2024-11-14 06:04 م

المذكرات الكاملة لوزير الخارجية المصري الاسبق أبو الغيط.. لماذا تراجع دور الدكتور أسامة الباز؟

2013-01-03
المصدر: صحيفة الوطن المصرية

الحلقة الاولى
مقدمة لا بد منها..

تملكتنى الحيرة والتساؤلات وأنا أمسك بالمذكرات الضخمة لوزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط، وتدافعت التساؤلات فى رأسى، هل يملك الرجل ما يستحق النشر الآن؟ وبأى أسلوب سيتناول الحقائق؟ هل سيدافع عن مبارك ونظامه بصفته كان جزءاً منه؟ ماذا سيقول عن سياسة مصر الخارجية فى تلك الفترة؟ وغيرها الكثير من الأسئلة، التى لم تهدأ إلا مع انتهائى من قراءة الكتاب، لتحل محلها رؤية جديدة عن تلك المرحلة فى تاريخنا، وبخاصة ما يتعلق منها بسياستنا الخارجية التى عبر عنها السيد أبوالغيط بأسلوب محدد، لأدرك أننا بحاجة لإعادة قراءة تلك المرحلة التى تنتمى لنظام مبارك، ولتوثيق التاريخ وتسجيله لكل المصريين عبر معرفة السلبيات والإيجابيات التى شابت تلك السياسة لا عن تحيز ولكن عن تحليل وفهم. ومن هنا تأتى أهمية مذكرات وزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط التى تُنشر قريباً تحت اسم «شهادتى.. السياسة الخارجية المصرية 2004-2011». فإلى جانب كونه أول من يتحدث من مسئولى تلك المرحلة، فإن قراءة تلك الأوراق تمنحنا الفرصة لنعرف أين كنا وأين أصبحنا وماذا نريد أن نكون. ومع بدء عملية إنتاج الكتاب، تواصلت فى جلسات عديدة مع السيد أحمد أبوالغيط، فى شقته بالطابق الثالث بأحد العقارات المقابلة للكلية الحربية بحى مصر الجديدة، نتناقش فى مضمون الكتاب، وما جرى من أحداث، يحكى عنها فيقنعنى فى أجزاء ويتقبل نقدى فى مواقف أخرى، ويعترف بالخطأ فى مرات، ويشرح الأسباب فى مرات عدة. أقول له: «ليتك تكلمت كما تتكلم الآن»، فيجيب بهدوء: «المسئولية تحدد عباراتك وتقيدها بإطار المسموح والممنوع، وبخاصة فى بلادنا التى لم تعرف، وأظن أنها لن تعرف، شفافية الطرح». تطول بنا الأحاديث وتمضى أسابيع طويلة استغرقها إعداد كتاب السيد أحمد أبوالغيط، الذى أشرف اليوم بعرض أجزاء منه على حلقات فى جريدة «الوطن»، طالبة منكم أن تقرأوه بلا تحيز مُسبق، سواء كان بالتأييد أو المعارضة، اقرأوه لتعرفوا جزءاً من تاريخ مر علينا وعاصرناه وبتنا الآن فى حاجة لتقييمه لنعرف وجهتنا التى علينا أن نسلكها.
البداية

تدرك من اللحظة الأولى لقراءة مقدمة الكتاب، عشق الرجل للتاريخ بجميع مراحله وإلمامه بالأحداث والشخوص، وقدرته على عقد المقارنات بين الماضى والحاضر فى محاولة لا ينكرها لفهم الأحداث وتقييمها. يفسر لك قدرته الأدبية الواضحة فى كتابه، بأن مردها ما قرأه من سير سياسيين وعسكريين على مدى عصور التاريخ، واقتناعه بضرورة تسجيل ما يمر عليه من أحداث يومية لحين العودة إليها وتأريخها، فتجده يقول: «كان محفّزى إلى هذا التسجيل قراءات عديدة على مدى سنوات لشخصيات تاريخية، عسكريين وسياسيين، وأفراد عاديين فى الجيوش ووزارات الدفاع والخارجية وغيرها، كتبوا يومياتهم، أفكارهم، تقييماتهم لمسار الحرب التى شاركوا فيها واستراتيجيتها، صراعات الشخصيات والأفكار. من هنا قررت تسجيل كل مشاهداتى وأفكارى ابتداء من يوم 5 أكتوبر 1973، فكنت أُبقى على كل أوراقى، ودققت فى جميع خلاصاتى، شحذت همتى للاحتفاظ فى ذاكرتى بكل شىء. ومع تعيينى وزيراً للخارجية فى عام 2004 كان المنطقى أن أعمل بنفس المنهج الذى مارست به عملى، أى تسجيل ليوميات كاملة لما قمت به، وما شاهدته طوال أعوام خدمتى وزيراً للخارجية».

