2024-11-26 01:27 م

بوتين وسليماني.. قصة إلتزام متبادل في سوريا هذه وقائعها

2020-01-08
وأنت تسير بمحاذاة نهر موسكو، لا تبارحك أبدا صورة ذلك الحصن المترامي الأطراف بحجره القرميدي الأحمر. إنه قصر الكرملين. الشاهد منذ زمن القياصرة والبلاشفة وروسيا الجديدة (البوتينية) على الكثير من الإجتماعات التي غيّرت مجرى التاريخ والعلاقات الدولية. في قاعات ذلك القصر الواقع على تلة بوروفيتسكي، عقدت في العام 2015، إجتماعات روسية ـ إيرانية غيرت مجرى الحرب السورية. ما هي قصتها؟

بالتزامن مع مفاوضات فيينا النووية (5+1) التي أفضت إلى إبرام الإتفاق النووي في 14 تموز/يوليو 2015، كانت طهران منهمكة بقضية لا تقل أهمية بمعناها الإستراتيجي عن الإتفاق النووي. مشاورات مكثفة يقودها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني مع كل من موسكو ودمشق. قال سليماني ان الإيرانيين قدموا اقصى ما بمقدورهم تقديمه دفاعا عن الدولة السورية “ولكن الامور الميدانية ليست على ما يرام. الجيش السوري تعب وهناك نقص كبير ومتزايد في المحروقات. الخطر يكبر هناك”. قال سليماني مخاطباً السيد علي خامنئي بأنه صار لا بد من التدخل العسكري المباشر بقوات إيرانية، فأجابه المرشد “نحن لا نستطيع التدخل مباشرة لأن ذلك سيستدعي دخول قوات الناتو (حلف الأطلسي)، اذهب إلى الروس واتفق معهم”.

أعطى خامنئي للواء قاسم سليماني الإذن بالتحرك صوب روسيا. لا بد من موسكو مهما طال السفر. في ربيع العام 2015، وصل سليماني إلى موسكو ونقل رسالة من خامنئي يتمنى فيها على القيادة الروسية التدخل في سوريا، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلب فسحة من الوقت من أجل درس الأمور أكثر..

شكلت القيادة الروسية لجنة سياسية ـ عسكرية أخذت على عاتقها تقييم الوضع في سوريا من كل جوانبه السياسية والعسكرية، وفي موازاة ذلك، وضع الايرانيون أيضا خلاصاتهم أمام “المرشد”، والتقت الاستنتاجات الروسية والايرانية عند نقاط عدة، بينها الاقرار بأن الجيش السوري “قادر على الامساك بزمام المبادرة في المناطق الحيوية”(ما كانت تسمى، وقتذاك، بـ”سوريا المفيدة”)، خصوصا وأن المجموعات الارهابية “تسيطر على مناطق مصنفة بنسبة حوالي خمسين في المئة اما صحراوية أو شبه صحراوية ولا قيمة لها من الناحية العسكرية أو الاستراتيجية”.

من الخلاصات المشتركة (الإيرانية والروسية)، أن الرئيس السوري بشار الأسد ما يزال يحكم سيطرته على جميع المؤسسات العسكرية والأمنية والحكومية التابعة للدولة السورية، وأنه (أي الأسد) لم يكن في يوم من الأيام متحمسا لفكرة ميليشيا “الدفاع الوطني” التي لجأ اليها الايرانيون لتخفيف الضغط عن المؤسسة العسكرية السورية، وقد قبل بها مُرغماً بفعل الضغط الذي مارسه ضباط إيرانيون ولا سيما قاسم سليماني الذي يرتبط بصلة وثيقة بالأسد والحلقة الضيقة من حوله.

