2024-05-11 11:04 ص

حيث نشأت جماعة «بوكو حرام».. تاريخ «إمبراطورية برنو» الإسلامية المنسية

2020-10-02
ربما لم تسمع من قبل عن مدينة تُدعى كانم، ولا تعرف أنها مدينة إسلامية، لكن المفاجأة أنها إمبراطورية جابت شهرتها الآفاق. فالمؤرخون العرب كانوا شديدي الارتباط بها حتى قبل ظهور الإسلام ودخوله للإمبراطورية؛ وحين دخلها الإسلام توطَّدت العلاقات بينها وبين العرب أكثر وأكثر، ففتح الإسلام أذهان أبناء الإمبراطورية للغة العربية، فانطلقت بها ألسنتهم، وامتلأ بعلومها أدبهم، حتى خلَّفوا تراثًا عربيًّا أصيلًا.
إمبراطورية كانم هي أول مملكة إسلامية قامت في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وامتد نفوذها إلى السودان الأوسط طوال ثمانية قرون كاملة، من عام 800م إلى عام 1600م، وشملت التشاد وشمال شرق نيجريا، وجنوب ليبيا، وشرق النيجر، وشمال الكاميرون. وفي قلب الصحراء القاحلة متقلبة الرياح والأهواء السياسية، إذا صمدت دولة كل تلك القرون؛ فإن ذلك يعني أنها دولة قوية ثابتة الدعائم والأركان.

زادت قوة كانم حين دخلها الإسلام؛ فأعطاها دافعًا روحيًّا وعصب قوتها المادية، ودخلها الإسلام عام 1058 ميلاديًّا على يد مُقاتل مسلم يُدعى هوماي، الذي أزاح آخر ملك من ملوك دوجووا عن السلطة سلميًّا، لتنشأ أسرة حاكمة جديدة، هي أسرة سيفووا، التي تميَّزت بأسلمة رأس نظام الحكم.

لكن تلك الإمبراطورية القوية لم تلبث أن تحولت إلى أنقاض، فابتعلتها إمبراطورية أخرى تُدعى إمبراطورية برنو، كانت مؤسسة منذ عام 1380 ميلادية. لم تكن برنو وقت ميلادها بالاتساع الكافي، لكن مع ابتلاع منطقة تلو الأخرى اشتد عودها، واتخذ ملوكها الأوائل مدينة بيرنى نجازرجامو الواقعة في غرب بحيرة تشاد عاصمةً لهم، تلك المدينة صعبة النطق، سوف تصبح لاحقًا نيجريا.

القاسم المشترك بين الإمبراطوريتين أن اللغة العربية كانت لغتهما الرسمية، ففتحت لهما ظهيرًا قويًّا من الدعم المستند إلى العصبة العربية والإسلامية. وصدرت عن برنو مصنَّفات عدة غير أن معظمها ضاع إبان الفتح الفِلاني لبلاد الهوسا، يقول المؤرخ أوكافور «عندما جاء المستعمر الأوروبي إلى غرب أفريقيا في القرن التاسع عشر؛ كان المثقفون الأفريقيون يكتبون باللغة العربية، وكانت جميع المدوَّنات والسجلات التاريخية عن غربي أفريقيا، وهي التي عثر عليها المستعمرون، كانت جميعها مكتوبة باللغة العربية».

من تلك الآثار رسالة كتبها ملك برنو إلى السلطان الظاهر البرقوق في القاهرة حوالي سنة 894هـ يطلب منه العون فجاء فيها:

«إلى ملك المصر الجليل، أرض الله المباركة، أم الدنيا، سلام عليكم أعطر من المسك الأذفر، وأعذب من ماء الغمام. زاد الله ملككم وسلطانكم، والسلام على جلسائكم وفقهائكم وعلمائكم، الذين يدرسون القرآن والعلوم، وجماعتكم وأهل طاعتكم أجمعين. وبعد ذلك؛ فإنَّا قد أرسلنا إليكم رسولنا، وهو عمِّي، واسمه إدريس بن محمد، من أجل الجائحة التي وجدناها وملوكنا، فإن الأعراب الذين يُسمُّون جذاما وغيرهم، قد سبوا أحرارنا من النساء والصبيان وضعاف الرجال، وقرابتنا من المسلمين».

برنو تبتلع كانم ويُولد شعب جديد
إذا كان سلطان مصر يُخاطب باسم السلطان والملك، فإن ملوك برنو كانوا يُلقَّبون بالمايات، مفردها ماي؛ وتعني الملك أيضًا. أبرز المايات الذين حكموا برنو كان الماي إدريس آلوما، حكم الإمبراطورية 32 عامًا كاملة، وفي تلك الأعوام بلغت الإمبراطورية أوج قوتها.
أمَّا عن كون ماي برنو يُخاطب سلطان القاهرة تحديدًا، فذلك يرجع لقوة مصر آنذاك وسلطتها الروحية على العالم الإسلامي، بجانب أن سكان برنو كانوا دائمي المرور من القاهرة بشكل دوري، وذلك بفضل شعيرة الحج. فالحج كان من أهم مظاهر الإسلام في المملكة وحرص الحكَّام والسكان على أدائه سنويًّا، وكانوا يمرون من القاهرة باستمرار، فزادت الرابطة بين الطرفين.

