لم تكن تعتقد السعوديّة أن حملة التحشيد التي قادتها ضد الجمهوريّة الإسلامية الإيرانية ستؤدي إلى هذه النتيجة الباهتة. الدبلوماسيّة السعودية التي عمدت منذ فترة على مواصلة سياسة التحشيد والتعبئة الدبلوماسية ضد إيران، فشلت حتى في صياغة بيان ختامي يؤدي الغرض المطلوب، ولكن السؤال الأبرز لماذا حضرت إيران وغابت فلسطين؟ ماذا قدّمت هذه القمم للقضية الفلسطينية؟
أثار البيان الذي كان معدّاً مسبقاً، دون اطلاع الدول المشاركة في القمم على تفاصيله حتى لحظة إعلانه، حفيظة العراق الذي سجّل اعتراضه على صياغة البيان الختامي للقمة العربية الطارئة.
التهم السعودية كانت معدّة مسبقاً عبر اتهام إيران بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول عربية.
لا شكّ أن العديد من الدول المشاركة لم تشارك في صياغة البيان الختامي تلبية للرغبة السعودية، إلا أن اعتراض العراق وغياب قطر فعلياً قد نسف البيان الختامي للقمة العربية الطارئة التي دعا إليها الملك سلمان بن عبد العزيز، ولا سيما أن خطاب الرئيس العراقي المشارك في القمة جاء بخلاف ما تريده الرياض حول العلاقة مع إيران الجارة للعراق.
بدا لافتاً محاولة السعودية وضع الملف الإيراني عنواناً للقمم الثلاث، رغم أن السنوات الـ73 الماضية تكشف تصدّر القضية الفلسطينية جدول أعمال القادة العرب في 47 مؤتمر قمة، بخلاف هذه القمّة الطارئة، فهل هناك نيّة سعوديّة لتحويل البوصلة؟ وهل هذا الأمر يرتبط بصفقة القرن؟
إيران لمست الهدف السعودي من هذا الأمر فقد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية عباس موسوي، إن السعودية “تواصل السير بنهج خاطئ في مسار إثارة الخلافات بين الدول الإسلامية، وفي المنطقة، وهو ما يصبو إليه الكيان الصهيوني”.
وأضاف: “إننا نعتبر محاولات السعودية لتعبئة أصوات الدول الجارة والعربية، بأنها تأتي استمراراً لمسيرة عقيمة تمضي فيها أمريكا والكيان الصهيوني ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية”. موسوي أشار إلى أن “السعودية استغلت فرصة شهر رمضان المبارك ومكة المكرمة كمكان مقدّس لأغراض سياسية وأداة لتوجيه اتهامات على لسان بعض المشاركين في الاجتماع ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.
إن المراجعة السريعة للمحطّات التي عشناها خلال العقود الماضية تؤكد تربّع القضية الفلسطينية على رأس الاهتمامات العربية في أوقات الرخاء، فضلاً عن الشدة.
عقدت أول قمة عربية في مصر عام 1946، وكانت القضية الفلسطينية على رأس أولوياتها، وقد حضرتها الدول السبع المؤسسة للجامعة العربية، وهي: مصر، شرق الأردن، السعودية، اليمن، العراق، لبنان، سوريا.
وفي ستينيات القرن الماضي، عقد القادة العرب خمسة مؤتمرات قمة، أولها بمقرّ الجامعة بالقاهرة، والتي تعدّ أول قمة فعلية – وفق مراقبين- عام 1964.
كما شهدت تلك الفترة قمة الخرطوم 1967 إثر الهزيمة العربية أمام الكيان الإسرائيلي في حرب يونيو/حزيران 1967، ودعت لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي، وأطلقت ثلاث “لاءات” عربية، هي: لا صلح، ولا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل.
تلاحقت قمم فلسطين العربية، لتطرح السعودية مبادرة السلام العربية في قمّة بيروت عام 2002، شكّل الطرح السعودي أول حديث عربي عن القدس الشرقية عاصمة لفلسطين المأمولة بدلاً من القدس كلها، وتضمّنت المبادرة حلاً عادلاً لقضية اللاجئين الفلسطينيين دون التأكيد على حقّ العودة بالصراحة المعهودة للقمم العربية.
اليوم، إن اختيار السعوديّة لمكّة نظراً لما تحمله من رمزية دينية لدى العرب والمسلمين لعقد قمم ثلاث عربية وخليجية وإسلامية هدف لحشد أوسع دعم، لكن يمكن القول إن هذا الدعم قد اقتصر على المجلس العسكري السوداني الذي تلقّى دعماً سعودياً بمليارات الدولارات، أي إن موقفه مدفوع الأجر مسبقاً.
للوهلة الأولى قد يظن البعض أن السعودية ستنتصر للقبلة الأولى من خلال قمم القبلة الثانيّة، ولكن الواقع لا يشير إلى تخلّي من يحكمون القبلة الثانية عن القبلة الأولى في الإسلام فحسب، لا بل استغلال الرمزية الدينية لمكة المكرّمة لحرف الأنظار عن الأٌقصى وإعطاء الصبغة الشرعية لصفقة القرن التي أعطت فلسطين للكيان الإسرائيلي.
لو أرادت السعودية إثبات حسن نيتها تجاه القضية الفلسطينية التي تتعرّض لأكبر خطر وجودي منذ العام 1948، لكان بإمكانها أن تعنون القمم “فلسطينياً”، ولو عمدت في طيات بيانها إلى التهجم على إيران، ولكن ما فعلته هو محاولة نقل البندقية العربية إلى وجهة أخرى، رغم إدراكها مسبقاً أن العلاقات بين إيران والكثير من الدول العربية هي أقوى بكثير مما تملكه السعودية مع العرب أنفسهم، نستحضر هنا سوريا والعراق ولبنان واليمن، بل قطر وسلطنة عمان.
اليوم، وبعد وصول الخيارات السعودية في اليمن وسوريا وقطر إلى طريق مسدود، تسعى للعب مجدداً على الوتر العربي الإسلامي، ولو كان هذا الأمر على حساب الشعب الفلسطيني وقضية العرب والمسلمين الأولى.
ربّما نجحت السعوديّة في كسب تأييد الإمارات والمجلس العسكري السوداني والكيان الإسرائيلي، فضلاً عن جون بولتون، لكن الخاسر الأكبر من هذه القمم هو القضيّة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فهل باتت مكّة مكاناً للتآمر على الأقصى بعد أن كانت مكاناً للتآمر على الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؟ هنا نجيب: يبدو أنها باتت كذلك، ولكن كما فشلت المحاولة الأولى في قتل الرسول في مكة، ستفشل المحاولة الجديدة لقتل القضية الفلسطينية في مكّة.
"الوقت الاخباري"