تشهد السياسة الخارجية التركية تحولات كبيرة في الآونة الأخيرة، فبعد تطبيع العلاقات مع إسرائيل، التي توترت منذ خمس سنوات، وخلق تقارب مع الدب الروسي بعد الأزمة التي شهدتها العلاقات الثنائية منذ إسقاط المقاتلة الروسية في شهر نوفمبر الماضي، جاءت تصريحات رئيس الوزراء التركي بشأن العلاقة التي تريدها بلاده مع سوريا لتثير جدلا أكبر وتساؤلات حول الدوافع وراء هذه التغييرات الجذرية في سياسة أنقرة.
وصرح رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم يوم الأربعاء الموافق 13.06.2016، أن بلاده طبعت علاقاتها مع إسرائيل وروسيا. وأضاف: "وأنا واثق بأنها ستعود إلى طبيعتها مع سوريا". ورغم عدم وجود أي مؤشر على الأرض حتى الآن يؤذن بتراجع تركيا عن موقفها من الأسد، أو بتغيير جذري في سياسة أنقرة التي لطالما دعمت مقاتلي المعارضة السورية، إلا أن تصريحات يلدريم تثير تساؤلات عديدة، رغم عودة يلدريم بعد ذلك إلى تأكيد أن النزاع السوري لن يكون له حل طالما بقي الرئيس بشار الأسد في السلطة.
وتبقى أبرز التساؤلات المطروحة: ماذا يعني هذا التقارب المحتمل بين الأسد وإردوغان بالنسبة للمعارضة السورية؟ وهل يمكن أن تشمل التوجهات السياسية الجديدة لأنقرة مصالحة قريبة مع القاهرة أيضا؟
"لا مشاكل مع الجيران"
خطوات تركيا الأخيرة في سبيل تطبيع العلاقات مع خصوم الأمس يرى فيها البعض محاولات من أنقرة لخلق تقارب إقليمي والعودة إلى مبدأ "لا مشاكل مع الجيران" في سياستها الخارجية. وهو المبدأ الذي كان تبناه إردوغان أثناء توليه رئاسة الوزراء قبل أن يتحول هذا النهج إلى مبدأ "العديد من المشاكل مع الجميع"، بحسب وصف بعض المحللين.
وبينما يعزو بعض الخبراء التغيير الكبير في السياسة الخارجية التركية إلى تعيين بن علي يلديريم - الحليف المقرب من الرئيس رجب طيب إردوغان - رئيسا للوزراء في أيار/مايو والذي يسعى إلى تبني نهج أكثر تصالحية في سياسة بلاده الخارجية بعد المواقف المتشددة لسلفه أحمد داود أوغلو.
ويرى الباحث في مركز الأهرام والخبير في الشؤون التركية عبد الفتاح بشير، أن التحولات التي شهدتها السياسة التركية تأتي بسبب وعي المسؤولين الأتراك بأنهم لا يمكنهم أن يستمروا في "السباحة ضد التيار". ويضيف الخبير المصري في حوار أجرته معه DW عربية: "الكل يعلم أن الكلمة الأخيرة في تركيا هي لإردوغان وليس لرئيس الوزراء. ما استجد هو أن هناك اتفاقا أمريكيا روسيا إسرائيليا على بقاء الأسد في السلطة وبالتالي أنقرة تعي أن استمرارها في موقفها من الأسد سيؤدي إلى استنزافها، خاصة مع تعزز الخطر الكردي السوري ووعي تركيا أيضا بأن الأسد يسعى لتوظيف هذه النقطة ضدها".
ولطالما جعلت تركيا خروج الأسد من السلطة شرطا مسبقا لإنهاء الحرب الأهلية المستمرة في سوريا منذ أكثر من خمس سنوات، والتي أدت إلى لجوء نحو 2,7 مليون سوري إلى تركيا. وعن تأثير الموقف التركي الجديد على المعارضة السورية يقول عبد الفتاح "طبعا سيكون موقفا صادما بالنسبة للمعارضة لأنها ظلت تراهن على الدعم التركي ليس العسكري فقط وإنما السياسي أيضا".
لكن نصر الحريري عضو الهيئة السياسي للائتلاف السوري المعارض أكد في تصريحات لـDW عربية، أن اتصالات المعارضة السورية مع وزارة الخارجية التركية تؤكد أن الموقف التركي فيما يخص آلية الحل في سوريا ثابت فيما يتعلق بتشكيل هيئة الحكم الانتقالية وعدم وجود بشار الأسد في المرحلة الانتقالية أو في مستقبل سوريا. ويضيف الحريري أن "إردوغان من جانبه أكد في لقاء له مؤخرا مع سوريين داخل تركيا أن الموقف التركي من الأسد ما زال كما هو ولا يوجد تفكير أصلا في إمكانية تغييره".
