2024-11-22 11:31 م

وباءٌ في بلاد ممزقة: تقرير من فلسطين

2020-04-12
عبد المعطي أبو زيد - فلسطين

يكثّف الوباء صورة الوضع السياسي والاجتماعي في فلسطين. يعرض لنا بوضوح قدرة إسرائيل على إدارة حدثٍ بهذا الحجم، بتخلّصٍ شبه تام من مسؤوليّاتها تجاه الشعب الفلسطيني القابع تحت احتلالها. تتمزّق الخارطة الفلسطينية، ويذهب كل "مجتمع" في سبيله وحلوله وإدارته للأزمة. لكل لاجئٍ فلسطينيّ في العالم نظامٌ مضطِهد، أما داخل فلسطين ففي الضفّة الغربيّة يتبختر طاووس "الدولة"، وفي غزّة تُدير حماس الأزمة بمنطق الحلول الموضعية، وفي أراضي 1948 فالأمر بيد إسرائيل مباشرةً دون وسطاء، لا منسّقين ولا مقاومين. وبينما يفهم العالم أهمية الوحدة وضرورة المظلة الجامعة في مكافحة الأوبئة، يُبقي الاستعمار الإسرائيلي على تمزّق الشعب الفلسطيني وإحكام السيطرة عليه مشرذماً.

يتشارك جميع الفلسطينيّون البؤس الصحي ذاته، بدءاً من العيش في تجمّعات سكنية كثيفة تعاني من ظروف نظافة وصحة متدنية بكل المعايير، إلى نسب مرتفعة من الأمراض المزمنة والسلوكيّات الخطيرة صحياً، إلى الأميّة الصحية، وصولاً إلى أشكال متعددةٍ من تدمير الجهاز الطبي الذي يُفترض به علاجنا. لكنّنا نشترك في أمرٍ آخر: أن إسرائيل تتعامل معنا في ظل هذه الأزمة بمبدأ الحد الأقصى من العزل، دون أي اكتراثٍ لحاجاتنا الإنسانية، ظروفنا الاجتماعية، أوضاعنا الاقتصادية أو حرّياتنا وحقوقنا. العزل الأمني بات البديل الأسهل لمنع "منافسة" الفلسطينيين على الفحص والعلاج الذي يتمتّع به الإسرائيليّون.

أمام هذا، تحاول السلطات أن تقنعنا ألّا علاقة للاستعمار بالأمر. أن "هذا يجري في العالم كلّه" وليس عندنا فقط، متجاهلين أنّ التقييدات المتّخذة هنا سبقت العالم، على الرغم من العدد الضئيل من الحالات. وإنْ تشابهت الإجراءات بالشكل، فإنها لا تتشابه بالتفاصيل، ولا بالأرضية الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي تُطبّق عليها، ولا تتشابه بأفق الخروج من الأزمة أيضاً.

صحيح أنّ هذه التقييدات حفظت حتّى اللحظة حياة المئات وربّما الآلاف (وهذا غاية في الأهميّة). لكن العجلة والتشديد في فرضها يشيران أيضاً إلى إدراك السلطات ووعيها لكارثيّة الأوضاع الصحيّة والطبيّة، ولحقيقة أنّ تفشي مثل هذا الوباء في مكانٍ مثل قرانا ومدننا ومخيّماتنا -بما فيها من كثافةٍ سكنيّة مروّعة وأوضاع نظافةٍ وصحةٍ مزرية وخدمات صحيّة شبه معدومة- من شأنه أن يؤدّي إلى مأساةٍ حقيقيّة من شأنها أن تزعزع الوضع السياسي والاجتماعي القائم والقابل للسيطرة والإدارة.

ينضم إلى هذا كلّه عامل أساسي: اتُّخذت قرارات تقييد الحركة دون أي رؤيةٍ جديّة لكيفيّة حماية لقمة عيش الناس، وبتجاهل تام لطبيعة سوق العمل الفلسطيني الذي ليس فيه ما يحمي العمّال من مستحقات بطالةٍ أو ضمانٍ للدخل، وبانعدام تمثيلٍ حقيقيّ يدافع عن حقوق العمّال. تتوالى القرارات التعسّفيّة، ويقدّم كلّ مؤتمرٍ صحفيّ منّة جديدة للناس، تُخبئ تحتها ألف مجهول ولا تحمل أي ضمانات.

