احمد الحاج علي
في أزماتهم الكبرى، والمستمرة، سؤال يتكرر كثيراً في مجالس الفلسطينيين بلبنان، وأزقة مخيماتهم: "ماذا كان سيفعل الختيار لو كان حياً؟" وفي احتجاجاتهم ضد إجراءات وزير العمل الأخيرة، يتكرر السؤال باستمرار. وهو إدانة لقادتهم الحاليين قدر ما هو حنين إلى رجل كانوا وصيته الأخيرة وهو يودّع الدنيا في مستشفى "فال دو غراس" الباريسي. ولم يكن ينقطع تواصله بهم، حتى والجرافات تهدم أجزاء من مقاطعته المحاصرة، فكان يخاطبهم في مخيم الرشيدية قائلاً "إن مسيرة النضال ستستمر حتى عودة اللاجئين الفلسطينيين أعزاء، كراماً وأحراراً". كان لتلك الكلمات سحرها الذي يبعث اليوم حنين فلسطينيي لبنان إلى زمن ياسر عرفات، أو "الختيار"، اللقب الأحب إليهم، ربما لأنه يحوي "الأبويّة"، في تعويض عن حالة يُتم يشعرون بها.
الكوفية وإشارة النصر
رغم ملاحظات الكثير من فلسطينيي لبنان على أداء عرفات، إلا أنهم سيتذكرون، وهم يحتجون على إجراءات وزير العمل قائلين إن البند الأول في اتفاق القاهرة عام 1969، الذي وقّعه عرفات، تحدّث عن "حق العمل والإقامة والتنقل للفلسطينيين المقيمين حالياً في لبنان"، وجاء الحديث عن العمل الفدائي في بنود متأخّرة. ذلك العام الذي سيدخل فيه فلسطينيو لبنان مرحلة ما يُشبه "اليقين الثوري"، الذي استمر حتى عام 1982. لم يعد الفلسطيني بحاجة إلى تصريح للانتقال من مخيم إلى آخر، صار يستطيع السهر بعد الساعة العاشرة، ولن يُداري لجوءه كعار يتلبّسه. ربط الفلسطينيون هذا كله، صواباً أو خطأ، بصاحب كوفية تتقدمها إشارة النصر، وهي جزء من مشاهده الآسرة التي يجيد صناعتها.
فيما يشاهد فلسطينيو لبنان اليوم أكثرية مسؤوليهم، من ذوي ربطات العنق الملوّنة والأحذية اللامعة، ويسكنون خارج المخيمات، سيأخذهم الحنين إلى "الختيار" الذي لم يبنِ أسواراً حول نفسه، على الرغم من الملاحظات. كان زائراً دائماً للمخيمات. يبكي أمام "أمّ شهيد"، فتقوم بتهدئته. ثم يخرج بين الزواريب يخطب، متوعّداً بهزيمة أميركا و(إسرائيل) معاً، ببدلة خضراء، ومسدس صغير على خاصرته. فيصدّقه الجمهور في مرحلة "اليقين الثوري". لم يكن مفوّهاً، ولا الأعمق ثقافة، ولا الأكثر جمالاً، ولا الأشد عوداً، لكنه استطاع أن يكون جزءاً من تاريخ فلسطين. فلكل واحد من الفلسطينيين قصة معه، حتى لتظن أن بيته المتنقّل كان بلا أبواب.
مثلث الثورة القيادي
عندما تستشري البطالة بين الفلسطينيين في لبنان وتصل حدود 56 بالمائة، يذكرون زمناً كانت فيه مؤسسة "صامد" وحدها توظف 5000 عامل بدوام كامل، في 46 مشغلاً تابعاً لها في لبنان. علاوة على عدة آلاف آخرين كانوا يعملون في بيوتهم. وكان تأسيس "جمعية رعاية أسر الشهداء والأسرى" التي ترعى الآلاف. صحيح أن هناك مؤسسات كانت قبل تسلّم عرفات قيادة المنظمة عام 1969، لكن الفلسطينيين نسبوا كل تلك الإنجازات إليه، لأنها عرفت نموّها في عصره، أو لأن من عادة الشرق نسبة الفضل إلى الفرد لا إلى المؤسسة.
عندما يموت طفل فلسطيني بسبب عجز عن دفع تكاليف العلاج فإن الحنين يأخذ الفلسطينيين إلى ذلك الزمن الذي كانت فيه مستشفيات عكا وغزة في بيروت، وبقية المستشفيات على امتداد مخيمات لبنان، تؤمّن العلاج لهم، بل وتستقبل آلاف المرضى اللبنانيين. وعندما يقف طالب فلسطيني عاجزاً أمام تأمين أقساط جامعته، فإن الحنين يسافر به إلى زمن تأمين المنح بالآلاف إلى الطلاب الفلسطينيين في لبنان.
