إن ما يشهده العالم الآن من تحولات جذرية في بنيته السياسية، واتباع منهجية جديدة في توزيع الأدوار، خصوصًا ما فرضه الواقع الدولي بتقنين هيمنة الولايات المتحدة، واتجاه العالم نحو عالم متعدد الأقطاب يشتمل على قوى عظمى، وقوى إقليمية صاعدة؛ ما قد يساعد إلى حد ما في وضع توازنات جديدة للعالم المنشغل في صراعاته، خصوصًا صراعات المنطقة العربية، فالصراع اليوم في الوطن العربي يعتبر أحد أبرز التحولات التي ستؤول بالعالم صوب عالم جديد، لكن العرب أنفسهم من بين كل ذلك إلى أين يتجهون؟
السعودية ومصر
إن أبرز الرؤى المستقبلية للواقع العربي ترتكز على المشروعات التنموية، وخصوصًا التي تقدمها السعودية في مشروعها (نيوم) الذي يمتد على مساحة 26.500 كم، ويشمل جزءًا من أراضي مصر والأردن داخل المشروع، وهو ما يعزز موقع السعودية متكئة على فرضية أنها من سيقوم بالاستثمار داخل المشروع، فقيمة 500 مليار دولار التي خصصتها السعودية للمشروع خلال فتراته اللاحقة ستجعل للسعودية موقع التأثير الإقليمي، خصوصًا لدى دولة وازنة مثل مصر؛ وذلك لأن المشروع يحمل جزءًا من الأراضي المصرية على البحر الأحمر، ولأن مصر أيضًا مقبلة على مشروع تنموي يعرف برؤية مصر للعام 2030.
وهو ما سيجعل من مصر في الفترة اللاحقة تعتمد على عملية البناء الداخلي أكثر من موقعها التأثيري، الذي ربما ستوفره لما بعد خروجها من الأزمات الداخلية التي تواجهها، فهي تتعافى من الحالة التي تلت أحداث ثورة الـ25 من يناير (كانون الثاني)، والتي عملت على تبديل أولويات مصر، لتتجه في الأساس إلى الداخل، بالإضافة إلى مكافحتها للإرهاب داخل سيناء والعملية العسكرية داخلها؛ ما سيجعل من السعودية مقبلة على نوع من القيادة المنفردة للمنطقة العربية، ربما سيلحقها لاحقًا تأثير للعراق وسوريا بعد انتهاء أزماتهما ولحين تعافي مصر.
سوريا والعراق
الأحداث في سوريا ستؤثر بشكل كبير على وضع سوريا كدولة مؤثرة، فسوريا التي كانت تعرف في السابق بمفهوم الدولة السورية انتهى تقريبًا، وستتلوها سوريا جديدة ستكون على مقاس المفاوضين الدوليين، وخصوصًا روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا، وربما سيعزز ذلك موقعها فيما بعد، خصوصًا أنها ستخرج من نفق كان من الصعب الخروج منه بدون التدخل الروسي المباشر، وهو ما سيؤدي بالضرورة لإعادتها لموقعها المهم، خصوصًا إذا كان هناك نوع من التعاون مع العراق: شريكها في القضاء على الإرهاب التكفيري؛ فموقع العراق بعد القضاء على (داعش) ليس كما في السابق عراق غير مستقر يبحث له عن هوية، ربما قد وجدها بعد القضاء على الإرهاب وإحباطه لمحاولة الانفصال في إقليم كردستان العراق، الذي أعطى للحكومة العراقية في بغداد موقع أقوى وأكثر تأثيرًا، بعد التفاهمات مع الإقليم، وإجباره على الانصياع للإجماع العام وعدم الخروج عنه.
دول المملكة المغربية العربي
في شمال أفريقيا لربما سيتشكل نوع من التفاهمات بين أعضائه، وخصوصًا في ملف مكافحة الإرهاب، الذي قادته تجربة الجزائر إلى نوع من قيادة مغاربية موحدة في ملف الأمن، ومع صعود الديمقراطية في تونس ستصاب دول الجوار بالعدوى ولو بشكل بطيء، فبدأ ذلك يصبح ملحوظًا، فبعد الثورة التونسية ليس كما قبلها، وربما أهم ما يعزز مفهوم التعاون الأمني بين الدول المغاربية هو الحالة الليبية، والتي تعتبر ساحة مهمة للصراعات العربية بجانب سوريا واليمن، فالقضاء على الإرهاب في ليبيا وضمان عدم انتقال العناصر التكفيرية منه إلى دول الجوار يشكل الهاجس الرئيس الذي يشغل الدول المغاربية، التي تعمل بقيادة تونس على وضع رؤية ديمقراطية يمكن أن تتعمم على الأمد الطويل، وبقيادة الجزائر على وضع مفهوم أمني مشترك، تحت هامش أن الدول المغاربية جميعها ستتأثر لا محالَ فيما يحدث داخل أية دولة من دولها.
