بقلم: مجد كيال
هناك في ضبط علاقة الفلسطيني بإسرائيل مفهوم مركزي آخذ بالاندثار، وآخر يستحوذ على مكانه: يتلاشى مفهوم "العلاقة المعيشية الاضطرارية" التي حكمت ذاك الضبط، ويسيطر مبدأ "التأثير في كل مكان".. هذا التحوّل أشبه باستكمالٍ مفاهيمي للنكبة.
وقع حدثٌ لا يُمكن تجاهله خلال سياق الكتابة عن "مستقبل فلسطينيي أراضي 1948 وعلاقتهم بإسرائيل"، حدث مفصلي ويعكس ما بَلَغَته هذه الحالة الاجتماعية والسياسية، ويُشير إلى وجهة العلاقة مع النظام الصهيوني، حدثٌ يُنذر بما هو آت: وسط الحملة الانتخابية للبرلمان الإسرائيلي، والتي تخوضها القوى السياسية الفلسطينية المركزية مجتمعة تحت مظلّة "القائمة المشتركة"، أعلن رئيس القائمة، أيمن عودة، عن موقفٍ غير مسبوق في تاريخ الشعب الفلسطيني. قال أن القوى السياسية الفلسطينية مستعدة للانضمام إلى حكومة "يسار - وسط" إسرائيلية. أي الانضمام إلى ائتلاف حكومي مع الأحزاب الصهيونية التي يقودها أمثال بيني غانتس، وهو قائد جيش الاحتلال إبان العدوان على غزة عام 2014، وعمير بيريتس الذي كان وزيراً للأمن إبان حرب 2006، وإيهود باراك المسؤول عمّا لا يُعد من الجرائم الدموية، والمسؤول عن قتل 13 متظاهراً في الداخل مع بداية الانتفاضة الثانية.
في تصريحه هذا، الذي قدّمه عبر صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، ثبّت أيمن عودة شروطاً للانضمام إلى الحكومة الإسرائيلية: تجميد (وليس إلغاء!) أوامر هدم البيوت الفلسطينية "غير المرخصة" في الداخل، وإلغاء "قانون كمينتس" الذي سنّه البرلمان الإسرائيلي قبل عامين (لا أكثر) بهدف تصعيد هدم البيوت. شرطٌ آخر حدّده عودة هو تكثيف تدخّل الشرطة الإسرائيلية "لمكافحة الجريمة" في المجتمع الفلسطيني. ثم الغاء قانون القومية الذي سنّته إسرائيل قبل عامٍ فقط. كما اشترط "تجديد المفاوضات" بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية (وليس إنهاء الاحتلال في أراضي 1967 مثلاً). واشترط أيضاً إضافة عدد من الخدمات الاجتماعية مثل بناء مستشفى (واحد) في مدينة "عربية" (فهي لا تُسمى فلسطينية في لغته)، وزيادة ميزانية ملاجئ النساء المعنّفات.
يعكس هذا الموقف "تطوراً" يلوح في الأفق: الرؤية السائدة في الحاضر - التي تشرعن اندماج الأفراد في المؤسسات الإسرائيلية من أجل "التقدم المهني" و"تحقيق الذات"، والتي تعتبر أي تقدم في أي مؤسسة إسرائيلية إنجازاً للفلسطينيين - تشهد تحوّلاً من الشخصي إلى السياسي: شرعي للأفراد اليوم أن يتقدّموا في مناصب إدارة البنوك والشركات والوزارات الإسرائيلية لتحقيق تقدمهم الشخصي، وسيصبح من الشرعي غداً أن تنخرط الأحزاب والمؤسسات الفلسطينية في إدارة جهاز الحكم الصهيوني وتعمّق مشاركتها به لتحقيق "مصالح جماعية".
مبدأ "التأثير في كلّ مكان"
تدعو أسباب كثيرة إلى اعتبار موقف عودة غاية في الخطورة، خاصة وأنه يأتي من طرف الكتلة السياسية الكبرى التي تمثل فلسطينيي الداخل. وتتعدّد هذه الأسباب بين اعتبار الموقف كسراً لمبدأ سياسي لطالما كان بديهياً برفض المشاركة في الحكومة الإسرائيلية.. أو لما يُعبر عنه من فقدان للقيم الأخلاقية التي ترفض قطعاً التحالف مع مجرمي حربٍ دمويين.. أو لما يمثّله من تراجعٍ مهول حتى على المستوى المطلبي الضيق، إذ أنه لا يطلب إلا أصغر فتات الحقوق الاجتماعية والتراجع عن قوانين سُنَّت قبل عامين فقط.