سرعان ما يأخذك أبوالغيط، فى سطور مقدمة كتابه، للحديث عن دافعه لنشر تلك الأوراق الآن، فيؤكد أن السبب الحقيقى كان رغبته فى ترك الحقيقة التى عايشها حتى لو تحمّل جزءاً من اللوم بسببها. ولكنه يضيف سبباً آخر بقوله: «أتابع هؤلاء الذين يقودون حملة عارية من الصحة -فى اقتناعى- عما أسموه فقدان الدور المصرى على المستوى الدولى والإقليمى- العربى/الأفريقى/ المتوسطى- والتنظيم الدولى. ولكن كانت مصر نشطة وقادرة على التفاعل والمبادأة، فى حدود إمكانياتها وقدراتها الاقتصادية والمالية وغيرها. وهى عناصر هامة لا يجب الخوض فيها منعاً لضرر قد يصيبنا بسبب استغلال أعدائنا لما قد نكشفه خطأ.. وفى هذا السياق سيرصد القارئ العديد من المقارنات بين مصر وغيرها من مجتمعات متنافسة بالإقليم أو بعيدة عنا، ولكن لها نفس القدرات والإمكانيات وليس الظروف السياسية والاستراتيجية. وسوف يصل إلى خلاصات بأن نجاحات أو فشل مصر فى تنفيذ سياساتها الخارجية كان يعود دائماً إلى حدود إمكانياتها، بين متطلبات الأهداف ومحدودية الموارد للإنجاز مع التمسك بعدم إهدار ما هو متاح.. وهو قليل».
وهكذا تأخذك سطور كتاب أبوالغيط لتطوف بين ملفات السياسة الخارجية المصرية، دون أن يطغى ملف على آخر. يحدثك عن إسرائيل ويصفها بأنها ظلت تمثل الخطر الأمنى العسكرى المُباشر على مصر منذ عام 1948، وعن ملف دول حوض النيل وحقوق مصر فى حصة عادلة وكافية من مياه النهر وكيفية مواجهة التهديدات فى هذا الملف، ثم يأخذك للحديث عن ملف مداخل البحر الأحمر؛ اليمن/الصومال/ وباب المندب، وتأثير الأحداث هناك على أمن قناة السويس. يشرح لك علاقتنا بمنطقة الخليج وتأثيرها على مصر سلباً أو إيجاباً، وإيران وملفها النووى وارتباطه بالملف النووى الإسرائيلى. يجذبك لشرح إطار حوض البحر الأبيض المتوسط الذى يمثل حدودنا الشمالية والرابط بيننا وبين الدول المطلة عليه، سواء فى شمال أفريقيا العربية أو جنوب أوروبا. يرسم ملامح علاقتنا بالولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الأعظم فى عالم اليوم ولعقود قادمة، على حسب قوله.