اليمن
في اليمن تبدو الحالة معقدة أكثر من المحتمل، فالنزعة الانفصالية التي عادت لدى بعض الجنوبيين، بالإضافة للتدخل السعودي والإماراتي في صنع القرار وفق رؤى قد تكون مختلفة بينهما، وفقًا لمصالح هذه الدول، وزيادة على ذلك التدخل الإيراني الذي يجعل الأزمة الخليجية مع إيران تشكل من اليمن ساحة صراع مصغرة، والخاسر من كل ذلك يكون دائمًا الشعب اليمني، الذي ينتظر انتهاء الأزمة ليرى إلى ما سيصل إليه اليمن الجديد، فعلى الأغلب ستصل الأطراف المتنازعة إلى حل معين، ولكنه سيكون صعبًا، وسيتطلب ضمانه الكثير من التنازلات لدى الأطراف، إضافة لرضا الأطراف الدولية السعودية والإمارات وإيران، وسيتلو ذلك عملية إعادة إعمار وتنمية تقودها دول الخليج كأحد نتائج التفاهمات المحتمل حدوثها في نهاية المطاف، فيقع على اليمنيين أخيرًا مسؤولية ضمان عدم تقسيم اليمن وإعادة اليمنيين لقرارهم المستقل داخل اليمن، ووضع دستور جديد يحمل مفهوم يمن موحد خارج من أزماته بنضج.
قطر والأزمة الخليجية
في الحالة القطرية قطر ما بعد الأزمة الخليجية تختلف عن ما قبلها، فأصبحت تشبه قطر أخرى فرضتها المقاطعة من دول الجوار ومصر، وربما ستستفيد قطر من الأزمة بتبرير تعاملاتها مع إيران كما تفعل الآن وعلى الأمد البعيد، بتبريرها أن واقع الحصار فرض عليها ذلك، ولن تستطيع التراجع، بالإضافة لبحثها عن استثمارات خاصة بها كدولة منعزلة عن توجه دول مجلس التعاون، خصوصًا السعودية والإمارات والبحرين؛ ما سيجعلها فيما بعد تشكل حالة موازنة مع كل من عُمان والكويت لوضع آلية للتحرير الاقتصادي والانفتاح على دول العالم، خصوصًا أن قطر ستستفيد من الطلب على الغاز الذي سيزداد بشكل كبير مستقبلًا، فالعالم يتجه لاستبدال النفط بالغاز؛ ما سيجعل قطر من الاقتصادات الصاعدة، بالإضافة إلى استقبالها لكأس العالم في العام 2022؛ ما يجعل مركزها متقدمًا عالميًا بأشواط.
القضية الفلسطينية وصفقة القرن
القضية الفلسطينية تمر بأوقات صعبة، وما هو متوقع قد يكون أصعب إذا بقيت الدول العربية مرتهنة للقرار الأمريكي، وتعمل على نسج تحالفات إقليمية مع دولة الاحتلال، فالمتوقع أن يتم العمل على تصفية القضية الفلسطينية وفق حلول أمريكية وربما بمشاركة عربية بما يعرف اليوم بصفقة القرن.
وما لم يتم مواجهته بشكل حازم فلسطينيًا فالقادم صعب جدًا، وخصوصًا أن التوقعات تقول إن أبا مازن لم يتبق له الكثير في حكم السلطة، فما بعد مرحلة أبي مازن ليس كما قبلها، خصوصًا في ملف الانقسام الفلسطيني الذي لم يحل بعد؛ ما يضعف الموقف الفلسطيني، ويجعل من الصعب مقاومة الأهداف الأمريكية لعملية تصفية للقضية، وخصوصًا قضية القدس التي توجها ترامب مؤخرًا بالاعتراف بها عاصمةً إسرائيلية، والذي تبعها بقضية اللاجئين وتقليص المساعدات للأنوروا ومحاولة إعادة تعريف لمعنى اللاجئ، بما يمس قضيتي القدس واللاجئين اللتين تعدان عماد الصراع العربي الصهيوني.
فإيجاد حل بهذه الطريقة سيخرج الشعب الفلسطيني من حالة الجمود الذي أصابه نتيجة التراكمات التاريخية، وحالة العجز الذي نشأت من العنهجية الصهيونية بالتغلغل في أراضي الضفة، وإقامة المستوطنات وحصار غزة، ولكن على المستوى التاريخي الشعب الفلسطيني شعب حي، وسيجد طريقه في مواجهة عملية تصفية القضية، من أوجه ذلك تنامي حالة المقاطعة الثقافية الدولية لإسرائيل بقيادة حركة (BDS)، وخصوصًا في أوروبا، وبداية تأثيرها في الولايات المتحدة ومحاولة اللوبيات اليهودية هناك تجريمها؛ مما سيعزز ذلك من مسألة تحرير الرواية الفلسطينية من حالة التعتيم الإعلامي المتبع منذ قيام دولة اسرائيل هناك، وإضافة نوع من التأثير على قرار الدول الأوربية نتيجة الوعي العام الأوروبي بحقيقة الصراع العربي الصهيوني؛ ما سيدفعها فيما بعد بالخروج عن القرار الأمريكي ومحاولة الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 67، بعد التعنت الإسرائيلي المحتمل أن يبقى طويلًا.
في ظل التحولات التي تعيشها المنطقة، من المهم أن تبني الدول العربية لها موقعًا متقدمًا، ومحاولة الخروج من الهيمنة الأمريكية على المنطقة ودفعها للتطبيع المباشر مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية، وهو ما سيعزز التبعية العربية، بدلًا عن الخروج إلى موقع أكثر قوة في العالم الجديد، وذلك باحتضانها للقضية الفلسطينية ودفعها لتكون على أولوية القضايا العربية، بدلًا عن إرجاعها للوراء عبر تجربة تجديد الأزمة السورية من وقت لآخر وغض النظر عن ليبيا واليمن والانشغال بالأزمات المستمره الداخلية والصراعات الوهمية.
المصدر : ساسة بوست