هنا، تستبدل عصا الأمن دور الطبيب والممرّض وجهاز التنفّس والتربية الصحية التي من شأنها أن تثقّف الناس في كيفيّة الوقاية على المدى الطويل. وتُجنّد الصحافة لخدمة العصا، في مهرجان سلطوي ضخم يجتمع فيه انتهاك الحقوق مع نفاق إعلامي للسلطة غير مسبوق في فلسطين.

الضفّة الغربية... استعراض الدولة

حدث في الضفّة ما لم يحدث في العالم كلّه: بعد تسجيل 7 إصابات فقط، محصورة في مدينة بيت لحم، قرّرت السلطة إغلاق المدينة وفرض قوانين الطوارئ بداية شهر آذار/مارس. بموجب "الطوارئ" أغلقت المدارس والجامعات والمحال التجاريّة كالمقاهي والمطاعم، ومُنعت "الإضرابات والتحركات الجماهيرية". أما موظّفي الشركات والبنوك وغيرها من المؤسسات الكُبرى فاستمروا في عملهم. ثم أُقر تمديد حالة الطوارئ مرّةً أخرى بداية نيسان/ابريل دون أي جدلٍ أو نقاشٍ وفي ظل موت المجلس التشريعي. هل كانت هذه القرارات نابعةً من تقييمات عالم الأوبئة الرئيسي لدى وزارة الصحة في السلطة؟ لا وجود لهذا المنصب في فلسطين. هل اتُخذت القرارات بتوصيات لجنة طبيّة مختصة لوزارة الصحة؟ لم نر لجنة كهذه أيضاً، بل أن وزيرة الصحة بذاتها تغيّبت عن المؤتمرات الصحافية التي صدرت منها التعليمات الأساسية للجمهور.

لكنّ ما نعرفه بالتأكيد أن تنسيقاً مكثّفاً يجري بين السلطة وإسرائيل، وأن جميع القرارات التي تتخذها السلطة تخضع لمنظومة التنسيق الأمني الذي رفض طرفاها الادلاء بآليات اتخاذ القرار وطبيعة التأثير الإسرائيلي على قرار السلطة. هل ضغطت إسرائيل لفرض التقييدات على الضفّة قبل أسبوعين من فرضها التقييدات ذاتها على مواطنيها؟ لا نعرف، لكنّ رضاها يبدو واضحاً: حوّلت إسرائيل مبلغ 120 مليون دولار من أموال السلطة المحتجزة لديها، وتفاخرت قيادات الجيش بالتنسيق العالي والتفاهم مع قيادات السلطة على مدار الساعة. حتّى أنّها سمحت لأوّل مرّة بدخول "القوّة 101" من وحدات التدخل السريع في "الأمن الوطني الفلسطيني" إلى كفر عقب (خلف الجدار) في القدس لفض اشتباكٍ مسلّح بين عائلتين (وهو ما تحظره اتفاقية أوسلو وتمنعه إسرائيل قطعاً). وبينما تسمح لقوّات فلسطينية مسلّحة بالعمل في أحياء القدس، تعتقل إسرائيل نشطاء فلسطينيين في المدينة لمجرّد أنهم وزّعوا طروداً غذائية للمحتاجين في ظلّ حظر التجوّل!

