بقيت الأردن بمنأى عمّا يجري في المنطقة محافظةً على استقرارها وأمنها عن طريق علاقاتها الوسطية والجيدة في بعض الأحيان مع أغلب الدول الإقليمية والكبرى، واستطاعت أن تصنع معادلة جيدة مكنتها من إبعاد خطر ثورات “الربيع العربي” عن أراضيها من خلال بناء تحالفات جيدة مع الدول الخليجية بالإضافة إلى تقديم الطاعة للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن الأخيرة تغدق على الأردن مساعدات مالية ضخمة منذ اتفاق “عربة” للسلام في العام 1994.
ولكن في 6 ديسمبر من العام الماضي وضعت الأردن على المحك بعد القرار الذي أصدره الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب والذي اعترف من خلاله بأن القدس عاصمة “إسرائيل”، الأردن لم تبخل على الفلسطينيين بإظهار تضامنها معهم ورفضها للقرار إلى جانب 128 دولة خلال التصويت عليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكثر من ذلك حاربت الأردن القرار وخرج شعب الأردن بمظاهرات ضمّت الآلاف من أبناء الأردن الذين نددوا بالقرار واعتبروه مجحفاً وغير عادل ويقوّض عملية السلام.
أما الحكومة الأردنية وعلى رأسها الملك عبدالله الثاني، لم تعر أي اهتمام للدول الخليجية وخاصة السعودية والإمارات اللتان حثتا الملك عبدالله على عدم حضور اجتماع منظمة التعاون الإسلامي بشأن القدس في مدينة “إسطنبول”، ومع ذلك لم يهتم الملك الأردني بضغوط ابن سلمان عليه وذهب وحضر الاجتماع، ولكن هل بقيت الأردن على هذا الخط وعلى نفس النهج الذي بدأت فيه بعد قرار ترامب بشأن القدس، أم رضخت للضغوط ؟!
أولاً: الأردن تعاني من ضغوط اقتصادية كبيرة منذ عقود عدة ومازالت حتى اللحظة تعاني ميزانيتها السنوية من مشكلة الدين الدائم، والولايات المتحدة تعلم ذلك جيداً، لذلك لن تدخر جهداً في الضغط على المملكة في هذا الملف في حال لم ترضخ لقراراتها أو على الأقل تسكت عنها، ومن خلال مراقبة بسيطة للعلاقات الأمريكية – الأردنية نجد أن واشنطن تمارس على عمان “سياسة العصا والجزرة”، فهي لا تعطيها أي وعود مطلقة ولا حتى توقع معها عقوداً دائمة وفي نفس الوقت لا تتخلى عنها لأنها تعلم جيداً مدى تأثيرها في موضوع القضية الفلسطينية، لذلك من مصلحة واشنطن أن تجذب عمان إلى صفها بجميع الوسائل الممكنة وهذا ما حدث.
ثانياً: تم توقيع “مذكرة تفاهم” بين الولايات المتحدة والأردن خلال اجتماع عُقد في عمّان في 14 شباط/فبراير، حيث وقع وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون على “مذكرة تفاهم” بشأن المساعدات الخارجية مع نظيره الأردني أيمن الصفدي. وقال تيلرسون “إن توقيع مذكرة التفاهم يُعد اعترافاً من الولايات المتحدة بهذه الشراكة العميقة مع الأردن، وإشارة للعالم أن الشراكة الأردنية الأمريكية أقوى من قبل”.
وتُحدد “مذكرة التفاهم” التزاماً جديداً أمده خمس سنوات بقيمة 6.375 مليارات دولار “1.27” مليار دولار سنوياً” ابتداءً من السنة المالية 2018 وانتهاءً بالعام المالي 2022 – بزيادة سنوية قدرها 275 مليون دولار مقارنة بالسنوات الثلاث السابقة.
هذا الكلام يعني أن الولايات المتحدة غير ملزمة أبداً بتقديم الدعم المالي للأردن بشكل دائم، وبهذا تكون واشنطن قد أجبرت عمان على البقاء في حضنها ومنعها من التغريد خارج السرب وفي نفس الوقت قد تزول العلاقة بينهما وفقاً للمصالح والتغيرات الجديدة التي قد تطرأ على المنطقة، وفي هذا الإطار يرى حسين ميمنة أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون أن اهتمام الغرب بالأردن يعود لقضايا كلها توجد خارج الأردن، ويشرح ذلك في حوار مع dw عربية بالقول: “السبب الأول لاهتمام الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة بالأردن هو إسرائيل، فالولايات المتحدة تسعى إلى جعل الدول القريبة من إسرائيل صديقة لها، أي إن العلاقة مع الأردن ليست أصلية وإنما متعلقة بالحرص على مصالح إسرائيل بالأساس”.
ثالثاً: المساعدات الأمريكية جاءت مكافأة لتراجع الأردن عن موقفها حيال القدس أو على الأقل التغاضي عنه، وهذا الكلام ظهر في تصريحات الملك نفسه ولم يكن سرّاً على أحد، وبرز أول تراجع للملك في شهر يناير الماضي، حيث قال: ” إن القدس ليست مسؤولية الأردن وحده، بل مسؤولية مشتركة مع المجتمع الدولي”، وإن “مصلحة بلاده فوق كل الاعتبارات”.
وخلال المنتدى الاقتصادي في دافوس قال الملك عبد الله الثاني في تصريحات متلفزة: ” إن دور الولايات المتحدة يبقى ضرورياً لأي أمل بحل سلمي بين إسرائيل والفلسطينيين، وأضاف: “لا يمكن أن تكون لدينا عملية سلام أو حل سلمي بدون دور الولايات المتحدة”.
هذه التصريحات تظهر حجم الضغوط التي تعرضت لها المملكة لثنيها عن موقفها وجعلها ترضخ، وظهرت نتائج هذه الضغوط من خلال تصريحات الملك عبدالله وإعادة فتح السفارة الإسرائيلية تدريجياً بعد أشهر من الإغلاق على خلفية حادث مقتل 3 أردنيين على يد حارس أمن بالسفارة.
الأردن تراجعت إلى حد التماهي مع واشنطن في جميع قراراتها، فهي تعلم أنها لا تستطيع تحمّل العزلة لمدة طويلة من الزمن، خاصة من الخليجيين والأمريكيين، وبالتالي كان لابد لها من أن تغيّر مواقفها السياسية لمصلحة انعاش اقتصادها المتزعزع.