ويقدم لنا الكتاب، عبر 13 فصلاً، ملامح لأحداث لم نعرف كواليسها رغم معايشتنا لها. مع التركيز على الكيفية التى كان يتخذ بها القرار فى عهد الرئيس السابق وأدوات الخارجية والأمن القومى والعلاقة فيما بينها، والتكتم الشديد الذى ميز حركة السياسة المصرية، الذى كثيراً ما ألحق الضرر أو قلل من نجاحات كان يمكن تحقيقها، على حد قول الوزير الأسبق. موضحاً أن السياسة الخارجية المصرية فى عهد الجمهورية بعد عام 1952، شهدت سيادة سلطة «الرئيس» كصاحب القرار الأخير، من حيث تحديد ووضع الخطوط الأساسية والمنطلقات الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية وتوجهاتها، أما وزير الخارجية فيقوم، مدعوماً من بقية أجهزة الأمن القومى المصرى، بتنفيذ تلك الرؤية طبقاً للتوجيه الممنوح له، وهى عملية لم تكن بالسهلة على حد ما أوضحت مذكرات أحمد أبوالغيط إلى حد تفكيره فى الاستقالة. وهو ما يعبر عنه بالقول: «كنت أرفض، وما زلت، ادعاء بعض وزراء الخارجية المصريين أن سياستهم الخارجية كانت تستهدف هذا الأمر أو ذاك، أو أن هذه السياسة الخارجية التى وضعوها حققت كذا وكذا. وهى مقولات أراها خاطئة تماماً وتشوه حقيقة الأمور، فجميع وزراء الخارجية قاموا بتنفيذ وإدارة السياسة الخارجية مثلما وجّه بها الرؤساء، ولكن مع اختلاف الأساليب والأفكار التنفيذية والدبلوماسية لهذا الوزير أو ذاك وطبقاً لقناعاته وظروف التحديات التى واجهته».

بالطبع كان للرئيس المصرى السابق محمد حسنى مبارك مساحة كبيرة فى تلك السيرة بحكم تركيزها على فترة تولى أبوالغيط لوزارة الخارجية فى الفترة من 2004 إلى 2011. ويلفت نظرك، كقارئ للكتاب، أن وزير الخارجية الأسبق لم يذكر مبارك ولم يشر له إلا باسم «الرئيس». وهو ما يبرره بالقول: «فعلت ذلك احتراماً لمصر وشعبها قبل احترامى له، رغم كل قناعاتى بوجود الكثير من الأخطاء التى أوصلت البلاد إلى ما شهدته».
الفصل الأول.. وزيراً للخارجية

«دخلت حجرة مكتبى بمقر وفد مصر الدائم لدى الأمم المتحدة فى شارع 44 بنيويورك حوالى الساعة الثالثة وخمس وأربعين دقيقة من بعد ظهر يوم الجمعة 9 يوليو 2004.. ولم أمض بالمكتب أكثر من خمس دقائق وإذا برنين التليفون الداخلى وسكرتيرتى النيجيرية «ستيلا» تقول إن لك مكالمة من القاهرة.. وأبلغتنى باسم صاحب الاتصال، وهو شخص يعمل عن قرب من رئيس الجمهورية، وقال إنه يتصل من فندق شيراتون مصر الجديدة وليس من منزله أو مكتبه، حيث لا يرغب فى أن يعرف أى شخص بهذا الاتصال فى الوقت الحاضر، وإنه يبلغنى ولعلمى فقط أنه تم اختيارى وزيراً للخارجية فى حكومة جديدة فى مصر ستُعلن خلال أيام. وأضاف أنه يطلب منى، بل ويرجونى، ألا أتحدث مع أى شخص فى هذا الأمر، وأننى سوف أتلقى اتصالاً تليفونياً من رئيس الوزراء المرشح لرئاسة الحكومة الجديدة».

هكذا يستهل أبوالغيط الفصل الأول من كتابه، متناولاً قصة تكليفه بمنصب وزير الخارجية، رافضاً التصريح باسم المتحدث الذى لم يفضل الاتصال به من مكتبه فى رئاسة الجمهورية أو منزله خشية تسجيل حديثه! وهى عبارة توحى بأن الجميع كانوا تحت المراقبة حتى الرئيس نفسه، فإذا كانت رئاسة الجمهورية مكاناً قابلاً لتتبع المحادثات فيه، فمعنى هذا أن رئيس الجمهورية ومحادثاته كانا تحت المتابعة. لا تكشف القصة ذلك وحسب، ولكنها تكشف أيضاً شبكة التواصل التى كانت تحيط بصانع القرار فى ذلك الوقت.