في السادس والعشرين من تموز/يوليو 2015، وصل قاسم سليماني مجدداً الى العاصمة الروسية. هذه المرة، إنتظرته سيارة عند سلم الطائرة وقاده موكب رسمي من مطار موسكو الى الكرملين. في المكتب الرئاسي، كان في انتظاره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو وعدد من كبار الضباط الروس

هذه الجلسة، أطلق عليها الجانبان لاحقاً تسمية “جلسة الخرائط”، سواء تلك التي وضعت على الطاولات أو عرضت عبر شاشات عملاقة. لم تستثن تلك الخرائط زاوية من زوايا سوريا وحدودها ومراكز سيطرة النظام وتوزع خريطة المجموعات المسلحة، خصوصا بالقرب من الحدود التركية واللبنانية والأردنية والعراقية والفلسطينية. إتخذت معظم القرارات الاستراتيجية في تلك الجلسة، على أن يتابع ضباط من البلدين، بالتنسيق مع القوات النظامية السورية، كل المعطيات الميدانية تباعاَ.

في السادس والعشرين من تموز/يوليو 2015، وبينما كانت طائرة قاسم سليماني تغادر الأجواء الروسية، كان بشار الأسد يطل في اليوم نفسه من “قصر الشعب” في دمشق، ليعلن، في تصريحه الشهير والمتفاهم عليه بين كل من موسكو ودمشق وطهران، أن الجيش السوري قد تعب وأنه يعاني من نقص في الطاقة البشرية، ولكنه قادر على الانتصار في الحرب ضد الارهاب.

شكلت تلك الاطلالة الرئاسية السورية احدى المقدمات الضرورية للرسالة الرسمية التي بعثت بها القيادة السورية الى القيادة الروسية وتطالب فيها روسيا بالتدخل في الحرب ضد الارهاب على أرض سوريا.

كان قد مضى أكثر من شهر ونصف الشهر على التجاوب السوري مع المبادرة الروسية التي طلبت من دمشق فتح قنوات حوار مع الأمير محمد بن سلمان في الرياض من خلال الزيارة التي قام بها اللواء علي المملوك، وبدا لاحقا أن القيادة السورية تعمدت تظهيرها اعلامياً، الأمر الذي استفز السعوديين وخصوصا بن سلمان الذي قال للروس انه لن يضع يده بعد الآن بيد أحد من رموز النظام السوري.

في خضم هذه التحضيرات، كانت موسكو قد أرسلت اكثر من ناقلة نفط الى ميناء اللاذقية بناء على طلبات عاجلة ومتتالية من وزارة النفط السورية وذلك لتغطية النقص الحاصل في قطاع المحروقات في سوريا.

ما قدمه الايرانيون من معلومات للروس تقاطع الى حد كبير مع ما قدمه القطريون والسعوديون لوزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة في الاجتماعات التي شهدتها الدوحة في الأول والثاني من آب/أغسطس 2015. فقد قدمت الدوحة والرياض معلومات تشي بأن دمشق وحمص وحلب مهددة وأن سقوط النظام السوري “بات مسألة وقت”.. وعلى الروس أن يتصرفوا على أساس أن السقوط حتمي ولا بد من التعامل مع بدائل النظام.

حصل تقاطع في المعلومات عند الايرانيين والروس ومصادر اوروبية مفادها انه بدأ التحضير في غرفة العمليات التركية لهجوم على حلب وحمص وصولا الى قطع طريق بيروت ـ دمشق “كمقدمة للاغارة الواسعة على العاصمة السورية واقتحامها في شهر تشرين الاول/أكتوبر 2015، فضلا عن هجوم واسع هدفه السيطرة على حمص والدخول من سهل الغاب الى تخوم مدينة اللاذقية الساحلية قبل نهاية العام 2015”.

تكثفت المشاورات الايرانية ـ الروسية ـ السورية، وخصوصا على المستوى العسكري (زيارات مكثفة لوفود سورية الى موسكو وروسية الى دمشق وتبادل معلومات دوري بين طهران وموسكو). في هذا الوقت، كان النقاش قد تشعب ضمن المؤسسات الروسية، على قاعدة ترجمة القرار الروسي السري المتخذ منذ بداية حزيران/يونيو 2015 بالتدخل في سوريا.