لكن الحقيقة أن هذه الأسباب، على أهميتها، ليست إلا عوارض لأزمةٍ أعمق نعيشها. فالموضوع ليس تصريح أيمن عودة بحد ذاته ومدى إمكانية تحقّقه في هذه الدورة الانتخابية، وإنما هي خطورة الظرف الاجتماعي والرؤية السائدة، أي ما يدفع بالادلاء بمثل هذا التصريح ويسمح به، دون الخوف من تكبّد ثمن جماهيري وسياسي.
يقوم هذا الموقف على مبدأ "التأثير في كل مكان". تَجذّر هذا المبدأ بقوة منذ الحملة الانتخابية للقائمة المشتركة عام 2015، وباتت تنادي به أو توافق عليه كل الأحزاب السياسية في الداخل، ويظهر في كل خطاب وبيان ومقابلة، ويصمِّم حيزاً واسعاً من عمل الهيئات السياسية والاجتماعية الفلسطينية بل يخلقها. ويقترح هذا المبدأ أن يسعى التمثيل السياسي الفلسطيني إلى الدخول "والتأثير" في كافة مؤسسات الدولة الإسرائيلية ووزاراتها، ما عدا المؤسسة العسكرية، ووزارة الخارجية، ووزارة "القادمين الجدد" المسؤولة عن هجرة يهود العالم إلى فلسطين. وجاء حصر هذه الوزارات المحرمة، بحسب رئيس القائمة المشتركة، لأنها الوزارات "المفوَضة بالأساس لتفضيل اليهود على العرب".
يخلق مبدأ "التأثير في كل مكان" تصنيفاً وهمياً لمؤسسات إسرائيل - بين مؤسسات عنصرية جوهرياً (كالأمن والخارجية وهجرة اليهود) من جهة، ومؤسسات غير عنصرية بجوهرها ولكنها تمارس سياسات عنصرية يمكن تغييرها من خلال "التأثير" فيها، من جهةٍ أخرى. لا يمكن للوهلة الأولى أخذ هذا الفصل على محمل الجد، ويبدو أن الإصرار عليه يحتاج قدراً هائلاً من السطحية ودفن الرؤوس في الرمال: ألا يعرف الفلسطيني أن كل مؤسسات الدولة دون استثناء شريكة لا تتجزأ في المشروع الصهيوني؟ أن "سلطة الطبيعة والحدائق" في إسرائيل شريكة فاعلة في سرقة الأراضي حتى اليوم، مثلها مثل أي عصابة إبان النكبة؟ ألا نعرف أن مؤسسات القضاء في إسرائيل تشارك يومياً بإدارة الجرائم، من هدم البيوت والقرى إلى سجن الأطفال إلى المصادقة على الاغتيالات؟ ألا نعرف دور مؤسسات التخطيط في سرقة الأرض واستخدام أدوات التخطيط المدني والعمراني لخلق أشد ظروف الحياة وحشية؟ وأن القطاع الإسرائيلي الخاص متورط في المشاركة في كل مجالات إدارة الجرائم الإسرائيلية؟ والصحافة؟ والتعليم الأكاديمي؟ وغير ذلك مما لا ينتهي من الأمثلة..
ولكن الحقيقة أن هذا الفصل الوهمي ليس مجرد سطحية أو تجاهل للحقيقة. هو وعي راكمه خطاب سياسي تجذّر على امتداد سنوات طويلة: "الخطاب القومي الديمقراطي" تطرّق للمواطنة الإسرائيلية كمواطنة قابلة للدمقرطة، ورأى بالتحول الديمقراطي في المؤسسات الإسرائيلية، وبإنهاء الحصرية اليهودية، وبإقامة دولة "المواطَنة الكاملة"، مقاومةً فعلية للمشروع الصهيوني.