لا يترك أبوالغيط تلك الواقعة تمر دون الإشارة لأسلوب اختيار مبارك للمسئولين فى عهده، بالاستشهاد بموقف حدث فى العام 2001 عند خروج عمرو موسى من وزارة الخارجية وتوليه منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، حين عُرض على مبارك عدد من الأسماء لتولى منصب وزير الخارجية وكيف أن اسم أبوالغيط جاء فى مقدمتها. ولكنه لم يلقَ قبولاً كافياً من الرئيس الذى لم يكن على معرفة عميقة به، كما كان يراه صغيراً فى السن، وهو ما يحكى عنه أبوالغيط بقوله: «كان يتوارد لى من أصدقاء لهم حيثية فى مناصب الدولة، ربما منذ عام 89، أن الرئيس دائم السؤال عن شخصيات وزارة الخارجية التى يمكن تصعيدها، وأنهم كثيراً ما يذكرون اسمى ويكون رده أنه يعلم أن سمعتى طيبة وأن لدىّ خبرة عريضة، بالإضافة إلى معرفته بوالدى منذ الخدمة فى سلاح الطيران. إلا أنه كان يضيف -أحياناً- «أليس صغيراً عمرياً بعض الشىء». وكنت أستغرب ذلك كثيراً، إذ كان الرئيس مبارك تحكمه مسألة السن فى الكثير من قراراته الخاصة بالتعيينات والأفراد، كما أن عنصر الأقدمية المطلقة كان يمثل له الكثير من الأهمية. وأتذكر أن الدكتور عصمت عبدالمجيد، فى حديث له مع الرئيس عندما تقرر عودة السفير عمرو موسى، المندوب الدائم المصرى من نيويورك فى أبريل 91.. ولم يكن عبدالمجيد يعلم مسبقاً أن عودة موسى تستهدف تحميله مسئولية وزارة الخارجية بعد اختيار عصمت عبدالمجيد لأمانة الجامعة العربية، سأله الرئيس عن أى من الأسماء التى يستطيع أن يشغل بها المنصب فى نيويورك، فأجابه عبدالمجيد أن هناك أحمد أبوالغيط فعقب الرئيس: أراه صغيراً فى السن.. وكنت أبلغ وقتها تسعة وأربعين عاماً!! كانت هذه الرؤية تستفزنى كثيراً وزادتنى ضيقاً واحتقاناً بعد تعيين الوزير عمرو موسى لخلافة عصمت عبدالمجيد واتجاه الرئيس مبارك بتوصية من وزير الخارجية إلى التمديد لمجموعة من السفراء المصريين لسنوات بعد بلوغهم سن المعاش. وكنت أرى وأتصور أن هذا التمديد لهم -ولا غبار على كفاءتهم والاعتراف بقدراتهم- يقطع الطريق على العديد من العناصر التى سماها صديقى وزميلى الدكتور مصطفى الفقى رجال وجيل الدور المسحور.. وقد أخذت على عاتقى ألا أسير فى هذا المنهج إطلاقاً، مؤكداً للرئيس عندما عملت وزيراً للخارجية عدم نيتى أو استعدادى للتقدم له فى المستقبل بأى توصيات بتمديد للخدمة للسفراء فيما بعد المعاش بالخارج أو الداخل، وحقيقة الأمر أنه حدثت محاولات فى الأعوام التالية لشغلى لمنصب وزير الخارجية وقاومت بحزم. وكانت قرينة الرئيس قد حاولت التمديد لبعض السيدات السفيرات لما بعد سن المعاش، ورفضت. ووافقنى الرئيس رغم الضغوط التى أعتقد أنه تعرض لها فى إطار أسرته».
مصر - تركيا - إيران

