بقلم: نادين شلق
بعد فترة وجيزة على انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، في نهاية عام 2008، تعهّد بـ «ضمان الازدهار في الداخل، والسلام في الخارج». عبارة أنعشت الآمال في إنهاء حقبة الحروب الأميركية، خاصة في الشرق الأوسط الذي حاول مخاطبته من جامعة القاهرة. لم يخفق أوباما، بل كذب. تخطى جورج بوش بحروبه المعلنة والخفية. وفيما يقف على أبواب البيت الأبيض لمغادرته (في كانون الثاني المقبل)، فإنه يترك لخلَفِه مشهداً دولياً جديداً، أكثر فداحة من وِرثة سَلَفه، وتتهدده من مشرقه إلى مغربه صور التفكك وانبعاث حدود جديدة. سننتظر لنرى كيف سيتعامل «المجنون» دونالد ترامب، أو «محبوبة المحافظين الجدد» هيلاري كلينتون، مع هذا المشهد... لكن حتى ذلك الوقت، يترقب العالم نتائج «الجنون الأميركي» الذي كان ينمو على وقع الاقتراب من لحظة الحسم
قبل ثماني سنوات، دخل باراك أوباما البيت الأبيض، وارثاً عن جورج بوش الابن حربين، إحداهما في العراق والثانية في أفغانستان. كان لبوش فضلٌ في تربّع أوباما على كرسي الرئاسة، ولا سيما أن وصوله إليه مهّدت له حملة انتخابية تمحورت في جزء كبير منها على انتقاد سياسة سلفه الخارجية ــ وخصوصاً اجتياح العراق ــ ووعود بإنهاء تلك الحقبة من الحروب الأميركية. ظهر الرئيس الأميركي الـ44، وقتَها، كأنه منقذ الولايات المتحدة من "مستنقع العراق" الذي أدخلت نفسها فيه، بل رأى البعض أنه سيكون "منقذ العالم" من ويلات الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين إلى اليوم، كان دؤوباً على الترويج لـ"عقيدة" لم تنضج معالمها، وعلى صياغة "إرث" فضفاض، أقلّ ما يمكن القول عنه إنه توليفة من بعض إنجازات، وحروب بأوجه عدة.
الغطاء كان دائماً حاضراً، وهو "إستراتيجية جديدة" عبارة عن حركة وقرقعة دبلوماسية، يُخفي ضجيجها توسيعاً لرقعة حرب بالوكالة هنا، وإسقاطاً لنظام هناك. هو وصفها في مقابلة مع توماس فريدمان، في صحيفة "نيويورك تايمز"، بالقول إن "الولايات المتحدة، بوجود قوتها العظمى، يجب أن يكون لديها الثقة بالنفس للدخول في بعض المخاطر المحسوبة، من أجل فتح إمكانات جديدة". وفي مقابلته المطوّلة مع جيفري غولدبرغ، في مجلة "ذي أتلانتك"، عبّر عمّا سماه قطع العلاقة مع "قواعد اللعبة في واشنطن".
في كلتا الحالتين، جاءت نقطة انطلاق أوباما من حيث انتهى بوش، بل كانت استكمالاً لما بدأه. وفيما تفاوتت درجة أو نتيجة التحرّكات بين رئيس وآخر، فقد كان العامل المشترك نشر الفوضى، الذي برز على أنه من أهم متطلّبات السياسة الخارجية الأميركية، خلال العهود الماضية.
على الرغم من ذلك، إذا ما أردنا أن نسلّم جدلاً أن أوباما حاول التفكير من خارج الصندوق التقليدي الأميركي، فلا يمكن إلا أن نخلص إلى نتيجة واحدة تتمثل في أشكال مختلفة: هندسة انقلابات، خطط لما سمّيت الثورات، غارات بطائرات من دون طيّار، توسيع شبكة القواعد العسكرية الأميركية في العالم (60 منها في 34 بلداً أفريقياً)، الاستفادة من الوضع الاقتصادي الراهن لتغيير أنظمة في أميركا اللاتينية، واستفزاز الصين في عقر دارها ــ أي في بحر الصين الجنوبي ــ هذا فضلاً عن إطالة أمد الحرب السورية، وتسعير الحرب العراقية، وتحطيم ما بقي من دعائم دولة ليبيّة...
