2024-11-27 02:34 م

حسابات بن سلمان المستقبلية في المنطقة!!

2019-12-28
إنتهت المملكة العربية السعودية القديمة وحلّت محلها مملكة شابة. التغيير يلمسه زوار المملكة لمس اليد. في المطارات والطرقات والمتاجر والجامعات والساحات. النساء تقدن سياراتهن. لا تشدد في اللباس. الأغاني. الموسيقى. كله إختلاط بإختلاط.
دور السينما والمسرح واللهو. الإعلانات الفنية في الطرق. ضجيج لا ينتهي في مواقع السوشيل ميديا. لم يعد السعودي يحتاج إلى دولة يسوح فيها. صارت دولته مركزاً للسياحة.

وحده الأمن، صار أكثر تشدداً. لا يستثنى أحد، أكان أميراً أم من عامة الشعب. يمكن أن تقول ما تشاء وتنتقد من تشاء إلا الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان. لا خيمة زرقاء فوق رأس أحد إلا هذين الإثنين. سقطت هيبة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. صار “المطاوعة” ليس فقط منبوذين بل يحتاجون إلى من يحميهم من نظرات الناس. تعج المساجد بالمؤمنين، ولكن تغيب الخطب الطنانة والرنانة.

هذه المملكة التي تنفتح على العالم وتفتح أبوابها أمام عادات وتقاليد وسلوكيات غير مسبوقة تاريخياً، لا تواكب هذه النقلة النوعية الداخلية بتعديل آلية صناعة القرار بل تم حصرها أكثر فأكثر. لم يعد الديوان الملكي صانع القرار الخارجي، كما كان في عهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. حقيبة الخارجية مثل غيرها من الوزارات البيروقراطية. الجيش الدبلوماسي السعودي منتشر في أربع رياح الأرض ويكلّف الدولة ميزانية سنوية ضخمة جداً من دون بوصلة. بقيت وزارة الداخلية ووزارة الدفاع تمارسان نشاطهما من دون أن يكون لهما أي حضور في آلية صنع القرار. القرار بيد محمد بن سلمان ودائرة ضيقة من أبو ظبي إلى واشنطن. هنا يُستولد القرار وتصبح باقي الدوائر معنية فقط بالتنفيذ.

ماذا عن العلاقة الأميركية ـ السعودية؟

لا أميركا واحدة. هناك إثنتان في ما يخص الشرق الأوسط. هناك الصهر والإدارة. هناك جاريد كوشنير والدولة العميقة (الإستبلشمنت). الأول يديرها بالواتساب مع محمد بن سلمان والثانية من خلال السفارة الأميركية في الرياض.

يمكن القول أن السعوديين يشعرون أن الإدارة (الثانية) غير جدية في مواجهة الإيرانيين، وجاءت وقائع الإستهداف البحري والجوي لأهداف نفطية سعودية وخليجية في العام 2019 لتؤكد المؤكد. زِدْ على ذلك تبدل خريطة إمدادات وأسعار النفط العالمية.

هذا الأمر مرتبط أيضاً بزيادة إنتاج الولايات المتحدة من الصخر الزيتي. إزدادت ثقة الأميركيين بإقتصادهم وصار بمقدور الآخرين الإعتماد عليهم، كما حصل بعد إستهداف منشآت ارامكو في حقل بقيق.

يشي التعامل الأميركي مع قضية الصحافي جمال خاشقجي بأن الملف سيبقى مفتوحاً و لحين الطلب في واشنطن. الأحكام السعودية الأخيرة بإعدام خمسة متهمين وتبرئة المستشار سعود القحطاني ونائب مدير المخابرات السابق أحمد عسيري لن تطوي الملف. الأكيد أن القحطاني سيكون متخفياً عن الديوان. تركي آل الشيخ يتجه نحو الإبتعاد. ثمة كلام عن عدم مقابلته ولي العهد منذ أشهر. إنتهت مرحلة الولاءات العمياء وبدأت مرحلة البحث عن الكفاءات.

هذا الإستعراض العام يقود إلى سؤال السعودية والعالم العربي ولا سيما لبنان إلى اين؟

تبدو الإستراتيجية السعودية في المنطقة ــ إنْ وُجِدَت ـــ مرتبكة إلى حد كبير. أعطت حرب اليمن إشارة إلى أن المملكة إنتقلت من الدفاع إلى الهجوم، غير أن الوقائع تشي بعكس ذلك. بإستثناء ما حصل في البحرين، ومن خط بياني متصاعد للعلاقات بين القاهرة والرياض، تعرّض النفوذ السعودي للتآكل أكثر في ساحات عربية عديدة منذ إنسحاب واشنطن من الإتفاق النووي الإيراني. سوريا. العراق. لبنان. اليمن. المغرب العربي. السودان. إنحسار سعودي سريع. حتى في الخليج العربي، إرتدّت تجربة حصار قطر سلباً على السعوديين. ها هم اليوم يحاولون طي صفحة الخلاف، ولو إقتضى الأمر بعض التنازلات. صاغ الجانبان خارطة طريق للتهدئة، يجري الإلتزام بمندرجاتها، لا سيما الإعلامية. ثمة نقطة شكلية عالقة حتى الآن، تتعلق بإصرار السعوديين على أن يزور أمير قطر “شقيقه الأكبر” ملك السعودية وأن يقدم له “إعتذاراً” وإلتزاماً بالقطيعة مع “الإخوان” في المنطقة، على طريقة البدو في المصالحة: “حب الخشوم”!