ولأن مصر كانت تُعد موطن قراءة القرآن، وعلماء الإسلام، ومستقر أهل النحو؛ فقد استعانت إمبراطورية البرنو بهم في مساجدها وكتاتيبها، وقد أكثر أهل البرنو من بناء المساجد وافتتاح الكتاتيب.

غير أن الأمور لم تظل بتلك السلاسة، ولم تحدث بهذا التتابع البسيط، بل كان هناك تداخل وصراع مرير بين كانم وبرنو، ومرحلة تزاوج وسطى نتج منها كيان جديد. فبعد عقود طويلة دامية من الغزوات المتتابعة من بولالا (أسرة برنو الحاكمة)، أُجبرت أسرة سيفووا على التنحي والعودة إلى الحياة البدوية التي تركوها 700 عام كاملة.

تمكَّنت حكومة برنو الجديدة من السيطرة على مقاليد الأمور، لكن سكان كانم ظلوا على وعدهم بصد هجمات الأعداء المتربصين ببرنو، فظلت الإمبراطورية القديمة والجديدة متجاورتين فترةً من الزمن، فبسبب التجاور المكاني انتشر الزواج بين أفراد القبيلتين، فوُلد شعب جديد يتحدث لغةً جديدةً، لغة الكانوري.

بميلاد ذلك الشعب الجديد واللغة الجديدة امتزجت الإمبراطوريتان حتى عرفتا بإمبراطورية كانم-برنو، لكن السلطة الرسمية ظلت في سلالة أبناء برنو لمدة 75 عامًا متواصلة، جلس فيهم 15 مايًا على كرسي السلطة. لكن في غفلةٍ من ملوك برنو استطاع الماي علي دونامامي، من أسرة سيفووا، التغلب على منافسيه من برنو، وتوحيد برنو بالكامل تحت رايته، وبنى عاصمةً محصنةً للإمبراطورية شديدة الاتساع، تُعرف حاليًا باسم نيجيريا، لتكون أول عاصمة دائمة ورسمية يتمتع بها ماي من ملوك سيفووا بعد 100 عام كاملة من إطاحتهم.

سلطان قويٌّ سلَّم السلطة لسلطان أقوى، هو الماي علي جاجي، استطاع أن يهزم بولالا بالكامل، وينتزع منهم عاصمتهم ليُعلن بذلك وفاة دولتهم رسميًّا، لكنه أبقى على قيادة الإمبراطورية من العاصمة نجازار جامو، نيجيريا، لأن أرضها كانت أكثر خصوبة ومتناسبة مع تربية الماشية.

إدريس آلوما.. الهجين الذي أعاد مجد الإمبراطورية
عودة إلى الاسم المذكور سابقًا، إدريس آلوما، الرجل الذي بلغت في عهده الإمبراطورية المندمجة أوج قوتها بين أعوام 1571  إلى 1603 ميلاديًّا.
اشتُهر إدريس بورعه رجلًا مسلمًا، وإصلاحاته الإدارية سياسيًّا، ومهاراته العسكرية مقاتلًا، لكنَّه كان محاطًا بأعداءٍ عدة، الهوسا في الغرب، وتوبو والطوارق في الشمال، والبولالا في الشرق.

خاض الرجل معارك ضد كل هؤلاء، بلغت حروبه الكبرى 330 حربًا، وأكثر من ألف مناوشة صغرى. وعلى الجانب الآخر فتح قصره للسفراء والدبلوماسيين، فاستضاف قرابة 200 فرد من مصر وطرابلس والدول التابعة للإمبراطورية العثمانية، ووقع معاهدة لوقف الحرب مع تشاد.

ساعد إدريس في تدعيم ملكه أنه كان أحد أبناء الشعب الجديد، مولود من أب من الكانوري وأم من البولالا، فلم يستطع أحد أن ينسب إنجازاته لقبيلة أو فئة بعينها. وقد كان إدريس يستخدم دائمًا كلمة إمبراطورية كانم-برنو لوصف دولته، فلا يذكر شقًّا دون الآخر.

النقطة التي تلي قمة المنحنى مباشرة، هي نقطة بداية انهيار المنحنى، عصفت بعض المجاعات المتتابعة بالإمبراطورية، لكن إصلاحات إدريس كانت أقوى من المجاعات؛ فصمدت الدولة مستترة خلف تفوقها العسكري الهائل. لكن تتابع الأزمات أنهك جسد الإمبراطورية حتى باتت معرضة للانهيار مع أي ضربة من شرق أو غرب.