ليست أسباب هذا الحنين كلها اقتصادية فقط. فحين أمر عرفات في كانون الأول 1991، بتسريح 5000 من أعضاء فتح المتفرغين في لبنان، لم تتبدّل نسبة التأييد له.
في زمن الانقسام الفلسطيني، الحنين حاضر إلى يوم كان عرفات يتوسط حبش وحواتمة. يُلقّب الأول بحكيم الثورة، ويشد على يد الثاني. يعترض على إضراب الطلبة الفلسطينيين بالجامعة الأميركية بداية عام 75، لكنه يرسل لهم الأغطية والأطعمة إلى سجن رومية: "رغم عقوقكم تبقون أبنائي". يستمع إلى انتقادات الطلاب للبرنامج المرحلي عام 74 من ميكروفانات جامعة بيروت العربية قرب مكتبه، وينام بحراسة بنادقهم. تفرض سوريا الإقامة الجبرية على قائد الانقلاب عليه أبو صالح بعد أن أتم مهمّته، فيُرسل إليه المال لتأمين الدواء والعلاج.
لم يكن ديموقراطياً تماماً، لكنه كان يعي خطر الانقسام: "نحن شعب عشائر وحمايل، وطريقة العنف ذهبت بثورتنا الكبرى (1936 - 1939)، ولقد وجدنا بعد دراسة تلك التجربة أننا إذا استخدمنا طريق العنف لإقرار خط الثورة فإن ذلك سيؤدي بهذه الثورة نفسها إلى الهلاك"، هذا ما قاله مرة، ونادراً ما كان العنف طريقه لمعالجة المشاكل الداخلية.
الفلسطينيون في لبنان اليوم، وهم في حضيض اليأس والبؤس، يذكرون ذاك المتفائل أبداً. يسأله الصحافيون عن حصار بيروت، فيرد بأنه هو من يحاصر (إسرائيل)، وربما يكون قد بات ليلته تحت جسر الكولا، داخل سيارة قديمة، أو في مبنى متهالك. الكل بكى أثناء وداعه بيروت، وحده كان يبتسم: "إلى أين يا أبا عمّار؟"، "إلى القدس"، يرد. قد يبدو كلامه في طلاق مع الواقع، لكنه كان يحدّث شعباً بحاجة إلى مسحة تفاؤلية في تلك اللحظة.
مفاوض الشيطان القدري
وفيما الجسور بين اللبنانيين والفلسطينيين تتهدم جسراً فجسراً، إلاّ من خطبٍ تعلّقُ حبالاً في الهواء، يتذكر الفلسطينيون ذلك القائد الذي حاول بناء جسور لا أنفاق. نجح مرات، لكن الظروف والبيئة الإقليمية كانت أقوى منه مرات أخرى. وقصة أبو عمار مشهورة عندما امتنع عن قذف الشيطان بحجر في مكة. ولما سئل عن سبب ذلك قال: "ما حدن بيعرف، يمكن أضطر أفاوضه ذات يوم".
صديق للحركة الوطنية، يكشف عن اتصالاته مع حزب الكتائب بعد شهر من اندلاع الحرب الأهلية، فتقصف الأحزاب الموالية لسوريا بيروت الشرقية، وتحترق المبادرة. يوجّه انتقاداته لبشير الجميل، ويرسل إليه أبو الزعيم وأبو حسن سلامة مبعوثين دائمين. يكيل الاتهامات لنبيه بري عبر إذاعة مونت كارلو أثناء حرب المخيمات، ويحمّل نايف حواتمة مبادرة يناقشها مع زعيم حركة أمل في الجزائر، وكادت تنجح.
حين شعر الفلسطينيون في لبنان أن الكثير من قادتهم لا يتصفون بشجاعة كافية لمواجهة الحقائق، ولا بـ"تاريخ نضالي"، كما يقولون، راح الحنين يملأ واقعهم إلى زمن كان عرفات يتنقل بين محاور بيروت المحاصرة، ويذهب قبل ذلك إلى قلعة الشقيف، ويُسجن في لبنان 55 يوماً أثناء تنفيذ إحدى العمليات. كان آخر القادة الفلسطينيين الذين وافقوا على الخروج من بيروت، وبعض القادة الراديكاليين من الفلسطينيين كان قد انهار منذ اليوم الأول كما تقول رواية الحصار الفلسطينية. حتى وهو يعمل للتسوية، منذ عام 1973 على الأقل، كان يقاتل قتال من يريد تحرير الجليل. يصفه شفيق الحوت بأنه "كان قدرياً بحدود المغامرة".