يأخذك أبوالغيط معه فى رحلة أفكاره التى رافقت رحلة عودته من نيويورك للقاهرة لحلف اليمين كوزير للخارجية أمام الرئيس السابق مساء السبت العاشر من يوليو 2004. مسترجعاً التاريخ المصرى خلال ما يزيد على مائتى عام ومحاولات تأسيس دولة ذات أبعاد دولية انتهت كلها بالفشل بدءاً من على بك الكبير ومحمد على باشا وانتهاء بجمال عبدالناصر. تاركاً العنان لتفسيراته، فتؤكد له أن التحالف الإسلامى الحقيقى بين مصر وغيرها من القوى حلم غير قابل للتحقيق. فإيران تنازع تركيا وتغار منها والعكس صحيح. ومصر تستشعر مسئولياتها للدفاع عن أمن الإقليم سواء فيما يتعلق بإسرائيل أو بالنسبة لمنطقة الخليج. وتركيا تحركها نوازعها الاقتصادية والتجارية خاصة وقد انطلق اقتصادها وأصبح من الاقتصاديات الباحثة عن الأسواق. وهى تتمسك بعلاقتها الغربية عبر عضويتها فى حلف الأطلسى، مع السعى للانضمام للاتحاد الأوروبى الذى يمكن أن نراه مجاوراً للعالم العربى فى كل من العراق وسوريا إذا ما انضمت تركيا مستقبلاً إليه. وهو ما يعبر عنه بالقول: «كان تقديرى أننا سنحتاج لأن نبذل جهداً لبناء إطار تعاونى مصرى/ تركى/ إيرانى يمكن أن يمثل ذراعاً لتحقيق الاستقرار بالمنطقة، ويوازن تأثيرات إسرائيل فيها وعلاقاتها بالعالم الغربى ومن ثم تعزيز قدرات الصد للعالم الإسلامى. وكان السؤال: هل يمكن أن ننجح فى ذلك الهدف؟ وهل سترضى إيران الشيعية الثورية بالتفاهم مع كل من مصر وتركيا؟ وما هى الحدود التى كانت تركيا على استعداد للذهاب إليها لبناء هذه العلاقة؟».

وتتواصل أفكار وزير الخارجية الأسبق خلال رحلة عودته لتمتد لمعرفة حدود مصر الإقليمية والأفريقية والدولية وحجم تأثيرها. ويصل لجزئية مهمة فى الحديث عن بعض الأوضاع المؤسسية فى التنظيم المصرى للسياسة الخارجية، فيدرك من مشاهداته لعملية صناعة وتنفيذ السياسة الخارجية المصرية أن بها الكثير من التأثيرات الشخصية التى تلعب دورها فى إدارة هذه المنظومة. فالرئيس المصرى، منذ عهد عبدالناصر فالسادات ومن بعده مبارك، هو الفاعل الرئيسى وصاحب القرار التوجيهى المؤثر. كما أن المؤسسات والأشخاص تظهر وتختفى طبقاً لإرادة الرئيس، وهو ما يدلل عليه بمتابعته على مدى سنوات عمله الطويلة بدءاً من مستشار الأمن القومى المصرى فى يوليو 1972، مروراً بالعديد من وزراء الخارجية ومنهم محمد إبراهيم كامل، ومصطفى خليل، وكمال حسن على، وعصمت عبدالمجيد، وعمرو موسى، وحتى أحمد ماهر الذى ترك منصبه عام 2004.
تراجع دور أسامة الباز

