2024-05-19 10:44 م

بعد دخولها الشهر الثامن.. الحرب على غزة أصبحت معركة بلا هدف

تدخل الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثامن دون جديد يذكر، فما سوى القتل والتنكيل واستهداف المدنيين والعزل، لم يحقق جيش الاحتلال أي مُنجز يمكن تسويقه نصرًا، أو على الأقل اختراقًا ملحوظًا للأهداف الثلاث التي أعلن عنها بداية المعركة أكتوبر/تشرين الأول الماضي وفشل في تحقيق أي منها.

213 يومًا مرت على تلك الحرب، التي لم تتوقف فيها آلة القتل والتدمير الإسرائيلية، ارتكب فيها الإسرائيليون كل ألوان الجرائم المحرمة دوليًا، خلفت ورائها قرابة 35 ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال، وأكثر من ضعفهم جرحى ومصابين، فضلًا عن مليون ونصف نازح على الأقل.

وبعد 7 أشهر كاملة من القتال، تجمدت الحرب عند مرحلة “القتل والتدمير وإيقاع المزيد من الضحايا” دون تحقيق أي هدف أو انتصار حتى لو كان وهميًا، حتى فقدت بوصلتها بشكل واضح، وأصبح القتال مجردًا من أي خطط أو إستراتيجيات، ولن يسفر عن أي جديد مهما طال أمده، لتتحول الحرب على غزة إلى معركة بلا هدف.

سقوط إستراتيجية “الضغط بالتدمير”
استند مجلس الحرب الإسرائيلي منذ بداية المعركة في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على سياسة “الضغط بالتدمير”، متوهمًا أن المزيد من القتل والإبادة سيقود حتمًا إلى مزيد من الضغوط على المقاومة ومن ثم الوصول إلى نتائج إيجابية في أسرع وقت، يحقق بها الكيان المحتل أهدافه الثلاث المعلنة.

ومن ثم كانت البداية الأشرس في الشمال، إذ نجح في تهجير معظم سكان تلك المناطق إلى الوسط، ليبدأ المرحلة الثانية من تلك الحرب، وحقق فيها ذات النتائج التي تحققت في المرحلة الأولى، فنزحت الغالبية أمام آلة القصف جوًا وبحرًا وبرًا، وصولًا إلى خان يونس حيث شمال المنطقة الجنوبية، تمهيدًا للمرحلة الثالثة والأخيرة حيث اجتياح رفح.

لكن الاحتلال تفاجأ بصمود غير طبيعي للغزيين في المرحلتين الأولى والثانية، فالمقاومة ثابتة وواقفة على أقدامها حتى في المناطق التي ادعى فيها الاحتلال أنه سيطر عليها في الشمال والوسط، كذلك سكان المناطق الشمالية والوسطى، ممن أصروا على العودة إلى مناطقهم مرة أخرى رغم التهديدات والاستهدافات المباشرة من طيران الاحتلال، تزامن ذلك مع تطورات قوية في إستراتيجيات المواجهة التي تتبناها حماس والجهاد، حيث العمليات النوعية وفخاخ الكمائن جنبًا إلى جنب مع القصف الصاروخي للمستوطنات في مدن الغلاف وفي الداخل الإسرائيلي.

ولعل عملية “كرم أبو سالم” التي نفذتها المقاومة أمس الأحد 5 مايو/أيار، حين استهدفت مركز قيادة قوات الاحتلال في جنوب قطاع غزة وأسفرت عن مقتل 4 جنود وإصابة 11 جنديًا بينهم 2 إصابتهما خطيرة، تجيب عن الكثير من التساؤلات المبهمة عن وضعية المقاومة ميدانيًا.

وبعد أكثر من 7 أشهر، كانت المحصلة الإسرائيلية من الأهداف صفر، فلم يحرر جيش الاحتلال أسيرًا واحدًا، ومن تم إطلاق سراحهم كان عبر هدنة وبموافقة المقاومة، رغم تدمير ما يزيد على ثلثي القطاع، ولا ضمن ألا تشكل غزة تهديدًا لـ”إسرائيل”، حيث لا تزال صافرات الإنذار تدوي في سماء عسقلان ومدن الغلاف جراء رشقات المقاومة، هذا بخلاف القضاء على حماس وبنيتها التي لا تزال تكبد جيش الاحتلال خسائر فادحة في الشمال والوسط وخان يونس.

فقدان للبوصلة.. حرب بلا رؤية
راهن الاحتلال على الأرقام المفزعة لأعداد الضحايا من الجانب الفلسطيني، وحجم التدمير الهائل، ما يسفر عن رضوخ المقاومة واستسلامها هربًا من ضغوط الشارع والوسطاء والحلفاء معًا، وإنقاذًا لما تبقى منها، وإبقاء الباب مواربًا لعودتها مستقبلًا إذا ما تحسنت الأجواء.