يتوهم الحنين الفلسطيني لعرفات أنه كان يحكم لبنان، متجاهلاً أنه منذ الاتفاق الدولي الإقليمي على دخول الجيش السوري لبنان عام 1976، أصبح هذا الجيش هو الحاكم الفعلي. وما كان يفعله عرفات هو تحسين شروط خروجه، وضمان مقعد لمنظمة التحرير في التسوية المقبلة، وحماية الفلسطينيين بعد الخروج. لكن الحنين لا يجانب الصواب في الحديث عن مدى حضور الفلسطينيين الدولي. فمن خلال "مكتب حركات التحرر"، بقيادة أبو جهاد، كان الدعم للجماعات المناهضة للشاه، ونمور التاميل، والمؤتمر الإفريقي في جنوب أفريقيا. وكان الدعم لمساعدة سلاح الجو الأوغندي عام 1976. ومدّ "ثوار ساندينيستا" بطياري طوافات ومقاتلات شاركوا في الحرب ضد متمردي "الكونترا". حتى عرضت الولايات المتحدة عقد صفقة تبادلية تقوم على بدء الحوار السياسي في مقابل وقف المساعدة العسكرية الفلسطينية عن "الساندينيستا".
في الوقت عينه عاش عرفات كل مجده تقريباً يوم كان بين فلسطينيي لبنان. محطات الثورة الكبرى، سياسياً وعسكرياً، كانت بمعظمها في تلك المرحلة التي امتدت بين عامي 1969 - 1982. العمليات الفدائية، خطابه في الأمم المتحدة، برنامج النقاط العشر، بوادر التسوية، الصمود، الخروج، تكريسه قائداً للمنظمة، العلاقات الدولية... كان حنينه إليهم لا يقل عن حنينهم إليه، فحاول في كامب ديفيد أن يضمن عودتهم، أو جزء كبير منهم، إلى دولته الموعودة، ونجح في تثبيت هذه النقطة، قبل فشل المفاوضات.
وأثناء حصاره بالمقاطعة، كان يسأل عن أحوالهم، وهل تلقوا الرواتب، وغير ذلك. وكان يردد أنهم دفعوا ثمناً غالياً. وكانت قضية تأمين الحماية لفلسطينيي لبنان قد أخذت زمناً أثناء المفاوضات مع فيليب حبيب عام 1982. وربما لم تكن صدفة أن الكثير من القيادات يوم قرر عسكرة الانتفاضة كان ممن صحبهم من لبنان (مروان زلوم، جهاد العمارين، أبو جندل..).
الرعب من الفراغ
في 13 أيلول 1993 كنا شباناً أغضبهم اتفاق أوسلو. التحقنا بتظاهرة جسر المطار الشهيرة. سقط قتلى وجرحى كُثر من حولنا. هتافاتنا تعلو مُدينة الاتفاق، وبشكل مبهم موقّعيه. خرج فلسطيني من بين الحشود يصرخ بأعلى صوته "والزيتون سوّس سوّس، يا عرفات رح تتقوّص". قلة رددوا خلفه. خاننا الصوت في تلك اللحظة. لم أعرف الجواب يومها عن سؤال: كيف نطلق أوصاف الخيانة على اتفاق، ونضفي القداسة على موقعيه، أو نمتنع على الأقل عن إدانتهم؟ كيف لشخص مثلي قضى سنوات ينتقد إدارة عرفات، وتراجعاته، أن يرفض دعوات الاقتصاص منه؟ ربما كان صوت في اللاوعي يخشى الفراغ في أعلى هرم القيادة الفلسطينية.
ربما لعرفات الكثير من الأخطاء والهنّات، لكن يمكن تقسيم تاريخ الفلسطينيين في لبنان خلال خمسين عاماً على إيقاع تاريخ أبو عمار. كانت فترة اليقين هي سنوات حضوره بينهم (1969-1982)، وزمن اللايقين بعد خروجه من بيروت حتى توقيع اتفاق أوسلو (1982-1993)، ثم الشك بحضورهم وذاتهم منذ أوسلو حتى رحيله (1993-2004).
وبعد رحيله جاءت قيادات من مختلف الأطر السياسية لترعى هذا الشك، فيداوم الفلسطينيون عليه، حتى وصل كثيرون منهم إلى مرحلة الإنكار، إنكار أهلية القيادات الموجودة أولاً، وإنكار إمكان التغيير حاضراً، ثانياً. ولا يجدون آلية دفاعية سوى الحنين إلى زمن الختيار.
المدن