نَثر هذا التصوّر بذور الفصل الوهمية بين مؤسسات إسرائيل. بين المؤسسات التي يجدر السعي لدمقرطتها (وضمان "التمثيل الملائم" للفلسطينيين فيها مثلاً)، وأخرى ينأى الفلسطيني عنها. وهو ما تبنته وأمعنت به كافة التيارات السياسية في الداخل دون أن تُقدِّم أي تفسير منطقي للفوارق بين وزارة الإسكان ووزارة الأمن الداخلي مثلاً. ولم يقتصر هذا الفصل على مستوى الخطاب الانتخابي، لكنه شكّل أساساً لعدة حملات سياسية أثّرت على جيلٍ بأكمله، وأثّرت، خاصةً على شباب الطبقة الوسطى الأقرب إلى مساحات العمل السياسي.
لنأخذ مثلاً الحملة ضد "الخدمة المدنية" التي انطلقت في منتصف العقد الأول بعد عام 2000، وهي قد تكون الحملة السياسية الأضخم التي نشطت في الداخل منذ عقود: جاءت هذه الحملة في مواجهة سعي إسرائيل لتجنيد الشباب الفلسطينيين في "الخدمة المدنية"، في المؤسسات الحكومية كالمستشفيات وبيوت المسنّين وغيرها، من أجل "تقاسم الواجبات" ولكي "يعوِّضوا" عن عدم خدمتهم في الجيش الإسرائيلي. في نظرةٍ إلى الوراء، يُمكننا أن نرى الآن أن جلّ هذه الحملة لم يتركّز على إقناع الناس بواجب رفضنا للاندماج بالمؤسسات الإسرائيلية كمبدأ كلي، وإنما بأن "الخدمة المدنية هي بداية الطريق إلى تجنيدنا في الجيش الإسرائيلي". أن العمل في المستشفى الإسرائيلي، وفي وزارة السياحة الإسرائيلية، وفي سلطة "مكافحة المخدرات" الإسرائيلية، ليس خطراً قائماً بحد ذاته، لكن المشكلة في أن هذه ستكون بداية تقودنا للخدمة العسكرية المحرّمة.
من "الاضطرار" إلى "المبادرة"
تُعبّر هذه الحالة عن تحوّل مفاهيمي في السياسة الفلسطينية في الداخل. ففي ضبط علاقة الفلسطيني بإسرائيل، لدينا مفهوم مركزي آخذ بالاندثار وآخر يستحوذ على مكانه: يتلاشى مفهوم "العلاقة المعيشية الاضطرارية" التي حكمت هذا الضبط، ويسيطر مبدأ "التأثير في كل مكان".
منذ النكبة، تشكّلت علاقة الفلسطيني مع مؤسسات إسرائيل على هذا مفهوم "الاضطراري". اقتصرت العلاقة غالباً على الحصول على خدمات اجتماعية وحيوية تحكم حياة الإنسان وتسيطر عليها القوة المحتلة وتتحمل مسؤولية توفيرها. من شهادة ميلاده وحتى جهاز الصحة والتعليم المدرسي، والماء والكهرباء، ارتبطت كل مناحي الحياة بالسلطة الصهيونية. وكان من المستحيل، بسبب التدمير الأليم الذي أحدثته النكبة، تشكّل مقاطعة فلسطينية تامة لهذه السلطة. ودون الإطالة في ظروف ما بعد النكبة والحكم العسكري، كانت "المواطنة الإسرائيلية" هي المنفذ الوحيد ليحقق الناس الحد الأدنى من ظروف العيش. بل أسوأ من ذلك، أنها كانت الإمكانية الوحيدة التي قد تَقيهم من احتمال تهجيرهم مثلما هُجِّر جيرانهم وأهلهم، وقد تقيهم من احتمال أن يخسروا بيوتهم وأراضيهم، وهو ما كان خطراً فعلياً تحت أهوال الطرد المستمر وقوانين "المتسلّلين" التي استُخدمت لتهجير الناس، و"أملاك الغائبين" التي استُخدمت لمصادرة البيوت والأراضي. كانت "المواطنة" هي الفرصة الوحيدة للوجود.
