مي رضا
جهودُ سنوات طويلة بذلها خالد وفهد وعبد الله آل سعود لإبقاء المملكة في صورة المدافعة عن الفلسطينيين والداعمة لهم، قرّر محمد بن سلمان إنهاءها بسنة واحدة. هذه الصورة تضررت كثيراً لكن لم تصل إلى حدّ الانهيار، لما للسعودية من اعتبارات كثيرة وقديمة. مع ذلك، يشعر الفلسطينيون أن السكين السعودية في الظهر كانت حادّة ومسمومة
رام الله | على مدار سنوات طويلة مضت، كان وصف «خادم الحرمين الشريفين» يتسيّد وسائل الإعلام الفلسطينية مثلها مثل الإعلام العربي عند تغطية أي خبر «برتوكولي» يتعلق بـ«المملكة العربية السعودية»، لكن اليوم بات هذا المشهد مقلوباً بل «مهزوزاً» في عيون الفلسطينيين، إذ لم يعد النظام السعودي قادراً على حجب حقيقة التطبيع مع العدو الإسرائيلي، أو حتى «التآمر» على القضية الفلسطينية.
وكانت الصورة الإيجابية عن المملكة عند الفلسطينيين تقوم على عدة أركان أولها الواقع الديني للسعودية في ظل وجود الكعبة وقبر النبي فيها، فأصبحت تلقائياً تمثّل «حامية حمى المسجد الحرام»، وتمثيلها قسماً كبيراً من المسلمين السنة على أساس أنها مرجعيتهم، والحرص على تخصيص الفلسطينيين بمكرمات ملكية متنوعة، خصوصاً ما يتعلق بمكرمة الحج لأهالي الشهداء. كما أن العلاقة ما بين الرياض و«منظمة التحرير الفلسطينية» تاريخياً لم تتسم بالعداء علانية، الأمر الذي حافظ على «الصورة الجميلة» لآل سعود. من جهة أخرى، حافظت «مملكة الخير» على دعم مالي تقدمه إلى السلطة على رغم تعرضه لانتكاسات خلال السنوات الثلاث الأخيرة. لكن، بصرف النظر عن كمية الدعم، فإن اسم النظام السعودي لمَع في ذروة الأزمات الفلسطينية إلى جانب الأنظمة العربية كافة حتى تلك التي وقّعت اتفاقات سلام مع إسرائيل، لا سيما في بدايات انتفاضة الأقصى الثانية، حينما تدفقّت المعونات والسلّات الغذائية، وكذلك حملات التبرع على الهواء مباشرة.
نسف الصورة
أخيراً تحوّل «قوس القزح» إلى مشهد أسود، فقد جاء محمد بن سلمان ــ «الدب الداشر» كما درجت تسميته أيضاً لدى غالبية الفلسطينيين ــ ليكشّر عن أنيابه، ويفرِد أوراقه كافة على الطاولة، من ورقة محاولة تصفية القضية والضغوط على السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، إلى ورقة العلاقة «الحميمية» مع الإدارة الأميركية الجديدة برأسها دونالد ترامب وذراعه جاريد كوشنر، وأيضاً إهدار الملايين وإهدائها إلى الأميركيين، وهو ما قلب الصورة لدى الفلسطينيين.
