2024-11-30 06:30 ص

القدس بين «عقل رجل الأعمال» و«روح الإمبراطورية»

2017-12-22
جمال الشلبي

يبدو أن وصول دونالد ترامب إلى الحكم في نهاية عام 2016، في ظروف أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها «غير طبيعية» تزامن مع عملية التحولات السياسية الجذرية في السعودية باستبعاد العديد من «ولي العهد أو ولي ولي العهد» الأمر الذي ساهم بوصول الأمير الشاب محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد في 21 حزيران/ يونيو 2017.

وعلى الرغم من اختلاف طبيعة النظامين السياسيين في كلا البلدين، إلا أن تشابه الطموحات بين المسؤوليين ساهم، بشكل أو بآخر، في الوصول إلى ما يسمى «صفقة العصر» التي جرى التوافق عليها في القمة السعودية – الأميركية في أيار/ مايو 2017 كعنوان لطبيعة العلاقة المستقبلية بين البلدين على المستوى الثنائي والإقليمي، والتي كان أحد أركانها - كما يُستشف - إعلان السيد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس مع «صمت موزون» من جانب «الملك الفعلي» الأمير محمد بن سلمان.
ولذلك، فإن السؤال المهم الذي يطرح نفسه في هذه اللحظات: هل تتقاطع مصالح رجل الأعمال ترامب والأمير الطموح «الإمبراطور الجديد» لكي يكتبا «تاريخ المستقبل» لمنطقة الشرق الأوسط بالعموم والشرق العربي بالخصوص عبر «بوابة القدس» بحيث يسعى الثاني بالطلب من الأول إلى إلغاء قراره المتعلق بالقدس مقابل ثمن يمكن التفاوض عليه يخدم الطرفين؟
بدايةً، لا بد من القول إنه في ظل الضجة الكبيرة التي سببها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس يوم الأربعاء 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وفي ظل ردود الفعل الغاضبة والكبيرة وغير المتوقعة في العالم التي وصلت إلى 1200 تظاهرة في يوم واحد بمشاركة آلاف بل وملايين المحتجين على هذا القرار، من عمان إلى مدريد، ومن رام الله إلى باريس، ومن تونس إلى طهران، ومن القاهرة إلى بكين، ومن دمشق إلى هافانا، ومن بيروت إلى موسكو، تضاعفت التكهنات بنتائج هذا القرار؛ فمنهم من توقع انتفاضة جديدة، والبعض الآخر توقع انهيار عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين المتعثرة أصلاً، وهناك من يظن أنه ستكون انعكاسات خطيرة لهذا القرار على الاتفاقيات الموقعة أصلاً بين الدولة العبرية وبعض الدول العربية مثل: معاهدة «كامب ديفيد» 1978 أو معاهد «وادي عربة» 1994.
وهكذا، يبدو أن الجميع - أو على الأقل الأغلبية - استبعدوا فرضية عودة الرئيس ترامب عن قراره الذي يمثل، بشكل أو بآخر، قطيعة مع سابقيه من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية الذين ترددوا في تنفيذه رغم إصداره من جانب مجلس الشيوخ الأميركي في عام 1995: فهل فعلاً يمكن تصور عودة الرئيس عن قراره بأن يقول مثلاً: «آسف، لم أعتقد أن هذا القرار سيعزل أميركا عن العالم، وسيضعف حلفائي في المنطقة؛ ولذلك أعتذر واقلب الصفحة، وأعود إلى المربع الأول»؟ والسؤال الثاني الذي يمكن طرحه ويسير في الاتجاه نفسه: من هو الشخص أو الهيئة أو الدولة القادرة على أن تُقنع الرئيس ترامب بأن يعود عن قراره أو تجميده أو تأجيله، على الرغم من تأكيد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أن التنفيذ سيكون بعد عامين؟!