ويجدر التذكّر بأن بلورة هذا "الاضطرار" مفاهيمياً في الخطاب السياسي، كان عاملاً ضرورياً في انفتاح فلسطينيي الداخل على أبناء شعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وعلى الوطن العربي، وبناء جسور ثقة (بعد أن سادت مشاعر الشكّ والضغينة والتخوين تجاه فلسطينيي الداخل)، وعلاقات ثقافية وسياسية واجتماعية هامة جداً. وهي جسور ساهمت في تنشيط الحس القومي لدى الطبقة الوسطى الناشئة. ثم أن إدراك النخب الجديدة لمفهوم "الاضطرار المعيشي" دفع تيارات لبناء المؤسسات المستقلّة، وتكوين الجمعيات والأطر الثقافية والاجتماعية وحتى الخدماتية الحيوية. ومع ذلك بقي مفهوم "الاضطرار" في طور ثقافي هوياتي محدود، ولم يُترجَم لنهجٍ سياسي يدفع لمقاطعة مؤسسات إسرائيل وبناء بدائل لها (إلا في حالة الشق الشمالي للحركة الإسلامية التي قمعتها إسرائيل، وهو نموذج لا يسعنا الإحاطة به هنا). ويبدو اليوم أن مفهوم "الاضطرار" لن يرافق قاموسنا السياسي طويلاً نحو المستقبل.
رفع أبناء طبقة وسطى رأسهم بـ"كبرياء وانتماء" بهويتهم الوطنية، وأصروا أن تعاملوا بندّية أمام الأفراد اليهود داخل المؤسسات الإسرائيلية التي يعملون بها اضطراراً في القطاع العام أو الخاص، ودفعت هذه الندّية والمنافسة "بكرامة" إلى رغبة التقدم والوصول في سلّم هذه المؤسسات، للإثبات بأن الفلسطيني "قادر" مثله مثل اليهودي. ولكن هذا السعي حوّل توجهات الفلسطيني نحو المؤسسة إلى توجهات أكثر فعالية وأقل سلبية، أكثر مبادرة وأقل تحفظاً، وراكم تنازلات عن المسافة وعن الإحجام عن المؤسسات الإسرائيلية والنفور منها. بُني التحول نحو الفعالية على إهمال استيعابنا التاريخي التقليدي لعلاقتنا بالسلطة، واستبداله بآخر: من استيعابٍ سلبي اضطراري ينطوي على عداوة ضمنية، إلى استيعاب إيجابي مبادِر يتوق للاندماج مع السلطة ويتضمن تحدياً لكنه لا يتضمن عداء. من استيعابٍ تاريخي يرى أن القاعدة هي أن نرفض التعامل مع المؤسسة الإسرائيلية والاستثناء هو الاضطرار المعيشي، إلى استيعاب عملاني نفعي لا يكترث بالسياق التاريخي لنشوء هذه المواطنة، بل يسأل عن "حاضرها". وفيه يُصبح وجودنا داخل المؤسسات هو القاعدة، بينما الاستثناء هو العسكرية والدبلوماسية التي تصطدم بهويتنا الثقافية اصطداماً مباشراً، وتوقظ، بالتالي، العداء الهوياتي الخامد. هكذا بتنا نرى الخطاب التحفيزي - نموذج حسام حايك مثلاً - الذي يُحمِّل الفرد مسؤولية الاجتهاد التعليمي والمهني ليحظى بالمساواة، يُصدَّر إلى السياسة. ويُصبح من مسؤولية الضحية أن تجتهد في التقدم في مؤسسات الحُكم، حتّى "تؤثِّر" وتُحصّل قسطاً ضئيلاً من الحقوق الاجتماعية وتحسين أوضاعها.
هذا التحوّل أشبه باستكمالٍ مفاهيمي للنكبة: إنه يدمّر المفهوم الأصلاني للمواطنة المستضعفة القسرية الناتجة عن هزيمة، ويضع مكانه مفهوم آخر ذو طابعٍ فاعل ومبادر وقوي ومتطور، عملاني ونفعي. إنه يُزيل العربي الفلسطيني بما تحمله "الفلسطينية" من ثقل هزيمة النكبة وانحناء "جبل المحامل"، ويستبدله بعربي إسرائيلي بما تعنيه الكلمة من تسليمٍ تاريخي بواقع المواطَنة، ورغبة بالمضي قدماً داخل النظام بما هو عليه. إنهم، بشكلٍ أو بآخر "يُخضّرون صحراء" عداءنا الجوهري للاستعمار الإسرائيلي.