للعلاقة مع الإمارات مناخات مختلفة عما يُروَج له في إعلام البلدين. أزمة الثقة تتصاعد بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد. يحمّل السعوديون إخوتهم في الإمارات مسؤولية ما آلت إليه الأمور، ولا سيما عندما قرروا فتح قنوات حوار مع طهران والدخول في مفاوضات تتعلق باليمن من دون التشاور المسبق معهم. “دخلنا معاً ونخرج معاً”. تدرك الرياض أنها تورطت في اليمن، ولذلك، يريد قادتها الخروج من فيتنام الخليج “أياً كان الثمن”. المفاوضات مستمرة حالياً بين السعوديين والحوثيين في مسقط عاصمة سلطنة عُمان، برعاية أميركية، وثمة تقديرات سعودية أن العام 2020 هو عام الخروج السعودي من مستنقع اليمن.

قرر السعوديون الخروج من معسكر محاربة “النظام السوري”، حتى إجتماعات المعارضة السورية التي تعقد على أرضهم صارت عبارة عن “إجتماعات رفع عتب” يقول فيها المسؤولون السعوديون كلاما واضحاً: بشار الأسد لم يخطىء معنا أبداً. نحن أخطأنا معه عندما قررنا تسليح مجموعات حاربت الجيش السوري. القنوات مفتوحة بيننا وبين “النظام السوري” والعلاقات بين البلدين ستعود. ثمة تقديرات في الرياض أن العام 2020 سيشهد إعادة تطبيع العلاقات السعودية ـ السورية، وكل البنى التحتية (السفارتان السورية والسعودية في البلدين) صارت جاهزة بهذا الإتجاه.

مع الأردن، يتزايد حجم الإستثمارات السعودية في المملكة الهاشمية، لكن عمان متيقنة أن أية نقلة في العلاقات بين البلدين تستوجب الإبتعاد عن قطر وتركيا من جهة والتعامل مع “الإخوان” في الأردن كتنظيم إرهابي من جهة ثانية، وهما أمران ليسا بمتناول الأردن، لحسابات أردنية داخلية من جهة ولحسابات إقتصادية وسياسية خارجية، أبرزها صفقة القرن، من جهة ثانية.

مع لبنان، تبدو الصورة مختلفة. يردد مسؤول سعودي إن هونغ كونغ وبرشلونة أقرب إلى السعودية من لبنان. هذا القول يشي بأن المملكة لا تعير هذا البلد كبير إهتمام. خيبة الأمل السعودية كبيرة من سعد الحريري. كيف أمكن له أن يستعين بالفرنسيين والأميركيين ضد ولي العهد؟ هذا يعني أن الحريرية إنتهت بالنسبة إلى محمد بن سلمان.

النقطة الثانية مالية بإمتياز. ملف أمبراطورية سعودي أوجيه لن يقفل نهائيا. يتردد أن مبلغاً يقدر بنحو أربعين مليار دولار تم تحويله قبل إعلان وفاة الملك عبدالله من حسابات “سعودي أوجيه” في أحد البنوك السعودية إلى الخارج لصالح سعوديين، بينهم مسؤولون سابقون وأمراء من “الوزن الثقيل”، وهذا الملف هو “سر الأسرار”، ويمكن إستخدامه قانونياً ومالياً ضد الحريري في “التوقيت المناسب”.

النقطة الثالثة هي ملف التسوية السياسية التي أتت بميشال عون رئيسا للجمهورية وبسعد الحريري رئيسا للحكومة. ثمة شعور سعودي أن هناك من أوقعهم في خديعة تسوية في لبنان صبت في نهاية الأمر “في خدمة المشروع الإيراني”. لا يريد السعوديون تكبير مشكلتهم مع لبنان، لكن اليأس أصابهم من هذا البلد وطبقته السياسية. لذلك، أوكل ملف لبنان إلى “مستشار إعلامي” برتبة وزير (نزار العلولا)، لكنه لا يستطيع الإجتماع بمحمد بن سلمان، فيعوّض عن ذلك بشبكة علاقات مع عدد من الصحافيين و”الباحثين” اللبنانيين!

لم تجتمع خلية الأزمة السعودية المعنية بملف لبنان إلا بعد عدة اسابيع من إندلاع إنتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر في لبنان. لا يريدون تقديم أية مساعدات أو قروض مالية جديدة للبنان. لن يتجاوز سقفهم، في الموضوعين المالي والسياسي، ما يقرره الأميركيون لبنانياً. النموذج هو عدم إكتراثهم إزاء تسمية أو عدم تسمية الحريري لرئاسة الحكومة. ما قيل عن كلمة سر سعودية أعطيت لحليف لبناني “غير دقيق”.

لن يعود السعوديون إلى لبنان كما يعوّل بعض اللبنانيين. جيل 2030 (رؤية محمد بن سلمان المستقبلية) الجديد في المملكة يفضّل الحداثة على السياسة. عندها، تصبح بيروت بعيدة جدا عن الرياض، وتصبح هونغ كونغ أقرب بكثير!
موقع 180 درجة