بداية حروب الظل
بدأ التنفيذ في شباط 2009، حين أعلن أوباما خطته لخفض عدد الجنود الأميركيين في العراق من 160 ألفاً إلى 50 ألفاً، بحلول آب 2010. بعدها بأشهر قليلة، أي في كانون الأول من العام ذاته، تسلّم جائزة "نوبل" للسلام. في ذلك الوقت، كانت الطائرات الأميركية من دون طيار قد شنّت غارات تخطّى عددها تلك التي أمر بوش بشنّها طيلة فترة ولايتيه، لتأتي الحصيلة شبه النهائية لعدد القتلى بهذه الغارات، بعد ثماني سنوات، أكثر من 900 مدني وحوالى "ألفي مسلّح" غالبيتهم في أفغانستان، وذلك وفق تقديرات لجمعيات غير حكومية، بينما تعترف الإدارة الأميركية بأنها قتلت 116 مدنياً فقط.
واصل أوباما هذه السياسة، خلال ولايته الأولى، وراكمها بحروب خفية هنا وهناك، كان من ضمنها إنزال قوات كومندوس في غالبية دول العالم لتقوم بمهمّات سرية، تخطّى عددها الـ120، في نهاية عام 2011. وهل يمكن تجاهل أكثر تلك العمليات شهرة، التي يتغنّى بها أوباما ومن بعده وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، وكانت نتيجتها قتل زعيم "القاعدة" أسامة بن لادن (مع بداية الأزمة السورية!) في باكستان برصاصتين، واحدة في رأسه وأخرى في صدره. مثّل مقتل بن لادن نموذجاً لحروب أوباما التي خاضها في أول أربع سنوات من عمر رئاسته، والتي كانت تعتمد على قوات العمليات الخاصة المنتشرة في مناطق النزاع، من أفغانستان إلى العراق واليمن والصومال وباكستان، رافعاً نسبتها 60% مقارنة بعهدي بوش.
حينها، كان الشغل الشاغل للإعلام الأميركي والعالمي، انسحاب الجنود الأميركيين من العراق والعمل على خفض عديدهم في أفغانستان، لتمثّل هذه الإستراتيجية دعامة لإعادة انتخاب أوباما لولاية ثانية عام 2012، لكن قبل ذلك الاستحقاق الرئاسي، كان الرئيس الأميركي قد استمد من تكتيكاته إستراتيجية جديدة، تمثلت في انضمام البيت الأبيض إلى جهود "حلف شمال الأطلسي" لإنهاء نظام الزعيم الليبي الأسبق معمر القذافي، من دون استشارة الكونغرس. الحجة بدت جاهزة وهي أن قرار سلطات الحرب، الذي يتطلّب تقديم تقرير مسبق إلى الكونغرس، لم يُطبق لأنه لم يكن هناك "حالة أعمال عدائية". ادعى أوباما وفريق الأمن القومي أن إضعاف "القاعدة"، ومن ضمنه قتل أسامة بن لادن، إضافة إلى إسقاط القذافي، جرى تحقيقها عبر مقاربة جديدة للحرب، تعتمد على ضربات من قوى متعددة الجنسيات، بدلاً من العمل من جانب واحد، والقيام "بعمليات جراحية" بدلاً من نشر عدد ضخم للقوات العسكرية.
الباحث جين هيلي وصّف هذا التطوّر، في تقرير في معهد "كاتو"، بالقول إن أوباما في حملته بالطائرات من دون طيار، وفي حربه ضد "داعش"، حوّل قراراً من الكونغرس عمره 14 عاماً، ينص على استهداف "القاعدة" و"طالبان"، إلى شيك على بياض لحروب من دون نهاية، في أي مكان في العالم.
الحروب في مرحلتها الثانية
يمكن وصف ذلك الشيك بأنه نقطة الانطلاق إلى المرحلة الثانية من "دبلوماسية الحرب" التي انتهجها أوباما، والتي شهدت تصعيداً لافتاً من 2012 إلى اليوم، في ظل ما سُمي "الربيع العربي"، فبدأت "عقيدته" تأخذ شكلاً آخر أكثر فجاجة، تجّلى في دعم "الثورات" التي اجتاحت العالم العربي وكشف عن نقصٍ في الرؤية الأميركية للمنطقة، وعن هدف واحد لها، هو الفوضى. كان من نتائجها غير المباشرة عدم القدرة على إحداث توازن بين مصالح الولايات المتحدة والظروف القائمة في بلد مثل مصر. أما نتائجها المباشرة، فقد تجلّت في تسعير الحرب في سوريا والعراق، عبر الحملة الجوية التي قادتها واشنطن تحت مظلة "التحالف الدولي"، وتمييع كافة الحلول في هذين البلدين، إن من خلال عرقلة الجهود الدبلوماسية أو إجراء تجارب جديدة على الميدان. هذا فضلاً عن دعم جماعات المعارضة المسلّحة وغير المسلحة في سوريا، الذي تمثّل جزء منه ببرنامج تدريب، أثبت فشله بعدما أنفقت الإدارة الأميركية عليه أكثر من 500 مليون دولار.