في أيّ حُكم إسرائيلي يمكننا أن نندمج؟
سيُصبح التمثيل السياسي الفلسطيني في الداخل تمثيلاً لإحدى الهويات الإسرائيلية التي تسعى لتطوير مصالحها. هذه المقولة الثقيلة والحزينة تحتاج تأسيساً حذراً: خارطة إسرائيل السياسية اليوم مؤلّفة من أحزاب محددة جداً بحسب الهويات الإثنية والدينية، وهي تُدير علاقات القّة بين هذه الهويات من خلال البرلمان وتشكيل الحكومة. حزب واحد يمثل اليهود الروس، حزب واحد يمثّل اليهود المتدينين الشرقيين، حزب واحد يمثّل اليهود المتدينين الأشكناز... إلى آخره. لكن التمثيل السياسي للفلسطينيين اختلف حتى الآن اختلافاً جوهرياً عن باقي التمثيلات الهوياتية: استُثني واستثنى نفسه من هذه الخارطة بسبب الرفض المبدئي لدعم حكومة أو التوصية على حزبٍ ما بتأليف الحكومة - ذلك باستثناء حكومة رابين الثانية التي وقّعت اتفاقية أوسلو، وقد دعمتها القوائم العربية (وحتى في حينه من كان خارج الائتلاف) توهّماً بأننا أمام مصالحةٍ تاريخية - وكانت فترة ذروة في أسرلة فلسطينيي الداخل، وشكّلت محفِّزاً لتنظيم التيار القومي فيما بعد.
أي أن التمثيل الفلسطيني كان تمثيلاً مُعارِضاً جوهرياً، رافضاً لأي تصور للمشاركة في الائتلاف الحكومي، يُبقي على العداء الضمني ويحدد مسافته من النظام ويثبّت موقعه كمعارض حتى وإن ادعى "الاضطرار" لدخول البرلمان كوسيلة لتنظيم الفلسطينيين، أو منع التصويت للأحزاب الصهيونية، أو كمحاولة لتمثيل الناس في القضايا المعيشية اليومية. نحن نشهد تغييراً في هذا النوع من التمثيل، ونراه يتوجه (خاصةً وانه بات كتلة واحدة هي "القائمة المشتركة"، تتبدد فيها الاختلافات السياسية وتُبقي على التمثيل الهوياتي فقط كرابط بين اجزائها) نحو تمثيل مصالح "أقلية" داخل النظام، مثلها مثل غيرها من الشرائح، وتحقيق مكاسب ومصالح وحصة من الموارد. وهناك تجربة شبيهة للأحزاب في بلديات المدن "المختلطة" حيث دخلت الائتلافات البلدية لقاء ميزانيات وخدمات هنا وهناك.
ولتوضيح السياق: وصلت الخارطة السياسية الإسرائيلية إلى هذا الشكل إثر تغييرات اقتصادية واجتماعية كثيرة منذ السبعينيات الفائتة، كسرت هيمنة الحزب الواحد (ماباي) الذي يمثّل "جيل المؤسسين" من الصهاينة العلمانيين الأشكناز. تحركت هذه التغييرات بعلاقةٍ مع عداء المجموعات الاثنية والدينية المهمّشة تجاه "جيل المؤسسين"، واندفعت بهاجس دائم لكسر الهيمنة الأشكنازية التي سيطرت منذ العام 1948 (وحتى قبله) على مؤسسات الدولة وقطاعها العام، وطمست الهويات الأخرى واستنزفتها في خدمة المشروع الاستعماري الأوروبي.
ولمّا كانت هذه الهويات في حينه هي الأكثر فقراً والأقل تعلّماً، كانت الأولى التي تُستغَل وتُدفع لمواجهة الفلسطينيين، وبالتالي الأكثر إظهاراً للخطاب العنصري. بيد أن سرقة الأرض والبيوت وطرد الناس واقتصاد الحرب والدمار والسلاح استفادت منه الفئات الأشكنازية النخبوية في المدن المركزية والكيبوتس، بينما اكتفى اليهود الشرقيون والمتدينون والروس لاحقاً بالفُتات.