مصالحة مصرية-تركية قريبا؟
وفي انسجام مع تصريحات يلدريم الجديدة بخصوص أن حل النزاع السوري والقضاء على الإرهاب يستوجب رحيل الأسد، يقول علي باكير، وهو باحث في العلاقات الدولية في إسطنبول، أن يلدريم قصد بتصريحاته الأولى سوريا ما بعد الأسد. ويقول لـ DW عربية: "غير منطقي أن يتم فهم الحديث عن استعادة العلاقات مع سوريا على أنه يعني تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، لأن موقفا كهذا لن يكون من الممكن تبريره لا على المستوى الحكومي ولا الشعبي داخل تركيا".
من جهتها ترى أستاذة العلوم السياسية في جامعة دمشق أشواق عباس، أن تصريحات يلدريم لا يمكن أن تخرج دون وجود تنسيق مع إردوغان. وتضيف أن هذه التصريحات توضح أن هناك اتفاقات على ضرورة تغيير السياسة الخارجية التركية خاصة أن أنقرة أقرت مؤخرا بجملة من الأخطاء ارتكبتها تجاه عدد من الدول وليس سوريا فقط وعلى رأسها اعتذار تركيا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وهذا ما يعني بالنسبة للخبيرة السورية أنه لم يعد من المستبعد أن تعتذر أيضا لدول كمصر وسوريا. وتضيف أن التصريحات التركية لا تعني شيئا بالنسبة لدمشق ما دامت أنقرة لم تقدم اعتذارا رسميا وتعهدا بالتوقف عن دعم الإرهابيين، حسب تعبيرها.
وبينما يعتقد البعض أنه لم يعد مستبعدا بعد كل الخطوات التركية الأخيرة أن تسعى أنقرة إلى تطبيع العلاقات مع القاهرة أيضا، وهي العلاقات التي شهدت توترا منذ إطاحة الجيش المصري بالرئيس الإخواني محمد مرسي في 2013، يرى آخرون أن القيام بجهود مماثلة تجاه مصر سيكون أكثر صعوبة بالنسبة لأنقرة. وهو ما يتفق معه الخبير المصري بشير عبد الفتاح بالقول "مسألة المصالحة مع مصر غير واردة حاليا لعدة أسباب على رأسها أن واشنطن لا تضغط على أنقرة لتحقيق هذه المصالحة كما فعلت فيما يتعلق بروسيا وإسرائيل، فالمصالحة المصرية التركية قد لا تكون في مصلحة الأمريكان".
الموقف السعودي
ويقول مراقبون إن جهودا دبلوماسية سرية، مثل تلك التي تمت مع اسرائيل، ربما تبدأ لرأب الصدع بين أنقرة والقاهرة، خاصة أن السعودية، الحليف المشترك للأتراك والمصريين، تحرص أيضا على توثيق العلاقات بينهما. لكن إردوغان ظل يستبعد حتى الآن أي مصالحة مع النظام المصري.
ويضيف عبد الفتاح أن المصالحة مع المصريين ليست ملحة بالنسبة للأتراك بسبب غياب مصالح مشتركة من حجم تلك الموجودة مع الروس والإسرائيليين خاصة مع الدور الحيوي لموسكو وتل أبيب في الأزمة السورية، بينما الدور المصري ليس حيويا. ومن جهة أخرى لأنه لا توجد تفاهمات حتى على المستوى الشخصي بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وإردوغان، حيث يشكك الأخير في شرعية السيسي كرئيس. والتطبيع هنا صعب لأن كل طرف منهما يريده مجانيا دون تنازلات.
وعن ردة فعل السعودية بعد التصريحات التركية والتغيير المحتمل لموقف أنقرة في الأزمة السورية، يقول عبد الفتاح "لن يتأثر التحالف التركي السعودي، لأن السعودية بالنسبة للأتراك هي مفتاح الخليج ودولة سنية محورية في المنطقة، وبالتالي يبقى التنسيق معها ضروريا. وأتوقع أن تشهد السياسة السعودية نفسها مرونة شديدة فيما يتعلق بالملف السوري وتأقلما مع المعطيات الإقليمية الحالية".