تخلّص من المسؤولية اتجاه العمّال

جانب آخر من التنسيق يرتبط بمسألة عمّال الضفّة داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، وعددهم أكثر من 100 ألف عامل يذهبون من الضفّة إلى عملهم في الداخل يومياً. من جهة، لا تُريد السلطة أن يشكّل العمّال خطراً لنقل الفيروس من الداخل إلى الضفّة، ومن جهةٍ أخرى تفضّل إسرائيل استمرار عملهم في قطاع البناء للحفاظ على سير المشاريع فيه، حتّى على حساب المجازفة بحياة العمال وصحتهم. لهذه الاعتبارات اتفقت السلطة مع إسرائيل على اعطاء العمّال مهلة 3 أيّام لتدبّر أمور مبيتهم داخل إسرائيل، وعدم عودتهم إلى الضفّة حتّى انتهاء الأزمة. هل اكترثت السلطة ضمن التفاهم مع إسرائيل على ظروف مبيت هؤلاء العمّال؟ لا، نام أغلبهم في أماكن لا تصلح لسكن الإنسان. هل ضمن التفاهم ألا تُسلب حقوق هذه العمّال في حال قرّروا ترك العمل خوفاً من الوباء؟ لا، هُددوا بالفصل التام من قِبَل أرباب العمل الإسرائيليين، وفقدوا مستحقّاتهم ومنهم من سُرق راتبه الشهريّ. هل ضمنت السلطة أن تعالج إسرائيل العمّال في حال إصابتهم؟ لا. وكانت هذه النقطة التي أوقفت التفاهم بين السلطة وإسرائيل.
بدأت إسرائيل تتعامل مع العمّال الفلسطينيين المشتبهين بنقل الفيروس بمنطق التخلّص منهم. لم تقم بإجراء الفحوصات وبالطبع لم تعالجهم. فالعامل المريض تحمله مركبة عسكرية إسرائيلية وتُلقيه بأحط وأبشع أشكال التنكيل على حاجزٍ عسكري لتتدبّر السلطة أمرها به. عندها، فهمت السلطة أن بقاء العمّال في الداخل لن يُريّحها من تحمّل همّهم. إثر ذلك، صدرت تعليمات من السلطة تطالب العمّال بترك أشغالهم في الداخل والعودة إلى الضفّة والدخول إلى حجرٍ صحيّ تام في بيوتهم مدّة 14 يوماً.
ومن المفهوم ضمناً أن السلطة، قبل أن تصدر تعليماتها للعمال بالعودة، لم تفكّر في كيفيّة تعويضهم وإعالتهم بدلاً من شغلهم الذي فقدوه. لكن الأسوأ من ذلك أن نيران السلطة لم توجّه ضد بشاعة الممارسة الإسرائيلية، قدر ما حوّلت العمّال أعداءً للأمة بين ليلةٍ وضحاها، وتعاملت معهم كمشتبهين فوريين، فلاحقتهم واعتقلت بعضهم وصادرت هويّاتهم لتجبرهم على الالتزام بالحجر، ووصل الأمر بمحافظ إقليم سلفيت بالتهديد باعتقال "جميع ذكور" العائلة التي لا تُبلّغ عن أحد أفرادها إذا خرق الحجر الصحي. هنا أيضاً، سادت ذراع الأمن، ولم يخضع العمّال لأي فحوصات طبيّة للاطمئنان على سلامتهم.

أما عن العمّال داخل الضفة الغربية، فبرزت في هذه الأزمة قوّة القطاع الخاص ورؤوس الأموال الذين توجّه إليهم الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس "لمشاركة الحكومة في مواجهة الخطر، لأن المسؤولية مشتركة والواجب على عاتق الجميع". بعض التبرّعات الدعائيّة الهزيلة وصلت خزينة السلطة من رؤوس الأموال، في مقابلها استفادت الشركات الكبرى من أنّها ظلّت تفتح أبوابها حين أغلقت المدارس والجامعات والمصالح الأصغر كالمقاهي والمطاعم. هذا أولاً. ثم بالاتفاقيّة المعيبة التي توصّل إليها اتحاد نقابات العمّال (والذي لا يمثّل أكثر من 20 بالمئة من العمّال) مع ممثلي القطاع الخاص ووزارة العمل. وتنص الاتفاقيّة على أن تدفع الشركات لعمّالها 50 في المئة فقط من رواتبهم عن شهري آذار/مارس ونيسان/ابريل، وتأجيل النصف الآخر من مستحقّاتهم حتّى الأجل الضبابي المسمّى "انتهاء الأزمة". وهو اتفاقٌ مجحف وغير قانوني فُرض تحت تهديد القطاع الخاص بفصل العمّال والتسبب بموجة بطالة عاتية، وذلك في ظل عدم وجود أي صندوق بطالة أو ضمان دخل لتعويض العمّال في حال فصلهم.