لكن سرعان ما تهاوى هذا الرهان، بعد صمود المقاومة والغزيين معًا، لتصبح الحرب بلا رؤية ولا هدف، ولو استمرت لسنوات قادمة فلن تسفر عن جديد، خاصة مع تغير إستراتيجيات الحرب وتنوعها من جانب حماس وبقية الفصائل، وهي الإستراتيجيات التي تُبقي المقاومة في المشهد لفترات طويلة قد لا يتحملها جيش الاحتلال، وهو ما تعيه النخبة السياسية والعسكرية لدى الكيان المحتل، التي تطالب نتنياهو بإنقاذ الموقف وإنهاء الحرب والخروج من هذا الفخ الذي قد يُنهي على ما تبقى من القوة العسكرية الإسرائيلية.

ومع تلك الأعداد الكبيرة من الضحايا التي تتساقط جراء حرب الإبادة تلك، دفع الفلسطينيون الجزء الأكبر من فاتورة الدم الباهظة، التي كان يضغط بها جيش الاحتلال لتركيع المقاومة، وبدأ تأثير الصدمة – رغم قسوتها – يبرد شيئًا فشيئًا، لتتخلص حماس إلى حد كبير من الضغوط والأعباء التي كانت عليها طيلة الفترة الماضية بسبب تلك الورقة.

هذا بجانب الأجواء الإقليمية والدولية التي تخدم المصالح الفلسطينية في المقام الأول، وهو الزخم الذي ينعكس على الأداء ميدانيًا، ويضع جيش الاحتلال وقيادته تحت ضغوط قوية، أصابتهم بحالة من الارتباك والتخبط، ليفقد الجيش الذي كان يسوق لنفسه على أنه من أقوى جيوش العالم، بوصلته بشكل كبير، ويسقط سقوطًا مدويًا في وحل غزة، فلا هو قادر على تحقيق أي انتصار يحفظ ماء وجهه، ولا قادر على الخروج من هذا الفخ خشية ما يترتب على ذلك من تبعات كارثية على مستقبل الكيان.

ارتباك سياسي وعسكري
تقول علوم الحروب العسكرية إن الانتصارات الميدانية في ساحات القتال تجلب معها بالتبعية استقرارًا وتناغمًا كبيرًا داخل غرف القيادة وعلى مستوى صناع القرار السياسي، والعكس صحيح، وفي حال سحب تلك القاعدة على ميدان الحرب في غزة يمكن الوقوف على تطورات المشهد بصورة مجملة.

فعلى المستوى الإسرائيلي، يعاني مجلس الحرب والحكومة بصفة عامة من ارتباك وتخبط وعشوائية وانقسامات حادة بين الأعضاء، لعل آخرها ما كشفته القناة الـ13 الإسرائيلية عن اجتماعات الحكومة صباح الأحد 5 مايو/أيار الحاليّ، حيث شهدت مواجهات حادة بين الوزراء، أسفرت عن انسحاب ومغادرة وزير الدفاع يوآف غالانت الاجتماع غاضبًا، فيما رفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تهديدات الوزراء بالانسحاب من الحكومة.

ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تشهد اجتماعات الحكومة الإسرائيلية انسحابات وانقسامات من هذا النوع، إذ سبق وتكرر الأمر أكثر من مرة خلال الآونة الأخيرة، ووصل التراشق بين الوزراء والجنرالات إلى مستويات غير مسبوقة، الأمر الذي يعكس حجم التخبط والعشوائية وانعكاس ما يحدث في الميدان على طاولة النقاش داخل الغرف المغلقة.

ويتمحور الخلاف والانقسام داخل الكابينت والحكومة حول إدارة المعركة، ففريق يرى بالتصعيد ومواصلة القتال، حتى وإن لم تحقق الحرب أهدافها حتى الآن، وآخر يطالب بالاستجابة لهدنة مؤقتة واتفاق تبادل أسرى يخفف نسبيًا من ضغط الشارع، فيما تتصدر مسألة اليوم التالي للحرب قائمة الأسباب التي أدت إلى هذا الانقسام.

وتعاني الساحة الإسرائيلية من تباين في وجهات النظر وحالة تنافر بين مختلف الأطياف والتيارات، السياسية والعسكرية والجماهيرية، لم تشهدها منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، الأمر الذي يكشف النقاب عن مرحلة جديدة من المواجهات تتغير فيها معادلات القوى بين المقاومة والكيان المحتل.

وعلى الجانب الآخر تحيا المقاومة حالة من التنسيق والتفاهم غير المسبوق، فلأول مرة تتناغم عمليات المقاومة في أكثر من جبهة على نفس النغمة، في غزة ولبنان والعراق واليمن، وهو ما يمكن أن يعطي مؤشرًا عامًا عن وضعية المقاومة في الميدان، وقدرتها على الصمود والتصدي لجيش الاحتلال رغم الفوارق الهائلة عسكريًا بين الطرفين.

رفح.. ورقة الاحتلال الأخيرة
في ظل حالة الارتباك والتخبط التي يعاني منها جيش الاحتلال في غزة، لم يعد أمام نتنياهو سوى ورقة رفح التي يحاول من خلالها الخروج بأي انتصارات تحفظ  ماء وجهه أو تُبقي أمد الحرب أطول فترة ممكنة، بما يُرجئ نهايته السياسية المرهونة على الأرجح بنتائج تلك الحرب.