يتوقف أبوالغيط هنا ليحكى عن أحد المؤثرين فى دائرة صنع قرارات مبارك الخارجية عند توليه مهام منصبه فى العام 2004، إنه دكتور أسامة الباز، فيقول: «تصورت أن شخصية أسامة الباز، المقرب جداً من الرئيس مبارك على مدى الفترة التى تبدأ من عام 1976 وحتى عام 2004، لا يزال يلعب تأثيره الكبير فى صنع وتنفيذ السياسة الخارجية المصرية. وكان علىّ أن أقدر موقفى منه وأن ألعب معه؟! كان الباز يعمل على مقربة وثيقة من نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إسماعيل فهمى منذ عام 1973 وحتى استقالته فى نوفمبر 1977. ونجح وبدعم من إسماعيل فهمى فى تحقيق الاقتراب من نائب الرئيس الذى أصبح الرئيس السادات يكلفه بمهام فى السياسة الخارجية تفرض على إسماعيل فهمى أن يكون على اطلاع عليها. من هنا دفع بأسامة الباز لكى يقدم المشورة والرأى من خلال مصاحبة نائب الرئيس فى مهامه الخارجية، ولكنه أيضاً يُمثل عيناً على نشاطات حسنى مبارك الذى عليه أن يعتمد على آلية ومؤسسة الخارجية لتحقيق نجاح المهام. وبقى أسامة الباز يلعب تأثيره الحاسم أثناء تولى محمد إبراهيم كامل/ مصطفى خليل/ كمال حسن على/ وعصمت عبدالمجيد، فى شئون الخارجية المصرية. على الجانب الآخر حرص أسامة الباز على مساعدة عمرو موسى الوزير الجديد فى مايو 1991 لكى يحقق نجاحات باعتبار أن موسى كان يلقى دعم الباز على مدى أعوام طويلة منذ عمل موسى تحت رئاسة الباز فى عام 1974. وكان ذلك الأمر ملحوظاً جداً لدىّ عند مشاركتى مع الباز فى اجتماع للوزير الجديد عمرو موسى مع الوزير السورى فاروق الشرع فى دمشق فى يونيو 1991 عندما اجتمع الجانبان المصرى والسورى لمناقشة توجهات سعودية وخليجية لمراجعة إعلان دمشق وتخفيف الالتزامات والتفاهمات الأمنية والعسكرية التى أتاحها الإعلان الموقّع فى 6 مارس 1991 لكل من مصر وسوريا. رأيت أسامة الباز فى هذا اليوم يصمت ولا يتحدث بخلاف أسلوبه الذى كان يشارك به فى كل أعمال الاجتماعات الأخرى مع وزراء آخرين للخارجية وحيث كان يتدخل طوال المناقشات بشكل ربما أدى أحياناً إلى بعض الضيق لديهم. وأتذكر أننى فى هذا اليوم تحديداً، وربما بسبب تجربتى فى الإعداد لإعلان دمشق ومشاركتى مع الدكتور عصمت عبدالمجيد فى كل الاجتماعات التى أوصلتنا إلى توقيع الإعلان فى دمشق، قد تدخلت ببعض الآراء والملحوظات التى وافقنى عليها فاروق الشرع الذى كان يرأس الدبلوماسية السورية فى فترة صياغة الإعلان، وجاءنى الدكتور أسامة الباز بعد انتهاء الاجتماع وقبل ذهابنا إلى عشاء دمشقى شهى، وقال: «يا أحمد أرجو أن تراعى أن علينا أن نساعد عمرو موسى وأن نتيح له الفرصة لكى يظهر إمكانياته» وتبينت عندئذ مدى إنكار الذات لدى أسامة الباز فى مواجهة عمرو موسى. وبتعيينى وزيراً للخارجية فى 14 يوليو 2004 رصدت، وبشكل سريع، أن الباز قد انزوى، ولم يعد له هذا الظهور الكبير أو التأثير الحاسم مع الرئيس، بل إنه لم يعد ضمن الدائرة اللصيقة من المستشارين فى السياسة الخارجية. فلم يعد يكتب رسائل الرئيس إلى رؤساء الدول المختلفة، كما لم يعد على اتصال مباشر به مثلما كان الحال فى السابق. وكنت وعلى مدى سنوات طويلة، ومن خلال عملى مع مجموعة كبيرة من وزراء الخارجية المصريين، أرصد أداء أسامة الباز وعلاقته بالرئيس مبارك؛ إذ كان الشخصية الحاكمة فى الكثير من قرارات الرئيس فى السياسة الخارجية، وكان تأثيره يتجاوز وبكثير سلطات وكيل أول وزارة الخارجية التى كان يتمسك ببقائه فيه، بل وأقول إن دور أسامة الباز فى منظومة السياسة الخارجية المصرية كان يتجاوز أحياناً دور وزراء الخارجية. ويمكننى فى هذا السياق القول إن مسئوليات ومهام أسامة الباز مع الرؤساء المصريين كانت تماثل وظيفتَى مستشار الأمن القومى من ناحية والسكرتير السياسى والدبلوماسى للرئيس من ناحية أخرى».

هكذا هى الحياة فى عالم الساسة.. تحمل بزوغ نجوم وأفول آخرين بين الحين والآخر. لا تدوم لأحد ولا تضمن البقاء لأصحاب الحظوة والمقربين. ولذا اختفى دور أسامة الباز دون أن يعلم أحد هل تم ذلك بفعل فاعل فى إطار المؤمرات التى تشهدها قصور الحكم أم بفعل الزمن وتقدم عمر الرجل.