ولكن الفشل في سوريا على هذا الصعيد، يعكس صورة مصغّرة لفشل أكبر على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا، حيث أنفقت الإدارة الأميركية "عشرات مليارات الدولارات"، خلال السنوات الأخيرة، لتدريب قوات أمنية، و"نادراً ما نجحت في تحويل المقاتلين المحليين إلى جيوش فعّالة، على المدى الطويل"، وفق تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
على المقلب الآخر، سعى أوباما إلى تعديل حسابات الربح والخسارة، واضعاً كل ثقله في إتمام اتفاق نووي مع إيران، يحفظ ماء وجهه ويؤطّر "إرثاً سياسياً"، طالما عُدّ الهاجس الأكبر لديه، ولاسيما خلال العامين الماضيين. ناكف حلفاءه الخليجيين والإسرائيليين، المعارضين للاتفاق ولما عدّوه تقارباً بين واشنطن وطهران. وخاطب السعودية وإسرائيل بنبرة حادة، في بعض الأحيان، فيما وصف الأولى بأنها "مصدر للتطرّف". ولكن هنا أيضاً واصل إستراتيجيته الضحلة، فقام باسترضاء إسرائيل لاحقاً، بحزمة مساعدات عسكرية هي الأكبر من نوعها في تاريخ العلاقة بين الطرفين، قُدّرت قيمتها بـ38 مليار دولار، على مدار عشر سنوات. أما السعودية، فقد تبيّن أن نصيبها من إدارة أوباما صفقات بـ115 مليار دولار من الأسلحة، على مدى ثماني سنوات، ليتخطى بذلك كل الرؤساء السابقين، موازياً منهجه هذا مع صمت شبه تام على جرائم الرياض في اليمن.
وبصرف النظر عن نتيجة الاتفاق النووي، الذي يصفه كثيرون بالصُوَري، يبقى أنه مكّن أوباما من تغطية أخطاء فادحة، مؤقتاً، بالتوازي مع إطلاقه سياسة انفتاح على كوبا، بعد نحو نصف قرن على انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ولكن هناك في أميركا اللاتينية وفي آسيا، كانت للرئيس الأميركي صولات وجولات، يمكن تأطيرها بما أطلقه عليها البروفيسور جايمس بيتراس من توصيف، عبر تقرير على موقع "غلوبال ريسرتش". لفت هذا الأخير إلى أن أوباما، خلال العامين الأخيرين، تسابق مع الزمن من أجل تأسيس "إرثه الإمبريالي" من خلال مواجهاته مع روسيا، وآسيا وأميركا اللاتينية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي استعجل بناء ترسانة عسكرية على الحدود مع روسيا، حيث نشر "البنتاغون" نظام صواريخ عالي التقنية يهدّد الدفاعات الروسية، إضافة إلى التدخل الواضح في القتال بين روسيا وأوكرانيا.
أما في أميركا اللاتينية، حصراً، فقد أشار بيتراس إلى أن أوباما "تخلّى عن تظاهره بالتساهل مع مراكز القرار ــ أي الأنظمة الانتخابية اليسارية"، ليشيد بدلاً من ذلك بـ"النيوليبرالية السلطوية" في الأرجنتين، الممثلة بالرئيس الجديد موريسيو ماكري، وليصبح أول رئيس أميركي يزور الأرجنتين منذ 20 عاماً.
وفي أميركا اللاتينية أيضاً، دعم أوباما الانقلاب على الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف، فيما أفادت التقارير عن لقاءات جمعت إدارته الى قضاة وسياسيين كانوا يهندسون لإسقاطها. كما ساند ظهور الأنظمة اليمينية المتطرّفة في البيرو وكولومبيا.
قد تُختصر نظرة أوباما إلى الرئاسة والسياسة الخارجية، في "متحف إرثه" الذي خلّدته صحيفة "واشنطن بوست" على موقعها. وتبدو الأوضح دلالة على نهج الرئيس المنتهية ولايته، شهادة العضو السابق في إدارة جورج بوش الابن، إليوت كوهن، الذي قال إن أوباما "لم يصوّر نفسه عام 2008 على أنه قائد أعلى للقوات المسلّحة في حالة الحرب، ولكن هذا ما أصبح عليه تماماً ــ كما كان سلفه، وكما سيكون خلفه".
المصدر/ "الاخبار" اللبنانية