الكانمي يتربع على عرش الإمبراطوريتين
الضربة أتت من الغرب، الشعب الفِلاني كان يزداد وتقوى دولته، يبتلع دولة تلو الأخرى من جهة الغرب، حتى بات على مشارف برنو، وفي عام 1808م دخل مقاتلوه العاصمة، نجازار جامو، وأعلن جنود الفِلاني حربهم المقدسة. هكذا أطلقوا عليها، الحرب المقدسة؛ لأنهم شنُّوها ضد من وصفوهم بأنهم مسلمين غير ملتزمين، وبالفعل نجح عثمان دان فوديو في بسط نفوذه ومفهومه للإسلام على الإمبراطورية.

لكن يشاء القدر أن يكون من يقاوم دولة عثمان، هو محمد الأمين الكانمي، رجل دين مسلم تحول إلى رجل سياسة ليُقاوم ما يفعله عثمان ورجاله في الإمبراطورية.

لم يكن الكانمي ينتمي إلى أسرة سيفووا المُزاحة عن العرش، لكنه كان من العرب الرُحل، فكوَّن منهم تحالفًا قويًّا مع أفراد إمبراطورية كانم-برنو وأنشأ عاصمة لدولته الجديدة عام 1814 ميلاديًّا. قاومت الدولة الجديدة دولة عثمان، ظلت المقاومة على استحياء طوال 30 عامًا حتى تعاون ماي إمبراطورية كانم-برنو مع إمبراطورية معادية، فقامت حرب أهلية طرفاها شعب كانم-برنو والماي ومؤيدوه، هنالك تدخلت دولة الكانمي الجديدة وانتزعت النصر لنفسها.

كان الكانمي المؤسس قد مات، فتولى ابنه عُمر الحكم، فانتهى عصر حكم أسرة سيفووا وبولالا على السواء، وبذلك أنهى عمر أطول فترة تاريخية لحكم الأسر في التاريخ. أراد عمر أن يُعلن أن دولته دولة جديدة لا تمت للماضي، فلم يستخدم لقب الماي واستخدم لقب شيهو، النطق الكانوري لكلمة الشيخ بالعربية.

بريطانيا تُمزق الإمبراطورية إلى 19 ولاية متناحرة
تبدلت الأسماء لكن ظلت إمبراطورية كانم-برنو قائمة، حتى بعد وفاة عمر وتولي ابنه، لكن ابنه كان حاكمًا ضعيفًا؛ فترك السلطة لمجموعة من المستشارين، فعانت الإمبراطورية مزيدًا من التدهور الإداري، خاصة وأن هجمات الميلشيات العسكرية التي تحيط بالإمبراطورية لم تسكن لحظة.

أتى عام 1893م بجيش جديد لبرنو آتيًا من الشرق هذه المرة، جيش رابح الزبير من السودان، لكن لم يلبث طويلًا حتى طُرد جيشه من الإمبراطورية، لكن طرده هذه المرة كان على يد قوة غير مألوفة، المملكة المتحدة، بريطانيا، وباتت كل تلك المناطق خاضعة لكيانٍ جديدٍ تسيطر عليه بريطانيا يُعرف باسم نيجيريا، وسُمح للإمبراطورية بالبقاء دون تفكيك، شريطة أن يكون اسمها، إمارة برنو فحسب، لا إمبراطورية، ولا كانم-برنو.

تحولت الولاية إلى قاعدة عسكرية بريطانية، وأنشأوا فيها مدينة تُدعى ميدجوري عام 1907م، ويعرفها سكانها باسم مدينة يروي، كلمة عربية مأخوذة من جملة (يروي عطشه)، إشارة إلى أن المدينة تُطل على البحر. ازدهرت يروي، حتى أصبحت أهم مدن المنطقة عام 1976م.

لم تندثر برنو ولا تاريخها، لكنه أخذ منعطفًا مختلفًا في السنوات الأخيرة، عام 2002م شهدت مدينة ميدجوري ولادة تنظيم مسلح يُدعى بوكو حرام. أما علاقة ميدجوري ببرنو؛ فهي أن الأولى عاصمة الثانية. إذ اختيرت يروي لتكون عاصمة برنو بعد أن مزَّق البريطانيون الإمبراطورية المتداعية إلى 19 ولاية منفصلة بحدود مشتركة ونزاعات لا تنتهي. وما تزال ميدجوري، وبرنو عامةً، شاهدةً على التنوع العرقي والقبائلي الذي تميزت به الإمبراطورية قديمًا، فيسكنها حاليًا قبال الهوسا، والكانوري، والفلان، ومارجي، وقبيلة شووا، ذات الأصول العربية.
لكن الإعلام العالمي لا يعرف عن برنو ولا ميدجوري، ولا يروي سوى لحظة واحدة، عندما جاء الزعيم الديني النيجيري، محمد يوسف، ليُعلن تأسيس جماعة «بوكو حرام». وربما يكون أشهر أحياء المدينة في العقل الغربي، حيٌّ أسماه يوسف بأفغانستان وجعله مقرًّا للجماعة، تضامنًا مع الغزو الأمريكي لأفغانستان.
ساسة بوست