هذا هو سياق "صعود اليمين" في إسرائيل، وهيمنة حزب الليكود اليوم على الحكم. فأسبابه تبدو على السطح ك"تطرف العنصرية ضد الفلسطينيين"، لكن الحقيقة أن كراهية الفلسطينيين تصاعدت بعلاقة طردية مع الحقد الطبقي والاثني على العلمانية الأشكنازية التي تُسوّق نفسها على أنها "تقدمية" و"ديمقراطية"، والتي تمتلك مفاتيح التعليم والاقتصاد والثقافة "الراقية". وكانت اللحظة التاريخية المفصلية في العلاقة بين كراهية "الأشكناز المؤسِسين" وكراهية الفلسطينيين هي لحظة قتل الأب الأشكنازي - اغتيال إسحاق رابين برصاص شاب شرقي (من يهود اليمن) متدين - إثر توقيع اتفاقية أوسلو. هكذا تدحرج وضع خسرت فيه الأحزاب الأشكنازية العلمانية التي تسمّى "يساراً" الحُكم في إسرائيل، وأُنُتجت حكومات "يمينية" متتالية.
الدور الجديد الذي يلعبه التمثيل السياسي الفلسطيني يجد مكانه "الطبيعي" إلى جانب "اليسار" الإسرائيلي الذي يدّعي "الديمقراطية"، حتى حين يتبجح هذا "اليسار" ليلاً نهاراً بدمويته ويصدح مفتخراً بجرائم الحرب. القيادة الفلسطينية في الداخل تقف على كل المنصات وفي كل المناسبات لتتحدث عن "إسقاط اليمين" وتشكيل كتلة تمكِّن "حكومة يسار". عملياً، لم يتحوّل التمثيل السياسي الفلسطيني إلى كتلة على خارطة العلاقات الهوياتية الإسرائيلية فحسب، إنما بات كتلة محسوم موقعها بين معسكرين مركزيين، وبالتالي فإن قدرتها على المناورة ضيقة جداً.
هذه حالة مثيرة، يصبح فيها مصير النخبة الأشكنازية العلمانية - الصهاينة المؤسِسين - في الحكم، مرتبط بنجاح كتلة فلسطينية ترجّح كفّة الميزان. عملياً، وفي العمق، فإن ما تسميه القيادة الفلسطينية في الداخل "تأثيراً" يُحسّن أوضاعنا من خلال "حكومة يسار"، وحفاظٌ على "الديمقراطية" في إسرائيل، هو نداء لتحالف فلسطيني - أشكنازي (وهو مصطلح سبق واستخدمه الباحث اليهودي الشرقي إيتامار طوهارليف) يُحقق مصالح الطرفين. قد تكون الصهيونية العلمانية مستعدةً لتحقيق بعض المصالح الاجتماعية للفلسطينيين وتصعيد دمجهم في الاقتصاد، مقابل استعادتها لسيطرتها التاريخية على مفاصل الحكم. عملياً: يُصبح الفلسطيني فاعلاً سياسياً يحقق مطالبه الحياتية من خلال قدرته على المساهمة في استعادة "الصهيونية التقليدية" لمكانتها، بدلاً من "الصهيونية الجديدة". هذا "التحالف" يبدأ عملية جدلية بين طرفين، تتغيّر فيها الأحزاب "اليسارية" نحو تصعيد سياسات دمج الفلسطينيين (ويتضح هذا من حملة "حزب العمل" الانتخابية مثلاً)، ومن جهةٍ أخرى يتغيّر التمثيل السياسي الفلسطيني بحيث تتقارب المسافة بيننا وبين النظام الاستعماري كواقعٍ موجود لا عداء وجودي معه، والتسليم بالتالي بنتائج النكبة، من تمزيقٍ للشعب الفلسطيني وأرضه، ومن انفصال مستقبلنا السياسي والاجتماعي نهائياً عن الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، وعن اللاجئين، وعن الوطن العربي - اللهم إلا الفلسطينيين والعرب الذين يهرولون إلى أحضان إسرائيل والتطبيع معها، وهم بطبيعة الحال دكتاتوريات ومراتع فسادٍ ودمار لشعوبهم. وسيحدث تلقائياً أن تتبرأ الحركة السياسية الفلسطينية من أي فاعلٍ راديكالي فلسطيني ضد النظام الصهيوني، وأن تهجر كافة أدوات العمل السياسي الجماهيري الذي يُعيد القوة إلى الشارع، وأن يُهجر كلياً السعي لمقاطعة إسرائيل وتأسيس البدائل الوطنية المستقلة، وأن تلتزم بأدوات النظام - المحكمة العليا والبرلمان والتنسيق مع الحكومة - لتحقيق "المصالح" لا لانتزاع الحق.