ذراع الأمن بدل الخدمة الطبيّة

في ظل هذا الوضع، ليس أمام السلطة إلا الحلول الأمنية. وقد مارست سلسلة من الانتهاكات السافرة لحقوق الناس، من الحواجز والاقتحامات وتفويض الفتحاويين (بغض النظر إن كانت لديهم أي صفة رسمية) لفرض حظر التجوّل، والانتشار الواسع لمظاهر التسلّح والعسكرة في الشوارع. وإن لم يكن هذا كافياً، فيُمكننا أن نشاهد المسابقة الإعلاميّة المروّعة بين مسؤولين مختلفين ومحافظي الأقاليم في التهديد والوعيد بالاعتقال والعقوبات والتجوّل مع العساكر لفرض الحظر. ولا بد من ذكر موجة الاعتقالات تحت حجّة "مكافحة الشائعات"، حيث اعتقلت المخابرات عدداً ممّن كتبوا أو نشروا تسجيلات تكشف (أو تدعي أنها تكشف) تدهور الحالة الصحيّة إثر انتشار الوباء. هكذا، أطلقت مخابرات السلطة حملة اعتقالات لمواطنين لمجرد الكتابة على "فيسبوك" أو إرسال تسجيل صوتي على "واتساب". وقد أجبرت المخابرات المعتقلين على نشر نفيّ لما ورد منهم سابقاً، وصدرت تسجيلات النفي القسريّة هذه وفي نهايتها، كيف لا، يشكر المعتقلون المخابرات على اعتقالهم!
هذا ما يحدث عند سلطةٍ جرت هيكلتها لا لشيء سوى القمع. وتعرف السلطة أنّ جهازها الصحي منهار أصلاً ولا يتحمّل ولو عدداً بسيطاً من الإصابات. تعرف جهازها الصحي الذي يحتج أطباءه منذ سنوات، وكانوا مؤخراً قد أعلنوا إضراباً وخرج محمود عبّاس واصفاً إضرابهم بالإضراب "الحقير". الحقيقة هنا بسيطة: لا نمتلك الحد الأدنى من قدرة الفحص والعلاج..."دولة فلسطين" من أقل الدول إجراءً لفحوصات انتشار الوباء، ومستشفيات بأكملها ليس فيها جهاز تنفّس واحد. أكثر من 3.5 مليون فلسطينيّ في الضفّة الغربيّة متوفر لهم بين 100 و130 جهاز تنفّس فقط، جزء كبير منهم مستخدمٌ أصلاً، وجزء آخر غير صالح للاستخدام أو يتطلّب صيانة.

غزّة: مأساة تنتظر مأساة

السيناريوهات المطروحة لغزّة مرعبة فعلاً، ويتشارك الجميع، بما في ذلك إسرائيل، هذا الرعب. كثافة سكانيّة هائلة وظروف نظافة وصحّة خطيرة (30 في المئة من بيوت غزّة لا تزال غير موصولة بشبكة الصرف الصحي مثلاً.) جهاز الطب دمّرته إسرائيل بفعل حروبها المستمرة على القطاع، والمجازر التي ارتكبتها بحق متظاهري مسيرة العودة، إما لما تسببت به هذه الأحداث من إنهاك فظيع للجهاز الطبي، وإما من خلال استهداف الجهاز ذاته – بقصف المستشفيات وقصف سيارات الإسعاف وقتل المسعفين. هذا كلّه غير الخنق الشديد المستمر منذ 13 عاماً، والذي يمنع دخول الأدوية اللازمة والأجهزة والمعدّات ويمنع تطوير الخبرات الطبيّة، ويضغط على الأطباء للخروج من القطاع دون العودة إليه. فإن كانت غزّة تمتلك 87 جهاز تنفس صناعي (بحسب مندوب منظمة الصحّة العالمية) فإن 80 في المئة من هذه الأجهزة مُستخدمٌ أصلاً. أي أن أجهزة التنفس الجاهزة للعلاج في هذه اللحظات ليست أكثر من 20 جهازاً على الأكثر.
بحسب الناطق بلسان وزارة الصحة في حكومة غزّة، يحتاج القطاع إلى 100 جهاز تنفّسٍ بشكلٍ فوري، و140 سرير علاجٍ مكثّف. وهذه كلّها طلبات من المستحيلات في ظل نزاع القراصنة بين الدول الكبرى على شراء هذه الأجهزة والمعدّات. أجرت الطواقم الطبية في غزّة حتى اللحظة أقل من 1200 فحصاً لكشف الإصابات، إلا أنّ المواد المستخدمة للفحوص بدأت بالنفاذ أيضاً.