في منتصف آب/أغسطس 2015، ترأس بوتين جلسة مفصلية لمجلس الامن القومي الروسي أقرت الخطة العسكرية التي اقترحتها هيئة الأركان الروسية وتضمنت نقاطا عدة أبرزها الآتي:

بناء القاعدة الجوية قرب مطار اللاذقية وتوسيعها وتجهيزها بالمعدات اللازمة،

العمل بشكل مستقل في المجال الجوي السوري،

تعزيز وسائط الدفاع الجوي في سوريا،

ارسال ما يلزم من الطائرات الحربية بشكل متدرج ومن انواع مختلفة لتنفيذ المهام المطلوبة منها عسكريا بشكل كامل (وضع سقف لا يتجاوز 700 طائرة)،

تعزيز القاعدة البحرية في طرطوس بـ 11 قطعة حربية بحرية تتحرك من أسطول البحر الاسود المرابط في قاعدة سيفاستوبول،

دعم وتجهيز القاعدة الجوية قرب مطار المزة العسكري قرب دمشق،

دعم مطار التدريب العسكري قرب حلب،

تعزيز الجسر الجوي الدائم بين موسكو ودمشق وبين موسكو واللاذقية لتوريد السلاح والذخائر والمعدات.

في هذا الاجتماع، اكد بوتين للمجتمعين أن “الضربات الجوية للمجموعات الارهابية قد تؤدي الى شل حركتها لفترة معينة ولكنها لن تقضي عليها، لذلك، لا بد من التعامل البري معها، وفي هذه النقطة تحديدا، أنا اثق بالايرانيين وتحديداً بالجنرال قاسم سليماني وبالتزاماته. لقد قطع الرجل لي وعداً لي بان حضورهم سيكون اساسيا مع قوات الجيش السوري التي ستتولى العمليات البرية”.

وأبلغ بوتين المشاركين في الاجتماع أن “العمليات ستدار كلها من وزارة الدفاع الروسية في موسكو، على أن يكون هناك ربط مباشر بين غرفة العمليات في سوريا وغرفة العمليات هنا، بواسطة الاقمار الاصطناعية العسكرية الروسية”. القوات العسكرية الروسية المرابطة في سوريا تتلقى الأوامر التنفيذية من غرفة العمليات في سوريا التي يتولى التنسيق فيها ضباط سوريون وروس وايرانيون وعراقيون ومعهم ضباط من “حزب الله”. ثمة غرفة عمليات أمنية مشتركة في بغداد وظيفتها تبادل المعلومات حول المجموعات الارهابية بين كل من العراق وسوريا وايران وروسيا. حاليا هناك نحو اربعة ألاف ضابط وجندي وخبير وفني روسي على أرض سوريا (الف عنصر كوماندوس روسي لحماية القاعدة العسكرية)، وهو عدد قابل للزيادة ضمن سقف معين لكن لن يكون لهؤلاء أي دور في العمليات البرية..

في هذا السياق، قام الروس، بالتنسيق مع السوريين والايرانيين، بتوسعة مطار اللاذقية ليصبح اكبر قاعدة عسكرية جوية في الشرق الاوسط قادرة على استيعاب 7 الاف مقاتل، كذلك تم توسيع مدرجات الاقلاع في هذا المطار بعرض 100 متر لتصبح قادرة على استيعاب اقلاع 8 طائرات دفعة واحدة، وهذا يعني ان كل طائرة تستطيع الاقلاع من هذا المدرج خلال 3 دقائق وتكون خلال 35 ثانية على ارتفاع شاهق جدا، فضلا عن تشغيل منظومة الدفاع الجوي الصاروخي المتطورة جدا “سميرتش 4” القادرة على حماية المجال الجوي للمطار.

بتاريخ الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2015، بدأت روسيا بتنفيذ قرار إنخراطها في الحرب ضد الإرهاب على أرض سوريا. قرار قلب الأمور رأساً على عقب.

في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2017، إستقبل خامنئي في منزله بجنوب طهران الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ما لم يذكره الإعلام الروسي والإيراني أن سليماني كان حاضراً في مداخلات الإثنين، ولا سيما الإشادة الروسية بحرفيته وإلتزامه، وأنه شكل حتى لحظة رحيله أحد أبرز مداميك العلاقة الروسية الإيرانية في السنوات الخمس الأخيرة. (المصادر: خاص 180، جريدة “السفير”)