حتى المتدينون والحالات السلفية ــ الجهادية وغير الجهادية ــ في فلسطين، التي ترى في السعودية نموذجها، تواجههم أسئلة صعبة حول «الانفتاح السريع» في ما يخص المرأة السعودية والسينما والاحتفالات. وبمتابعة تعليقات الفلسطينيين حول هذا التحول، بدا أن قصة المكانة الدينية المزروعة في عقول كثيرين قد تبعثرت، بل بعثرتها المملكة بنفسها. والإشكالية ليست مرتبطة بكون هذا التحول مرفوضاً أم لا، خصوصاً أن المجتمع الفلسطيني على رغم محافظته يبقى أكثر تفتحهاً من الحالة في المملكة، لكن السبب يرتبط بكون هذه القرارات متناقضة مع الحشد السلفي الذي قاده شيوخ المملكة خلال الحرب الجارية في سوريا. فهذا كله لا يمثل أساس الأزمة بالنسبة إلى الفلسطينيين، إذ إن حالة الابتزاز السعودية التي مورست بحق السلطة بالتزامن مع إعلان دونالد ترامب القدس «عاصمة لإسرائيل» مثّلت «صدمة» لكثيرين، خصوصاً أنه منذ انتهاء حالة الشتات بالنسبة إلى «منظمة التحرير» بقيت العلاقة جيدة مع المملكة. وجاء ظهور ابن سلمان ليشكّل الضربة القاضية لصورة آل سعود في عيون الفلسطينيين، وإن كان هناك من تمسكّ بتأييد النظام السعودي على رغم حربه المستمرة على اليمن، فإن هذه النسبة لم تعد موجودة بعد طرح ولي العهد عاصمةً جديدة للدولة الفلسطينية متمثلة في حي أبو ديس الذي فصله جدار العدو عن القدس، وهو الطرح الذي لم يجرؤ أي رئيسٍ عربي على اقتراحه.
مع ذلك كله، لا يمكن الحكم بتغير كلي في النظرة الفلسطينية إلى السعودية، خصوصاً أن الأخيرة لا تزال تمثّل في الوجدان الديني تاريخاً طويلاً لا يمكن محوه بسرعة. على رغم هذا، سُجلت بصورة متزايدة مع بداية رمضان الجاري الدعوات في مواقع التواصل الاجتماعي إلى مخالفة صيام السعودية لغياب الثقة بما تقوله، خصوصاً أنه في الوقت الذي أعلن ترامب نقل السفارة، كان ابن سلمان وحده يواصل لقاء الرئيس الأميركي، على رغم تجنب زعماء عرب كثر اللقاء به في هذا الوقت الحساس بالنسبة إلى الفلسطينيين. حتى أن أنباء كثيرة نقلت أن مجموعة MBC السعودية اتخذت قراراً بوقف بث إعلان شركة «زين» للاتصالات، الذي يتضمن عرضاً لعدة قضايا مثل مسلمي الروهينغا في بورما، والمأساة السورية، ويتطرق ببساطة إلى مسألة أن القدس عاصمة لفلسطين، حينما يطلب الطفل العربي في الإعلان من ترامب أن يفطر في القدس. وعلى رغم أن الإعلان لا يسيء إلى السعودية، فإنه لعوامل عدة لاقى حظراً لدى قنواتها.
الشعرة التي قصمت...
لا يضيع الشك الفلسطيني هباء في كون السعودية، ودول عربية أخرى، مشاركة في «صفقة القرن». وتزامن ذلك مع جملة من تصريحات سعودية، رسمية كمهاجمة «حماس» أو إعلامية وتاريخية كما صدرت عن عدد من الباحثين والصحافيين، وأغضبت الفلسطينيين بمجملها. كما أن تصعيد الخطاب بمعاداة إيران مقابل التهدئة مع إسرائيل لا يروق حتى لأكثر الرافضين للدور الإيراني في فلسطين. ومن الصعب أن يمر خفيفاً وصف ابن سلمان لإسرائيل بأنها «الدولة ذات الاقتصاد القوي مقارنة بحجمها، وتتمتع السعودية بمصالح قوية ومشتركة معها»، في بداية نيسان الماضي لمجلة «ذا أتلانتيك» الأميركية. أما التصريح الذي جعله «كمن يُطلق النار على نفسه»، فهو ما كشفته صحيفة «نيويورك تايمز» عن اقتراحه منح الفلسطينيين أبو ديس كعاصمة بدلاً من «القدس الشرقية».
