كتب د. أحمد فؤاد أنور
بعد أيام تحل الذكرى الخمسون لاحتلال القدس، وربما خلال أسابيع قليلة يتم إطلاق مبادرة متكاملة لاستئناف التفاوض الميت إكلينيكيا منذ سنوات مع إسرائيل مما يستدعى نظرة شاملة للأوراق المتاحة أمام المفاوض العربى دفاعا عن الحقوق المغتصبة، وفى المقابل الرد على من يسعون لفتح الثغرات بتفنيد ما رددته أصوات نشاز تروج لـ«سلام الاستسلام»، وتسعى لقطع كل صلة عربية بالقدس، مما يفتح الباب أمام كارثة حقيقية، بل وسيشعل أكبر جبل متفجرات فى المنطقة مجهزا نهائيا على مساعى تحقيق السلام الشامل والعادل المأمول !
النظرة العربية الشاملة قبيل التفاوض يجب أن تبلور تعاطيا مختلفا مع دور يوناني، وروسي، فأملاك الأولى فى القدس تقع فى أماكن حيوية وقد أقرت وسائل إعلام إسرائيلية بوجود تزوير فى عقود حق الانتفاع الخاصة بتلك الأراضى التى تم عليها تشييد الكنيست ومنزل رئيس الوزراء، حيث تم الدفع بمحام اصطحب طبيبا لعلاج المسئول عن أراضى الكنيسة اليونانية (وقد كان عام 2000 طاعنا فى السن ويحتضر) وزعم الوسيط الإسرائيلى أنه حصل على موافقته الشفهية على تجديد حق انتفاع إسرائيل لمساحات شاسعة، واكتملت الدراما حين حاول خليفته أورانيس البطريريك رقم 140 منح إسرائيل أراضى من أراضى الكنيسة فعزلته الكنيسة عام 2005 بعد أقل من عام واحد على اعتراف إسرائيل به بعد أن كانت تتهمه بأنه مناصر للفلسطينيين وهى قضية يمكن للعرب أن يكون لهم كلمة مؤثرة فيها على أكثر من صعيد، كما أن لروسيا عضوية دائمة فى مجلس الأمن وعضوية فى الرباعية الدولية، فضلا عن وجود غير مسبوق فى المياه الدافئة، وعلى هذا نرى أن التنسيق المصرى بشكل خاص مع الدب الروسى يمكن التعويل عليه فى مواجهة انحياز أمريكى متوقع لصالح الجانب الإسرائيلي، وبشكل موازٍ يمكن التعاون مع اليونان على مستوى تبادل المشورة القانونية والوثائق والدعم السياسى والإعلامى بشأن مستقبل القدس.
خلال التفاوض لا يجب إغفال مظاهرات اليسار الإسرائيلى منذ أيام والتى طالبت فى قلب تل أبيب بانهاء الاحتلال وتفعيل مبدأ حل الدولتين مما يضع نتنياهو فى مواجهة شارع غاضب يدعم بديلا حقيقيا تتنامى قوته وهو يتابع رموز الفساد تتهاوى فى ائتلاف نتنياهو، وأحدثهم وزير الداخلية الذى سبق ادانته وحبسه لارتكابه وقائع فساد وأصر نتنياهو على تكليفه مجددا بنفس المنصب الذى كان يشغله حين تم سجنه! بجانب تزايد احتمالات إحالة نتيناهو للمحاكمة الجنائية بعد انتهاء التحقيقات بشأن صفقة الغواصات من ألمانيا وحصوله هو وزوجته وابنه على هدايا باهظة الثمن بالمخالفة للقانون.