مقالات ذات صلة

هل إسرائيل "أرحم" من الأنظمة العربيّة؟

من جهةٍ أخرى، وللمفارقة، فإن الحصار الذي يدمّر الصحة في غزّة أدى إلى منع تفشّي الوباء داخل القطاع. المعابر المغلقة أصلاً والأعداد القليلة التي تدخل وتخرج تبقى قابلةً للتعقّب والفحص. ورغم أخبار جرى تناقلها عن الاستهتار بحجر القادمين إلى القطاع، وأن الحكومة أدخلت 500 معتمر قادمين من السعودية وأرسلتهم للحجر المنزلي فقط، ويُرجّح أن هذه الحالات لم تحمل العدوى لحسن الحظ. الحالات المسجّلة في غزّة هي حالات انتقال عدوى من الخارج فقط، حتى الآن على الأقل، وقد أقامت حكومة غزّة منشآت حجر للقادمين من معبر رفح، وبلغ عدد الخاضعين للحجر الصحيّ في غزّة 4000 إنسان، أما الدخول والخروج من خلال معبر "إيرز" الإسرائيليّ فبات مقتصراً على الحالات الطبيّة الطارئة جداً فقط.

بدأت حكومة غزّة الإجراءات المشدّدة في وقتٍ متأخرٍ نسبياً (22 آذار/مارس) ودون فرض حظر شاملٍ للتجوّل حتى اللحظة. أُغلقت الأسواق وصالات الأفراح والمقاهي والمطاعم، عطّلت صلاة الجمعة ومنعت إقامة بيوت العزاء أو الأعراس، واعتُمد نظام العمل والتعلّم عن بعد، وهذا فصلٌ قائمٌ بحدّ ذاته...

ما معنى التعلّم عن بعد في بلدٍ تنقطع فيه الكهرباء يومياً، ويعتمد شبكة انترنت بدائيّة؟ (على سبيل المثال، بينما يتحوّل العالم نحو انترنت الجيل الخامس 5G، لا تزال غزّة محرومة من شبكة الجيل الثالث). وعلاوةً على هذا الظرف الدائم، فرضت إسرائيل حظراً شاملاً جديداً على إدخال أجهزة ومعدّات الاتصال إلى قطاع غزّة بداية الشهر، حيث منعت إدخال جميع أنواع الحواسيب وقطعها، وجميع أنواع الهواتف المحمولة وقطعها، وكُل ما يُستخدم لصيانة شبكة الانترنت بيتياً وعلى مستوى المنطقة.

أي تعثّر للأوضاع في غزّة يمكنه أن يؤدّي إلى كارثةٍ حقيقيّة. والفارق الجذريّ بين سلطتين رام الله وغزّة أن السلطة في غزّة تبدو أكثر استقلاليّةً في إجراءاتها، وتتجه نحو تحميل إسرائيل مسؤوليّة تدهور الأوضاع، وإلزامها بإدخال المعدّات والمواد الطبية اللازمة حتّى وإن احتاج ذلك تلويحاً بمعركة، كما عبّر عن ذلك (بصراخٍ مسرحيّ محرج) يحيى السنوار. المشكلة التي يتجاهلها السنوار، وهي مقلقة فعلًا، أن إسرائيل ذاتها ورغم تقدّمها العلمي في مجال الطب، إلا أنها تعاني من جهاز صحة متردّي، وغير مجهّز من حيث معدّات العناية المكثّفة.

فلسطينيو 48: إهمال مباشر دون وسطاء

بخلاف الضفّة وغزّة، فإن جهاز الصحة الإسرائيلي مسؤول بشكلٍ مباشرٍ عن الفلسطينيين "المواطنين" في الأراضي المحتلّة عام 1948، والذين لم تشهد قراهم ومدنهم تفشٍ واسعٍ للوباء وظلّت الإصابات موضعيّة. من جهةٍ أخرى، فإنّ نسبة الفحوصات التي تجريها إسرائيل في هذه البلدات ضئيل جداً مقارنةً بآلاف الفحوصات التي تجريها في التجمّعات الإسرائيليّة.