إطلالة من حافّة الهاوية
يطرق بابنا السؤال الآتي: هل يستطيع الفلسطيني داخل إسرائيل أن يُصبح شريكاً في منظومة القمع الإسرائيلية التي تمتد في كل أنحاء فلسطين والوطن العربي والعالم؟ هل يجد المعماريون الفلسطينيون الشباب أنفسهم اليوم في شركات هندسة تُخطط المستوطنات، وفي وزارات تُخطط على الأراضي المصادَرة؟ هل يجد المحامون الشباب أنفسهم يجتهدون ليُوَظّفوا في النيابة العامة الإسرائيلّية وليُصبحوا قضاة يؤتَمنون على تطبيق سلطة القوانين العنصرية؟ هل يعمل مبرمجون ومهندسون على خطوط تطوير لتقنيات مراقبة وملاحقة وعنف تستخدمها إسرائيل وتبيعها لأنظمة العالم القمعية؟ هل يخدم المحاسبون والاقتصاديون الفلسطينيون في البنوك والمؤسسات المؤتمنة على اقتصاد إسرائيل وخزينتها التي يُخصص معظمها للحرب؟ هل يُنتج الأكاديميون معرفةً وينقلونها لجامعات تتعاقد مع الجيش والمخابرات وتشارك في كافة مساعي البروباغاندا الإسرائيلية العميقة؟ هل يُمكن للفلسطيني أن يصبح عضواً فاعلاً في منظومة قمع اسمها إسرائيل ؟ الإجابة، إن لم يُكبح هذا التدهور: نعم، للأسف. وهل من صوتٍ منظّم وفاعل يمكن الإشارة إليه ينادي بالعدول عن هذه الحالة أو حتى ببناء حالةٍ موازية تنقذ ما يمكن إنقاذه؟ الإجابة: ليس منظّماً وليس فاعلاً، وهي صفات مطلوبة بالضرورة.
إسرائيل آلة حرب. تكوينها - وليس ممارساتها - جريمة قائمة بحد ذاتها. تتغير أدواتها لكنها تتقدم بالمبادئ الاستعمارية العنصرية ذاتها لتصفية الوجود السياسي الفلسطيني. وفي الظرف الفلسطيني والعربي اليوم ما يدل على أنها أقرب إلى تحقيق أهدافها من أي يومٍ مضى. يبقى احتمال التحولات الدراماتيكية في الوطن العربي وفلسطين التي قد تُعيد فتح كل الحسابات، وتبقى الآمال البريئة أيضاً، تلك التي تُراهن على الطيبة والفطرة التي يجبل منها الناس، ومفاجآت الأجيال، وهي هامة جداً وإن لم تكن لوحدها كافية عملياً.
لكنّ الأكيد أن الضوء الذي يلمع عادةً في نهاية النفق لم يعد يظهر، إذ هناك من يعمل دون كللٍ على غمره بالمزيد والمزيد من طبقات العلاقة المتشابكة والمتماسكة مع إسرائيل. بات الضوء دفين منجم سحيق. هل حفرنا بالأدوات الملائمة؟ هل انتصرت البراغماتية، تلك التي تتمسك بالهوية الوطنية ولكنها تفصلها عن حياة الإنسان وعمله وتعليمه وطبيعة ممارساته، وتعفيه بالتالي من الأسئلة الأخلاقية حول أين يعمل وفي خدمة من؟ ومن جانب آخر، هل الرديكالية - تلك التي لا زالت تؤمن بأن وجود هذه الدولة لا يمكن أن يفترق عن استعماريتها، وأن سقوط النظام الصهيوني هو شرط أساسي لحرية وكرامة شعوب المنطقة كلها، وأن الحل يكمن في إنهاك المنظومة ودفعها للتعطّل وإسقاطها، وليس للمشاركة الفاعلة في عملها وإدارتها - هل هذه لا زالت قادرة على إعادة اكتشاف الضوء؟
السفير العربي