وبدأ جيش الاحتلال صباح اليوم الإثنين 6 مايو/أيار إجلاء السكان المدنيين من الأحياء الشرقية لمنطقة رفح إلى إحدى المناطق التي أعدها في منطقة المواصي لاستيعاب قرابة 100 ألف مواطن، تمهيدًا لعملية برية في رفح، وقد أرسل الجيش رسائل نصية عبر الهاتف ومنشورات إلى الغزيين يحذرهم فيها من أن البقاء في المدينة الجنوبية تهديد لحياتهم، فيما نقلت وكالة “فرانس برس” عن المتحدث باسم جيش الاحتلال قوله: “هذا الصباح.. بدأنا عملية محدودة النطاق لإخلاء مدنيين بشكل مؤقت من الجزء الشرقي من رفح”، مضيفًا: “هذه عملية محدودة النطاق”.

ومنذ بدء جولة المفاوضات الراهنة بين الحكومة الإسرائيلية وحماس بدأ جيش الاحتلال في إسراع وتيرة الخطوات والإجراءات التي تشير إلى قرب تنفيذ تهديد اجتياح رفح بريًا، بحجة القضاء على ما تبقى من معاقل حماس وتحرير الأسرى الذي يتوقع نتنياهو وجنرالاته أنهم في جنوب القطاع، وهي المنطقة الوحيدة التي لم يجتاحها جيش الاحتلال بريًا رغم استهدافها قصفًا بالطائرات خلال الأيام الماضية، وهذا يشير إلى أحد أمرين:

الأول: الضغط بورقة رفح.. يؤمن الاحتلال أن اجتياح رفح لن يغير من المشهد شيئًا، بل على العكس ربما يزيد من تشويه صورة “إسرائيل” دوليًا، ويشعل الرأي العام العالمي ضدها أكثر وأكثر، خاصة مع التداعيات الكارثية المتوقعة إنسانيًا حال الإقدام على تلك العملية، كما يعلم جيدًا أن الحديث عن القضاء على بنية حماس وقدراتها وإطلاق سراح المختطفين جراء هذا الاجتياح ليس سوى مزاعم يحاول من خلالها تخدير الرأي العام الداخلي، والبحث عن حجة وشماعة لتبرير فشله وعجزه في تحقيق أي من أهداف الحرب.

وعليه فالكيان يحاول توظيف تلك الورقة عبر تصعيد لغة التهديد والوعيد، للضغط على الوسيطين المصري والقطري، ومن خلفهما الأمريكي، من أجل ممارسة المزيد من الضغط على حماس، لتقديم تنازلات بشأن صفقة التبادل، بما يساعد على الخروج بصيغة تُرضي الإسرائيلي وتقلل نسبيًا من مرارة الهزيمة التي تلقاها على مدار 7 أشهر كاملة، وهذا ما كشف عنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، حين قال إن تلك العمليات تهدف في هذه المرحلة إلى الضغط على حركة حماس كجزء من مفاوضات الصفقة لإطلاق سراح محتجزين إسرائيليين.

الثاني: الاجتياح وتكريس سياسة الأرض المحروقة.. إن لم ترضخ حماس لتلك الضغوط فربما يجد الاحتلال نفسه مدفوعًا نحو تنفيذ تلك العملية، التي يكون الهدف منها حرق كل الأوراق، وتعزيز إستراتيجية “كي الوعي” التي يمارسها مع الفلسطينيين منذ عملية الطوفان، باحثًا عن انتصار وهمي يعتمد على أرقام الضحايا وحجم التدمير الذي قد يُرضي نهم بعض الإسرائيليين لا سيما المتطرفين منهم.

غير أن هذا السيناريو ربما يكون له تبعات تضع مصالح “إسرائيل” والولايات المتحدة على المحك، خاصة أنها ربما تغير قواعد الاشتباك في المنطقة، وهنا قد يأتي الدور الأمريكي للتخفيف من وطأة تلك الخطوة عبر الاكتفاء بعمليات نوعية يستهدف بها بعض مرتكزات حماس، وربما يوقع بها عددًا من قيادات الحركة، ويتم التسويق لذلك على أنه انتصار يتطلب الدخول في جولة مفاوضات جديدة قد تُنهي الحرب بشكل كامل.

وهكذا وبينما تدخل حرب غزة شهرها الثامن، وفي ظل غياب الرؤية والخطط والأهداف، فإن المشهد على الأرجح لن يشهد أي تطورات قد تغير الصورة، ما لم يرضخ المحتل لاتفاق ينقذ ما يمكن إنقاذه، فبعيدًا عن القتل والتدمير، لن تجني “إسرائيل” أي منجزات من وراء تلك الحرب سوى المزيد من العزلة والصورة المشوهة التي نجحت المقاومة بصمودها والغزيون بثباتهم في تعزيزها يومًا تلو الآخر.

المصدر: نون بوست