قد يبدو تصور كهذا أنه أقرب ما يكون «للمسرحية» الغبية أو الساذجة، حتى لو أن السياسة وألاعبيها المختلفة علمتنا أن كل شيء ممكن، خاصةً إذا كان الواقع يخبرنا - بعد ما يقارب من العام على سدة حكم أقوى دولة في العالم - أن أهم السمات الأساسية لـ«سيد البيت الأبيض» أنه رجل أعمال محنك، وذكي، ومفاوض عنيد لتحقق صفقاته من دون أن يعني ذلك أنه رئيس حكيم، ورفيع، لدولة تهيمن على الشأن السياسي والاقتصادي العالمي؛ وربما صفقة القرن في السعودية ونتائجها الإيجابية لمصلحة ترامب تؤكد قدراته!
ومع ذلك، لا يمكن تصوّر، نظرياً ومنطقياً، أن السيد ترامب سيتراجع عن قراره إلا من خلال «النافذة السعودية»، ولا سيما عبر أميرها الشاب «الملك القادم» الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، ووزير الدفاع القوي.
من هذه الزاوية، أعتقد شخصياً أن قرار ترامب كان «قراراً تكتيكياً أكثر منه قراراً استراتيجياً» بهدف الإيقاع بـ«الصيد الثمين» المتمثل بالمملكة العربية السعودية التي استطاع أن يحلبها بالتهديد بتطبيق «قانون جاستا» عليها أثناء حملته الانتخابية في نهاية عام 2016، ما دفع السعودية إلى المسارعة - بعد فوزه وتنصيبه رئيساً في بداية عام 2017 - إلى تقديم الأموال له رغبة منها وليس بإجبارها على دفع مبلغ 460 مليار دولار أميركي إلى الآن!
وبناءً على هذا التسلسل للعلاقة بين البلدين من خلال ترامب – بن سلمان، لا يمكن الأول اتخاذ قرار بمثل هذا الحجم (نقل السفارة) وهذه الحساسية على المستوى العربي والإسلامي إلا بموافقة الثاني ليحقق هدفين كبيرين - قد يبدوان كأنهما متناقضان في حين أنهما متكاملان - لرجل لا يمكن الولوج بسهولة إلى «الغرفة السوداء» لعقله الغض سياسياً، وهما:
1. إرضاء شريحة واسعة من قاعدته الانتخابية إضافة إلى إرضاء اللوبي الصهيوني وإسرائيل بعد العزلة الدولية التي شهدها الكيان الإسرائيلي على مستوى الرأي العام الدولي واليونسكو، علماً بأن 63% من الشعب الأميركي ضد هذا القرار كما تقول استطلاعات الرأي الأميركية نفسها!
2. بعث رسالة مباشرة للأمير الطموح مفادها أنه إذا أراد أن يُحقق رغبته في بناء دولة – إمبراطورية إسلامية في السعودية في ظل حكمه القادم - الذي يعد له جيداً هذه الأيام - فعليه أن يكمل التريليون؛ أي 540 مليار دولار إضافية، الأمر الذي سيبرز الأمير سلمان «الإمبراطور الجديد» بأنه الوحيد الذي استطاع أن يعيد «العم ترامب» إلى جادة الحق والحقيقة؛ ما يعطيه دفعة قوية من القوة المعنوية والمادية على المستويين العربي والإسلامي وربما العالم، خاصةً في ظل ردود الفعل القوية والعنيفة إزاء القرار.
وبالتأكيد، لا بد أن ترامب وإدارته الجمهورية فكّوا شفرة «فكرة الإمبراطورية الإسلامية» التي يقودها الأمير بن سلمان ويحلم بها ساعياً إلى تحقيقها على أكثر من صعيد عبر العديد من السياسات والقرارات المختلفة:
ــ الرياض، عاصمة القمم: إذ لا يمكن تفسير تنظيم ثلاث قمم في آن واحد في العاصمة السعودية في 20-21 أيار/مايو 2017 (قمة أميركية سعودية، وقمة أميركية - خليجية، وقمة أميركية - إسلامية)، وإبرام «صفقة العصر» - التي اعترف وزير الخارجية الروسي بأنه لا يعرف عنها شيئاً - إلا بالرغبة الجامحة لدى القيادة السعودية بإبراز «قوتها الكامنة» التي يمكن السيد ترامب الاعتماد عليها، ما يجعلها أن تُحيي - بشكل أو بآخر - اتفاق روزفلت - عبد العزيز في عام 1945 الذي انتهي أو على وشك، والذي كان ينص على «تأمين النفط مقابل تأمين النظام».