آنذاك، قالت الصحيفة إن «السعودية ــ من خلال بن سلمان ــ عرضت مبادرة سلام جديدة تتضمن مسألة أبو ديس كعاصمة، إضافة إلى حصول الفلسطينيين على دولة على بعض أراضي الضفة وليس كلها، بسيادة محدودة، مع بقاء معظم المستوطنات التابعة للعدو، وإلغاء حق عودة اللاجئين، في المقابل يحصل الفلسطينيون على دعم مالي سخي فوري». ومع أن السلطة الفلسطينية نفت ذلك، فإن جملة من قياديي حركة «فتح» أكدوا جزءاً من هذا المضمون لاحقاً.
واللافت أن اللجان الإلكترونية التابعة للنظام السعودي شنّت حملة آنذاك، وأطلقت هاشتاغ «الرياض أهم من القدس»، فيما ردّ الفلسطينيون بـ«القدس عاصمتنا»، و«القدس عاصمة فلسطين». أيضاً، لم يكن حال الكتّاب أو المؤسسات الموالية لآل سعود أقل سوءاً، إذ تجرأت صحيفة «إيلاف» السعودية على استضافة وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، مرتين خلال أقل من نصف سنة، إضافة إلى مسؤولين إسرائيليين آخرين، فيما ظهرت شخصيات سعودية للمرة الأولى عبر شاشات التلفزة التابعة للعدو، وهي تبدي تفاخرها بالعلاقات «الحميمية» والمصالح المشتركة، فيما بادرت شخصيات أخرى إلى إنكار وجود فلسطين نهائياً عبر بعض شاشات التلفزة الخليجية.
في المقابل، سارع ابن سلمان إلى الحفاظ على ما تبقى من صورة السعودية، وكان هذا واضحاً بإعلانه المفاجئ دعم موازنة السلطة أكثر من مرة خلال شهور، إذ نقلت مصادر إعلامية في 22 شباط الماضي أن الرياض ضاعفت دعمها وقدّمت 40 مليون دولار أميركي عن شهرين ماضييْن، وهما الشهران نفسهما اللذان التقى فيهما ابن سلمان مع محمود عباس.
الرفض فصائلي أيضاً
حالة الغضب الفلسطيني من السعودية لم تقتصر على ناشطي مواقع التواصل، بل شملت شخصيات عامة ونخبوية فلسطينية، على رغم أن للمملكة حظوة كبيرة بين الكتاب وأساتذة الجامعات. وللمرة الأولى منذ عقود، كانت للفصائل مواقف واضحة من التطبيع السعودي مع إسرائيل، إذ وصفت حركة «الجهاد الإسلامي» تصريحات ابن سلمان (في شأن إسرائيل) بـ«الانحدار غير المسبوق الذي تعيشه الأنظمة العربية الرسمية، وتعكس جهلاً واضحاً بجوهر الصراع الممتد منذ سبعة عقود».
أما «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، فقالت إن تصريحات ابن سلمان «تكشف الدور الخبيث للنظام السعودي في ضرب الاستقرار في المنطقة العربية خدمة للأهداف الأميركية ــ الصهيونية»، مضيفة أن هذه التصريحات «تكشف الدور الوظيفي الجديد لمحمد بن سلمان كعرّاب لصفقة القرن». أيضاً، رفضت «حماس» الخطوات السعودية الأخيرة، ومهاجمة الرياض لها أكثر من مرة.
حتى «فتح» صدرت عنها تصريحات قالت فيها إن ما يحدث «يشجع العدو على رفض إتمام عملية سلام تستند إلى كل الحقوق الفلسطينية، بعد أن أخذ الضوء الأخضر من الدول العربية لتطبيع قادم». وقد وصل حديث ابن سلمان إلى إحراج أصحاب خيار التسوية، حينما قال إن «للفلسطينيين والإسرائيليين الحق على حد سواء في تملك أراضيهم»، طالباً حتى من الفلسطينيين أن يعادوا طهران، حينما قال: «إيران هي العدو الرئيسي للجميع».
(الاخبار اللبنانية)