لا تمتلك القرى والمدن الفلسطينيّة أي مستشفيات أو حتّى مراكز صحيّة مجهّزة. ويعتمد الناس بشكلٍ مطلقٍ على المستشفيات في المدن الإسرائيليّة. مدينة أم الفحم (مركز منطقة المثلّث الشماليّ حيث يعيش 160 الف إنسان)، مدينة الطيبة (مركز المثلث الجنوبيّ حيث يعيش 120 ألف إنسان)، ومدينة رهط (المدينة الأكبر في النقب حيث يعيش أكثر من 300 ألف إنسان)،كلّها مدن لا تمتلك مستشفى واحدا.
وعلى الرغم من هذا الإهمال، وعلى الرغم من عدد الإصابات قليل جداً في القرى والمدن الفلسطينيّة، لم تتردد القيادات الإسرائيلية من اتهام فلسطينيي الداخل بخرق الحجر الصحي، واعتبارهم مجموعة خطيرة في ظرف الوباء... من دون وجود أي دليلٍ على ذلك. الاتهامات التي تصدّرها رئيس الحكومة نتنياهو حفّزت الأمن الإسرائيلي على التواجد الخشن في التجمعات الفلسطينية، وإصدار كثيف للمخالفات المالية، وقمع للأهالي في بعض الأماكن، أهمّها مدينة يافا حيث اندلعت مواجهات عنيفة بين الأهالي والشرطة.

أما من حيث الدور السياسي للقيادة الفلسطينيّة في الداخل، فظهر جلياً جهلها بالشأن الصحّي، وتفاخرت بالإشارة إلى النسبة العالية من الأطباء الفلسطينيين في المستشفيات الإسرائيلية، والتباكي المتأسرل على أننا "شركاء في علاج الأمراض ولكننا لسنا شركاء في إدارة الدولة" (!) ثم احتجاج متأخر على نسبة الفحوصات الطبيّة المنخفضة...

لكنّ "الإيجابيّ" في الأمر أنّ هذا النوع من الأزمات يكشف لنا جوانب كنّا نجهلها، وقد اكتشفنا أن لجنة المتابعة العليا لقضايا الفلسطينيين بالداخل (وهي الهيئة الجامعة لكل الأحزاب والحركات السياسيّة ورؤساء السلطات المحليّة) لديها "لجنة شؤون الصحة" التي تعمل منذ سنوات طويلة! بماذا تعمل؟ ماذا قالت أو أصدرت أو طالبت أو غيرت كل هذه السنوات؟ لا أحد يعلم.

يهاجمُ هذا الظرف مجتمعاً مستضعفاً بطبعه، سيؤدي الحال به إلى تفاقم أزمات اقتصادية شديدة، خاصةً بسبب وجود قطاعات واسعة من العمال التي يستغلها المقاولون الإسرائيليون، في مجالات البناء أو التنظيف والخدمات، والذين يعملون من دون حقوق اجتماعية البتة، وبالتالي لا يمكنهم تلقّي المستحقات الاجتماعية التي توفّرها إسرائيل للمعطّلين عن العمل. ويُشار إلى أن تردّي الوضع الاقتصاديّ في المجتمع الفلسطيني في الداخل من شأنه أن يغذّي نيران الجريمة المنظمة والعنف المجتمعي الذي يحصد أرواح عشرات الشابات والشبان في كل عام، خاصةً لأن جزءاً كبيراً من هذه الجرائم يرتبط بالاستدانة من السوق السوداء ومنظمات الإجرام.

سؤال أخير

كثّف الوباء حالة التشظّي، وبيّن لنا عمق الكارثة الاجتماعية السياسية الفلسطينية. الحقيقة أن صحّتنا وحياتنا ليست أولويّة لدى أي نظام سياسي، وأن معظم مستشفياتنا تُسمّى "مسالخ"، وأن علاقتنا الأساسيّة بالطبابة هي الافتخار بوصول هذا وذاك إلى منصب "دكتور". ليس لدينا إلا الأمل بأن تُحفظ حياة الناس وصحّتهم، خاصةً أهلنا الذين تقدّم العمر بهم، وأخواتنا وأخوتنا ممن يعانون أمراضاً مزمنة. ولكن هذا الظرف التاريخي يدفعنا للتفكير بالعمل النضالي الفلسطيني، وأن نسأل أنفسنا: هل كانت قضايا الصحّة وحقوق العمل والفقر وسائر القضايا الاجتماعيّة أساساً للنضال الفلسطيني في العقود الأخيرة؟ أم أنّ صوت الشعار والشعور القومي صار أقوى وأعلى من القضايا الأخرى، حتّى فرغ نضالنا تماماً من فحواه الاجتماعي؟
السفير العربي