شارل أبي نادر - عميد متقاعد
تتضارب المعلومات حول حقيقة السيطرة الأخيرة في مدينة البوكمال السورية الحدودية مع العراق، وفيما أفادت معطيات الجيش العربي السوري وحلفائه من القوات الروسية أو من محور المقاومة في الـ 48 ساعة الأخيرة، عن سيطرتهم على المدينة، نقلت بعض المواقع الإعلامية القريبة من "داعش" ومن تلك المعارضة لمحور المقاومة، بأن التنظيم الإرهابي استعاد السيطرة على قسم يتجاوز الـ 40 بالمئة من البوكمال، فما حقيقة الوضع الميداني هناك، وما عناصر مناورة كل من الجيش العربي السوري وحلفائه لتحرير المدينة؟، وما عناصر مناورة داعش في الدفاع عنها؟
بداية، وللاجابة على هذه التساؤلات، لا بد من تقديم ملخص سريع يتضمن المعطيات والعناصر التي ميزت مناورة الجيش العربي السوري وحلفائه في كامل معارك تحريره الاراضي السورية، والتي كانت قد سيطرت عليها مختلف المجموعات الارهابية، ان كانت داعش او النصرة او العديد منها، والتي تعددت وتبدلت تسمياتها وانتماءاتها وولاءاتها.
مناورة الجيش السوري والحلفاء
- اعتمدت هذه المناورة بالاساس على التغطية النارية الواسعة، الجوية والمدفعية والصاروخية، ولعبت قوة الصدم بسلاح مدرعات الجيش دورا فعالا في دعم ومساندة وحدات التقدم والاشتباك المباشر والاختراق، وحيث كانت الوحدات الاخيرة (الخاصة ووحدات الاختراق) تضطر - على خط المهاجمة النهائي - للعمل دون التغطية النارية القريبة، بسبب تزايد اخطار الاصابة بتلك النيران الصديقة، والتي تصبح عاجزة عن تمييز الرمي ونقله بشكل آمن لحماية الوحدات المهاجمة، كانت تلك المرحلة تعتبر الاصعب والاخطر في تلك العمليات الهجومية.
- اعتمدت ايضا تلك المناورة على عنصر التطويق والمحاصرة، ومستفيدة من التغطية الجوية الواسعة ومن المرونة والحركية في نقل الوحدات المؤللة بشكل آمن في الاراضي المكشوفة لمسافات بعيدة، كنا نجد ان اغلب عمليات تحرير المدن والمواقع الاساسية من الارهابيين كانت تنفذ بعد تطويقها والضغط عليها من كافة الاتجاهات.
مناورة الارهابيين المضادة
- لقد ظهر في اغلب معارك الارهابيين بمواجهة الجيش العربي السوري وحلفائه، أن هؤلاء لم يكونوا فقط عبارة عن تكفيريين مشتّتين تقودهم عقيدة متشددة وحسب، بل تبين انهم يقاتلون من خلال منظومة قيادة وسيطرة متماسكة، وهم يتمتعون بقدرات عسكرية وتقنية تضاهي ما تمتلكه الجيوش المتطورة، وقد ظهرت جليا خبراتهم وتجاربهم التي اكتسبوها من معارك واسعة في افغانستان والشيشان والعراق وغيرها، بالاضافة لامتلاكهم اسلحة وامكانيات عسكرية وتقنية مهمة.
- لقد عمل الارهابيون دائما من خلال مناورة مضادة لتلك التي اعتمدها الجيش العربي السوري وحلفائه، معتمدين على نقاط اساسية - بالاضافة طبعا لمروحة اخرى من النقاط - وقد تمثلت هذه النقاط، اولا بعدم المواجهة على الخط النهائي للمهاجمة، حفاظا على العناصر وتفاديا للاصابات وللخسائر المقدرة حتما بسبب القوة النارية التي كانوا يتعرضون لها، وكان يتم ذلك اما من خلال الاختباء والاقتراب قدر الامكان بشكل متخفي من الوحدات المُهاجِمة لعدم التعرض للقوة النارية، اما من خلال الفرار الى مواقع وملاجىء ومخابئ مُحَضّرة سلفا، وفي الحالتين كانت مناورتهم تُستكمل بتنفيذ عمليات انتحارية لاحقا على تجمعات عناصر وآليات الوحدات المهاجمة بعد دخولها، بسيارات مفخخة او باحزمة ناسفة، لتتدفق مباشرة وحدات اخرى جاهزة لتنفيذ هجوم معاكس.
هذه المناورة التي اعتمدها الارهابيون في اغلب مواجهاتهم للجيش العربي السوري وحلفائه، والتي كانت تتسبب باصابات ليست سهلة في صفوف الوحدات المهاجمة، بالاضافة لاجبار وحدات الاخيرة، وفي احيان معينة، على الانسحاب واعادة الانتشار تلافيا للخسائر الحتمية من جراء العمليات الانتحارية المذكورة اعلاه، دفعت بالجيش العربي السوري الى اعتماد مناورة مضادة، استعملت في معارك التحرير الكبرى ومنها في ريف حلب الجنوبي الغربي - معركة الكليات الحربية والراموسة – ومنها في تحرير تدمر والسخنة وفك الحصار عن احياء دير الزور ومطارها، واخيرا إستعملت في البوكمال، وقد تمثلت هذه المناورة الاخيرة في البوكمال بما يلي:
بعد ان تقدمت وحدات الجيش العربي السوري وحلفائه في محور المقاومة على تخوم البوكمال من شرقها ومن جنوبها وغربها، مستفيدة من دعم جوي ومدفعي وصاروخي واسع، روسي وسوري، وبعد ان عمدت داعش الى تنفيذ مناورتها المعتادة في سحب مجموعة وإخفاء أخرى في مواقع محضرة في المدينة لتنفيذ العمليات الانتحارية، تقدمت مجموعات الاختراق المُهاجِمة الى داخل المدينة بوحدات خاصة، وتمركزت بطريقة مدروسة تُمكّنها من الانسحاب السريع الآمن والمحضّر، وبعد استدراجها لعناصر التنظيم الذين تدفقوا من الخارج ومن مخابئهم الداخلية، وتمددوا في مساحة حوالي 40 بالمئة من المدينة، بحيث اعتقدوا انهم نجحوا في تنفيذ هجوم معاكس، وجدوا انفسهم في كمين ناري محكم، بعد الانسحاب السريع والمنسق لوحدات الجيش العربي السوري وحلفائه، وقد سقط في الاحياء التي استدرجوا اليها عدد كبير من ارهابييهم بنيران الدعم الجوي والصاروخي والمدفعي، والتي كانت كاهداف مُحضّرة سلفا، وها هي وحدات الجيش والحلفاء الان تنهي وبحذر تنظيف وتفتيش ما تبقى من احياء في المدينة.
لا شك ان معارك التحرير في سوريا من الارهابيين، التي خاضها الجيش العربي السوري وحلفائه في محور المقاومة، والتي يبدو انها اشرفت على نهايتها، ستبقى علامة فارقة في التاريخ العسكري، وستشكل، بالاضافة طبعا لما قدمته من دروس في الصمود وفي الثبات في الميدان وفي الصبر، مرجعا واسعا وغنيا في دروس القتال والعمليات الميدانية وفي تكتيك الدفاع والهجوم، وطبعا في الاستراتيجية العسكرية.
"العهد"