2024-11-22 05:46 م

اشتعال الحرب الباردة في بحر الصين الجنوبي

2020-05-25
جيمس ستافريديس*

قضيت أغلب حياتي المهنية العسكرية مبحراً في مياه المحيط الهادي، ولقد أبحرت مرات عدة عبر مياه بحر الصين الجنوبي المفعمة بالرطوبة الخانقة. وإنّه يحتل مساحة لا بأس بها من المياه، تماثل على نحو تقريبي منطقة بحر الكاريبي ومنطقة خليج المكسيك مجتمعتين. وهناك موارد طبيعية كثيرة من النفط والغاز الطبيعي راقدة في قاع ذلك البحر الكبير. فضلاً عن أنه تمر من خلاله نسبة 40 في المائة من مسارات الشحن الدولي العالمية.
تدفع الصين بمزاعم خاطئة حول أحقيتها في السيادة الوطنية الكاملة على أغلب البحار الإقليمية التي تطل عليها. وفي حين أن العلاقات ما بين الولايات المتحدة والصين تشهد قدراً معتبراً من التوتر والتدهور راهناً بسبب الاتهامات المتبادلة بشأن وباء «كورونا» القاتل وتفشيه والمواقف المختلفة المتخذة في عام الانتخابات، فإنَّ الفرص المحتملة لنشوب صراع في تلك المياه آخذة في ازدياد. وخلال الأسابيع الأخيرة، تواجهت العديد من السفن الحربية الأميركية، بما في ذلك المدمرة «باري» التي كنت آمراً عليها ذات مرة في أوائل التسعينات، مع السفن الحربية الصينية أثناء تسيير الدوريات البحرية في بحر الصين الجنوبي.
وهنا يبرز تساؤل مهم: لماذا تحول هذا المجسم المائي، بحر الصين الجنوبي، إلى نقطة اشتعال محتملة بين البلدين الكبيرين، وما الذي يمكن فعله تحديداً لتفادي وقوع حادثة ما من شأنها أن تفضي إلى تداعيات لا يمكن السيطرة عليها؟
ترجع الأسس التاريخية للمزاعم ومطالبات السيادة المائية الصينية إلى رحلات الأدميرال البحري الصيني تشينغ هي منذ القرن الخامس عشر الميلادي. ولقد كتبت عنه في كتابي الأخير، وهو بعنوان «الإبحار عبر الشمال الحقيقي». وفي كل مرة تسمح فيها الظروف بالالتقاء مع نظرائي من القادة البحريين الصينيين في زيارات الموانئ الاعتيادية أو خلال التمارين البحرية المشتركة، فإنهم دائماً ما يرجعون إلى ذكرى الأدميرال تشينغ هي ويفتخرون به أيما افتخار. وذلك بالطبع لسبب وجيه مفاده أن اكتشافات الأدميرال القديم لمناطق بحر الصين الجنوبي، والمحيط الهندي، والمياه الأفريقية، ثم المياه العربية، كانت أسطورية بحق.
بيد أنه، ورغم ذلك، ليس هناك مرتكز قانوني لدى الصين يسوّغ لها المطالبة بفرض السيادة الوطنية الكاملة على بحر الصين الجنوبي، واعتباره بحيرة صينية خالصة. ولقد رُفضت الحجج الصينية المقدمة في ذلك الشأن من قبل جميع البلدان الأخرى المعنية، والتي تطل سواحلها على مياه ذلك البحر، ومن قبل المحاكم الدولية أيضاً.