تغيير الاستراتيجية العسكرية: فبعدما كانت السعودية تمنع نفسها من التدخل العسكري خارج نطاقها الجغرافي، بدأت منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز ووزير دفاعه بخلق تحالف عسكري في اليمن مشكل من 10 دول تحت مسمى «عاصفة الحزم» منذ 25 آذار/ مارس 2015، وما زال. وهكذا طوّر «الإمبراطور الجديد» ابن سلمان الاستراتيجية العسكرية السعودية من الدفاع إلى الهجوم مهما كان الثمن!
ويمكن اعتبار عملية إجبار رئيس الوزراء اللبناني السيد سعد الحريري على تقديم استقالته من الرياض في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر على أنها «رسالة» ليس للبنان فقط، بل لإيران ومؤيديهما، بأن السعودية ستطبق سياسة «إما معنا أو ضدنا»، وأنها قادرة على تدفيع الثمن لكل من يسعى إلى مواجهتها داخل أراضيها؛ وهذا أمر جديد في السياسة السعودية.
ــ بناء التحالفات: بعد التحالف العشري (10 دول) ضد اليمن، تسعى القيادة السعودية الجديدة ببناء «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب» والمشكل من 41 دولة إسلامية، ومقره الرياض، ويسير ضمن توجهاتها بقيادة قائد الجيش الباكستاني الأسبق رحيل شريف كي تبرز نفسها بأنها تقود معسكراً سنياً قوياً ومن كافة الدول في مواجهة الإرهاب من ناحية وإيران من ناحية أخرى!
ــ توحيد شبه الجزيرة: «لا صوت يعلو صوت السعودية» في شبه الجزيرة العربية، فبناءً على هذا الشعار سعت السعودية للحد من «المشاغبات القطرية» بلائحة من 13 بنداً تتناول دعم قطر للإرهاب، والتقارب مع عدو مجلس التعاون الخليجي اللدود إيران، ودور «الجزيرة» التخريبي، وغيرها. ولذلك قررت السعودية بصحبة الإمارات العربية المتحدة، ومصر، والبحرين محاصرة قطر سياسياً واقتصادياً من دون أن يصل ذلك إلى التدخل العسكري منذ 5 حزيران/ يونيو من هذا العام وإلى الآن.
ــ ترتيب البيت الداخلي: بغضّ النظر عن الأهداف المعلنة أو المبطنة لسياسة محاربة الفساد في السعودية بقيادة الأمير ابن سلمان التي شملت شخصيات من العائلة المالكة وصل عددها إلى 11 أميراً من الحجم الثقيل، إلا أن هذه الأهداف تُبرز حجم الإصرار الذي يمتلكه الأمير الشاب في تصفية منافسيه وأعدائه في الداخل - سواء أكانت حجة الفساد مقنعة للبعض أم لا - قبل الوصول إلى الحكم لتحقيق حلمه في بناء مشروعه السياسي الذي يجعله يقترب في مسعاه من جده عبد العزيز في بدايات عهده في ثلاثينيات القرن المنصرم.
ــ خطة اقتصادية واجتماعيةً: عبر الخطة الإستراتيجية المعروفة بخطة «2030» والتي يمكن من خلالها، نظرياً، التحرر من عقدة الاعتماد الكامل على النفط، وبناء دولة مؤسسات، واقتصاد حر مستقل وقوي يستطيع من خلالها الأمير بن سلمان من تمويل حلمه في بناء هذه الامبراطورية التي تجد شرعيتها في وجود الحرميين الشريفيين واتجاه مليار ونصف في صلواتهم لها.
فهل يُوقع التاجر الذكي جداً «بن ترامب» الأمير الشاب بن سلمان في قراره «التكتيكي» ويدفعه لكي يدفع أكثر وأكثر ما يفرغ الدولة السعودية من بقية ما لديها من أموال قد تحتاجها في الأوقات الصعبة القادمة بعد نفاذ النفط، أم أن الأمير «الامبراطور الجديد» سيتجاوز فكرة «عظمة الأمبراطورية» المكلفة مالياً وسياسياً ويقبل أن يعيش كما كان أباؤه وأجداده في دولة مهمة بين دول أخرى لا تقل أهمية عنها؟!
* كاتب أردني