مواقف شريحة من اليهود المتدينين تجاه القدس يجب استغلالها وإبرازها أمام الرأى العام العالمى ودوائر صنع القرار فقطاع من الحريديم فى إسرائيل يرون أن حائط المبكى محتل من الصهاينة وأنه لا يجب على الاطلاق زيارة «جبل الهيكل» (الحرم القدسي) طالما لم يظهر المسيح اليهودى المخلص والعلامات التى تسبق ظهوره. فهؤلاء اليهود وهم يعدون بالفعل يهود فلسطين الحقيقيين، فى مقابل مهاجرين علمانيين مشكوك فى يهوديتهم، بل ويعتبرهم الحريديون «أغيارا يتحدثون العبرية». فى إطار الاستعداد لجولة تفاوضية حاسمة متوقعة حول القدس نحتاج بالضرورة لرأى عام مساند لذا يجب أن نتوقف قليلا أمام صاحب نظرية: االمساحة 144 ألف متر معظمها فاضي، ما يبنوا معبد وخلاص»! وهو ما قاله بالنص د. يوسف زيدان فى لقاء مع الإعلامى خيرى رمضان فى نهاية 2015، تطرق خلاله لمحرر القدس بما لا يليق ثم عاد منذ أسابيع ليكرره بصيغ أكثر فجاجة فى حوار مع الإعلامى عمرو أديب، متعمدا إغفال عزل رجال الشيعة عن النساء داخل القصر وليس فى عموم البلاد وأن هذا إجراء لا يقارن بالمتبع فى تلك العصور وما تلاها من قتل بالجملة عند حدوث أى صراع على السلطة، وبالطبع عند حدوث خلاف مذهبى فى أوروبا بين أصحاب نفس الديانة، فقد كانت الأمة تمر بفترة وهن وتفتت، ومن تاجروا باسم الصليب لأهداف سياسية وإقطاعية على الأبواب، وأنه فى مقابل نضال صلاح الدين انطلاقا من مصر رأى البعض قبل قدوم صلاح الدين أن الحل فى مواجهة الغزاة هو حرق الفسطاط حتى لا تقع فى أيديهم، وهو ما تم بالفعل وتحولت الفسطاط من يومها لخرائب، بينما سعى البعض للتحالف مع المستعمرين الغزاة ضد خصومهم السياسيين فى الداخل. أتى صلاح الدين ليحرر القدس فى ظروف صعبة ثم تفاوض، وأكمل من أتى بعده ولمدة قرن كامل تحرير بقية فلسطين من الممالك الاستعمارية وبجانب إنصافه على يد مؤرخين غربيين فقد أظهر مؤرخون من عهد الخديوى عباس حلمى الثانى (وهذا خير رد على زعم زيدان أن سبب تقديم صلاح الدين بهذا النبل هو فقط رؤية سياسية لجمال عبد الناصر!) أن صلاح الدين كان متسامحا إزاء من لا يمثلون تهديدا على الدولة أو المشروع الكبير الذى يسعى لإنجازه حتى ولو أساءوا إليه هو شخصيا. ووفقا لمؤلف سيد على الحريرى بالأخبار السنية فى الحروب الصليبية» الصادر عام 1899 أنه فى حين كان يحارب صلاح الدين فى فلسطين واليمن ولبنان وغيرها معتمدا على جيش قوى منظم برا وبحرا حاول قطب الدين إينال جره لمعركة جانبية مرددا: «تعديت طورك وتجاوزت حدك وأنت أحد غلمان نور الدين». وهنا لم يأمر السلطان صلاح الدين بقتله، بل صفح عنه مكتفيا بالرد عليه قائلا: «يا هذا اعلم أننى وصلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام». مما يدل على تسامح طال أيضا اليهودى موسى ابن ميمون الذى قربه وائتمنه ومنحه صلاحيات.
الموقف التفاوضى العربى لم يتضرر كثيرا بصوت يثب إعلاميا مرارا وتكرارا محاولا ضرب الثوابت والحقائق بشأن عروبة القدس ..فهو صوت لا يمثل تيارا سياسيا ولا طائفة دينية، وبالقطع لا يمثل الأكاديميين أو المتخصصين. وفى المقابل يدعم الحق العربى تيارات سياسية وطوائف يهودية وشرعية دولية وأوراق ضغط يجب تفعيلها.
كما أن المفاوض العربى الذى يعانى فى الأساس من الانقسام الفلسطينى الفلسطينى يمكنه إبداء المرونة فى كل الملفات ما عدا ملف القدس فهى بجانب كونها بقعة مقدسة للمسيحيين فى كل أرجاء العالم والعالم العربى بشكل خاص، كانت وستظل أولى القبلتين وثالث الحرمين، ولو استجاب الصهاينة لقرارات الشرعية الدولية وللتيار المناصر لعروبة القدس وضرورة إنهاء الاحتلال داخل إسرائيل ذاتها ستجد مفاوضا مختلفا أكثر قدرة على اقناع الشارع العربى ببنود مؤلمة فى بعض الملفات التفاوضية فى إطار صفقة القرن.
المصدر/ الاهرام