين، ولا حتى من تاريخنا وأخطائنا؟
معوّقات الانتصار في الوقت الراهن
يمكن أن نلخّص معوقات الانتصار بالقول إن هناك 6 معوقات أساسية تضعف العامل الذاتي للثورة، ويجب أن نتغلب عليها في إطار طموحنا للانتصار:
1. غياب القرار الفلسطيني المستقل.
2.اتفاقيات باريس الاقتصادية.
3. التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي.
4. الفساد الداخلي في السلطة والإمعان في إفساد القيادات السياسية والثقافية على حد سواء.
5. غياب برنامج سياسي متفق عليه بين الفصائل، مع التأكيد على برنامج سياسي، وليس إيديولوجياً، لأن أحد أهم أسباب الانقسام الحاصل فلسطينياً هو وضع البرنامج الإيديولوجي الاجتماعي قبل البرنامج السياسي، وقبل إنجاز مرحلة التحرر الوطني من الاحتلال.
6. غياب الثقة بين الجماهير وقياداتها الرسمية، وخصوصاً في رام الله.
ما العمل؟
للتغلّب على ذلك، لا بد من:
1. إعادة تعريف الحركة الوطنية كحركة تحرر وطني، وليست سلطة حاكمة تحت الاحتلال.
2. إعادة تحديد العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها قائدة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، والسلطة الفلسطينية كهيئة فلسطينية إدارية تحت الاحتلال.
3. تحديد أهداف المقاومة الشعبية الراهنة، وربطها بعملية التحرر الوطني والاستقلال، والعودة برعاية وتوجيه من منظمة التحرير الفلسطينية، وليس برعاية السلطة الفلسطينية.
4. إعادة الاعتبار إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وميثاقها الوطني، وإعادة انتخاب هيئاتها، وتمثيلها الجامع لكل أطياف الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده.
5. لا بدّ من أن يتميز النضال الفلسطيني بالطابع التحرري التقدمي، كما كان عليه في ظل الانتفاضة الأولى؛ هذا التميز الذي فقدناه خلال عقدين سابقين وأكثر لصالح الطابع الديني للصراع، كما أرادته "إسرائيل"، معتقدين أن هذا الطابع تحديداً سيجنّد العالم العربي والإسلامي إلى جانبنا، ولكن ما حصل هو أن هذه الأنظمة، بمعظمها وليست كلّها، وبسبب تبعيتها للولايات المتحدة، تحولت إلى عامل ضاغط على القيادة الفلسطينية، وأصبحت "إسرائيل" المحتلة هي المستفيدة من الطابع الديني للصراع، فخسرنا أصدقاءنا التقدميين وقوى التحرر في العالم، ولم نكسب القوى العربية والإسلامية التي أشرنا إليها، بل هي أول من خان قضيتنا.
6.على هذه القاعدة، لا بدَّ من إعادة النظر في علاقتنا مع الأنظمة العربية العميلة لأميركا و"إسرائيل"، وتعزيز العلاقة مع الشعوب العربية ومنظماتها الشعبية التحررية، والانفتاح على المحاور الإقليمية والدولية المناهضة للهيمنة الأميركية والإسرائيلية.
مما تقدَّم، يمكن التعرّف إلى مواطن القوة والضعف للمقاومة الفلسطينية الراهنة، وإمكانية وصولها إلى الحالة الثورية المطلوبة، واستعادة حلفائها الإقليميين والدوليين. وهنا، لا بد من أن نكون صريحين، وأن نمتلك من الشجاعة الثورية ما تحتاجه لقول الحقيقة وممارستها.
قد يتسلَّح البعض بـ"الواقعية" تحت شعار أنّ "السياسة فنّ الممكن" أو "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، وفي جوهر هذه الشعارات دعوة إلى الإحباط والعجز أمام المحتل، ويدعو آخرون إلى النضال المسلّح طريقاً "وحيداً" لتحرير فلسطين، ويحسب أنه يستطيع تحرير فلسطين بالسكين والبندقية فقط، بينما يدعو آخرون، ومنهم الأسير القائد مروان البرغوثي، إلى تبنّي نهج الواقعية الثورية، والتي تعني فهم الواقع بموضوعية تامة، من أجل تغييره - وليس من أجل الركون إليه - إلى العمل الثوري المبني على المعطيات الحقيقية، وليست المتخيلة، وإلى الدمج بين أشكال النضال المتوفرة كافة.
من هنا تأتي ضرورة تحديد أهداف عينية للمقاومة الشعبية الراهنة، على أن يكون إنجاز هذه الأهداف، وإن بدت صغيرة، حلقة واحدة ضمن أهداف استراتيجية أعلى وأرقى وأكثر بعداً؛ الاستراتيجية المتمثلة في الاستقلال والسيادة، الأمر الذي يتطلب احتضاناً شعبياً ورسمياً للمقاومة ضد الاحتلال.
(المصدر: الميادين)