وللرد على المزاعم والمطالبات الصينية الواهمة، تُجري الولايات المتحدة ما يُسمى تسيير دوريات حرية الملاحة البحرية في مياه بحر الصين الجنوبي، في محاولة مستمرة من جانبها لإثبات أن مياه هذا البحر هي مياه دولية بالأساس، وتندرج تحت فئة «أعالي البحار» ضمن بنود القانون الدولي.
ومن شأن هذه الدوريات البحرية أن تبعث على المزيد من التوتر. وقبل قرابة عقدين من الزمان، عندما كنت أشغل منصب عميد بحري في قيادة مجموعة من المدمرات الأميركية هناك، كانت العديد من سفن المجموعة الحربية تحت إمرتي وتقوم بتنفيذ العديد من هذه المهام. وكانت الأوامر تتمثل في الإبحار المباشر عبر المياه نفسها، التي تطالب الصين بأحقية السيادة الوطنية عليها، والتي تضم اليوم عدداً من الجزر الصناعية التي شيدتها الحكومة الصينية لأغراض عسكرية واضحة تمثلت في نشر بطاريات الصواريخ، وإقامة مهابط الطائرات، ونشر قطع المدفعية البعيدة المدى، فضلاً عن عدد لا بأس به من القوات المعاونة.
وفي أغلب الأحوال، تطير المقاتلات الصينية، في طلعات استفزازية، فوق المدمرات الأميركية المبحرة في بحر الصين الجنوبي، وتقترب المقاتلات في بعض الأحيان من مقدمة السفن الحربية بمسافة خطيرة تقدر بعشرات الأقدام، أو ترسل البحرية الصينية الفرقاطات أو المدمرات في تحد واضح للقطع البحرية الأميركية. ومن شأن ذلك أن يتضمن قدراً من التهديد على أجهزة الاتصال اللاسلكية في مقصورة قيادة السفن، ووضع سفننا الحربية في مدى رادارات التحكم النيراني الصينية، وتوجيه الصواريخ والمدفعية البحرية صوب الاتجاه العام للقوات الأميركية التي تبحر بعيداً للغاية عن الأمان. ولقد كنت أتشاور مع القباطنة في مجموعة المدمرات التي كانت تحت قيادتي، وكنا نتفق على التزام الثبات، وتفادي المواجهات غير الضرورية، ومواصلة إبلاغي بكل المستجدات، في حين أنني كنت أواصل إبلاغ القيادة العليا بمجريات الموقف ساعة بساعة. كانت تلك المهام البحرية في تلك المنطقة من التجارب المثيرة للفزع بصفة خاصة، ولقد كنت دوماً أتنفس الصعداء أنا وفريق العمل المرافق لي بمجرد انتهاء المهام في كل مرة وخروجنا وسفننا سالمين من هذه المنطقة المخيفة.
لكن خلال تسيير الدوريات البحرية الأخيرة، تواجهت المدمرتان الأميركيتان «باري» و«بانكر هيل» مع السفن الحربية الصينية مجدداً، مع تجنب التصعيد العسكري بكل طاقتهما. ومن شأن تلك المهام أن تواصل تأجيج العلاقات الأميركية الصينية، ومن المرجح لها أن تتزايد وتتكرر خلال العام الحالي. وعلى قدر التوازن الذي بلغته السفن الحربية الأميركية ما بين المواجهة والتحرش من جانب القوارب الحربية الإيرانية في مياه الخليج، فمن شأن المدمرات الأميركية في بحر الصين الجنوبي أن تبلغ القدر نفسه من التوازن وردود الفعل الحصيفة، ولا سيما أن المخاطر هناك هي أكبر وأبلغ من سواها.
ومفتاح التحركات الأميركية على هذا المسار يتمثل في تليين العزيمة الصينية على نحو تدريجي، من دون إحداث شرخ كبير في العلاقات الدولية بطريقة تسفر عن اندلاع حرب باردة جديدة، أو نشوب نزاع مسلح هناك. ومن أفضل السبل الممكنة للقيام بذلك هو جلب المزيد من حلفاء الولايات المتحدة إلى تسيير الدوريات البحرية في تلك المنطقة (بما في ذلك البلدان الشريكة في منظمة حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن أستراليا، واليابان)، مع زيادة المشاركة الثنائية بين الولايات المتحدة وتايوان، لا سيما في مجال التعاون العسكري المشترك، مع الإصرار الأميركي على إجراء التحقيقات الدولية الشاملة في أزمة تفشي فيروس «كورونا» الفتاك أول الأمر في مدينة ووهان الصينية، فضلاً عن بناء العلاقات القوية والراسخة مع البلدان الأخرى المعنية والمطلة سواحلها على مياه بحر الصين الجنوبي.
ومن شأن تدابير المواجهة السالفة الذكر أن تصاحبها مجموعة من العروض المتسقة الرامية إلى كسب التعاون الصيني في مختلف المجالات. ومن شأن ذلك أن يشتمل على تعزيز الاتفاقيات التجارية واتفاقات الرسوم الجمركية التي تمهد الطريق للوصول إلى الأسواق الأميركية لما وراء إجراءات «المرحلة الأولى» التي جرى بشأنها التفاوض قبل فترة وجيزة من انتشار وباء «كورونا»؛ والتعاون الأميركي الصيني المشترك في مجال التجارة عبر القطب الشمالي والمعايير البيئية المرعية في تلك المنطقة، وهو من الأمور التي ترغب فيها الحكومة الصينية بشدة؛ والعمل على إجراء عمليات الإغاثة الإنسانية المشتركة، والعمل كذلك على إنشاء «قواعد السلوك» المعتبرة بين البلدين الكبيرين (على غرار ما حدث بين الولايات المتحدة وروسيا)، واستكشاف آفاق إبرام الاتفاقيات الاستراتيجية والتكتيكية المعنية بالحد من انتشار الأسلحة.
وفي جوهر الأمر، تتعيَّن علينا المواجهة كلما لزم الأمر، كما ينبغي علينا التعاون كلما سنحت الأجواء. وكان خبير السياسة الأميركية هنري كيسنجر قد حذر قبل عدة شهور من أنه يرى الولايات المتحدة والصين تقدمان على مشارف الحرب الباردة الجديدة. وفي حين أنه تعجبني مجازاته السياسية البديعة، فإنه ينبغي علينا أيضاً النظر إلى المنطقة البحرية محل النزاع للوقوف على قدر ما سوف تثيره هذه العلاقات من خلافات في المستقبل؛ إذ إن توقعات الأحوال السياسية في منطقة بحر الصين الجنوبي مفعمة بالتقلبات وعدم الاستقرار المشهود بالفعل.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»

- أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف الناتو 
وعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس