2024-03-19 06:41 ص

طواف حول القدس بعد (الربيع)!!

2018-01-09
جعفر محمد حسين فضل الله
توقيع الرئيس الأميركي على اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، والمباشرة بإجراءات نقل السفارة الأميركية إلى القدس... لم يشكّل صدمة عنيفة للمتابعين لمسار الأحداث، ولا سيّما خلال الفتنة المذهبية التي امتطت صهوة تدمير كلّ الواقع العربي والإسلامي من خلال الحركات التكفيريّة المتطرّفة، بقدر ما أشعرَ المخلصين بالخطر؛ لكون هذا التوقيع يمثّل – في توقيته – عملية استثمار لكل ما أنجز في تلك السنوات.

ولأجل ذلك، يراهن كثيرون، سواء من جهات رسميّة عربية وعبريّة، أو من محلّلين سياسيّين، على أنّ هبّاتِ الشعوب العاطفيّة لم تكن لتستمرّ أكثر من أسبوع أو اثنين وتنتهي القصّة؛ لتعود هذه الشعوب إلى الواقع وتفتح أعينها على استمرار تغيير المعالم والمواقع على الأرض لا على الورق! تماماً كما هو تاريخ هذه القضيّة.
قد يذهب البعضُ إلى أبعد من ذلك؛ ليعتبر أنّ الشعوب نفسها تقع دائماً ضحيّة خطط لإنضاج طبخة ما، بحيث يكون من ضمن هذه الخطط استثارتها لتنزل إلى الشارع على وقع رفع السقف عالياً من قبل الجهات المتآمرة، ثمّ إذا تمّ الالتفاف عليها شكّل أي تنازُلٍ عن هذا السّقف ربحاً لهذه الجهات، وخسارة «مقبولةً» للشعوب!

توظيف الديني في «الربيع العربي»!

من المهمّ إعادة التذكير بأحد أخطر نتائج ما سمّي بالربيع العربي، وهو تعقيد الشعوب العربيّة من الهويّة الفلسطينيّة، حيث تمّ ربطُها بالتفجيرات المتنقّلة التي ضربت أكثر من بلدٍ من بلدان الطوق، أو البلدان التي مثّلت تاريخياً ويمكن أن تمثّل خزّاناً بشرياً في أيّ عملية تحرير كبرى مفترضة لفلسطين من الاحتلال. يكفي للإنسان أن يجول في مواقع التواصل الاجتماعي ليجد مستوى التفاعل مع الفلسطينيّ، بين العراقيّين أو السوريّين أو المصريّين، أو في الأردن أو في لبنان – والقضيّة مع لبنان عمرُها من عمر الكيان الغاصب -.
المشكلة مع الفلسطينيّ اكتسبَتْ أيضاً بُعداً مذهبياً حادّاً، وذلك لأنّ الاتّجاه الذي استعادت فيه بعض الحركات الإسلامية الخطاب المذهبي الحادّ تجاه المسلمين الشيعة، شكّل مناسبة لاستعادة أو لإنتاج حالة ضديّة مقابِلة، وربّما بات كثيرون من الشيعة يهمسون سرّاً أو جهراً، بفقدان العزم على تحرير فلسطين لأجلِ أناسٍ يميلون إلى الحالة السلفيّة وبالتالي يكفَّرونَ كشيعة من قبل أدبيّات «شيخ الإسلام ابن تيمية» ونحوها.
في المقابِل، وُضع الشيعة على أنّهم يعملون ضدّ الإسلام، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قبل أكثر من سبعة قرون في أحد توصيفاته للرافضة (1) أو الشيعة بتوصيف هذه الأيّام، حيثُ يقول: «والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام... وكذلك في الحروب التي بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام قد عرف أهل الخبرة أنّ الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين... وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصّة عند الرافضة، وإذا غلب المشركون المسلمين كان ذلك عيداً ومسرّة عند الرافضة» (2)، في ما بدا على أنّه استعادةٌ لمرحلة تاريخيّة بكلّها وكلكلها.
هي مرحلة غزو التتار لبلاد المسلمين، وإسقاط دولة الخلافة العباسيّة، واتّهام الشيعة بالتآمر على إسقاطها بشخص وزير الخليفة ابن العلقَمي ونصير الدّين الطوسي. وتمّ إلباسُ الأمر من جديد لتمكين الولايات المتّحدة الأميركية من احتلال العراق، وقتال حزب الله الشّيعي ضدّ القوى التي ترفع شعار «لا إله إلا الله محمّد رسول الله» وتعزم على استعادة الخلافة الإسلامية، إلى جانب قوى الكفر المتمثّلة بروسيا.
هذا المنطق لا ينبغي التهوين منه في رصد طبيعة المشكلة الثقافيّة وحجمها؛ تلك المشكلة التي شكّلت غطاءً – وما تزال – للكثير من الأحداث التي جرت باسم السنّة أو الشيعة، أو أُلبست لهؤلاء وأولئك، على مساحة المنطقة، في هذه المرحلة الحسّاسة جدّاً من تاريخ أمّتنا.

تعقيد الشعوب من الفلسطيني!

أيّاً يكن الأمر هنا، فإنّ تعقيد المحيط الشعبي من الفلسطيني ليس بالقضيّة الهامشيّة في حركة القضيّة؛ لأنّ الشعوب هي حاملة القضايا على مدار التاريخ وليست الأنظمة؛ بل تاريخ الأنظمة العربية عموماً يشي بأنّها كانت دائماً تمهّد للاحتلال احتلاله، وتعمل دائماً على الضغط على الشعوب وحركات المقاومة المنبثقة عنها، والتبرير للاحتلال وحمايته من أي إحراجٍ... وعلى هذا فإذا تعقّدت الشعوب وخفّ نبضُها الذي لم تستطع الأنظمة قمعه على امتداد تاريخ القضيّة، فإنّ الشعب الفلسطيني سيسهُل ضربُهُ وتهجيره، بل قد يكون الأمر مدعاةً للتشفّي لدى بعض الذهنيّات الساذجة، وبذلك يتمّ شطب القضيّة بالكامل.
انطلاقاً من ذلك، يصبح من السذاجة النظر إلى كل هذا الجدل المذهبي العابر للفضائيّات ومواقع التواصل الاجتماعي، وكلّ هذا التدمير الممنهج للمساجد والكنائس والأضرحة والمقامات وكلّ هذا التراث العمراني على امتداد مساحة هذا الوطن العربي، على أنّه تعبير عن أزمة تاريخية فقط لها علاقة بالنقاش حول الخلافة والإمامة.. وكأنّه أريد لشعوبنا أن تعتاد أعيُنها على استسهال ضرب المقدّسات وتدمير التاريخ وتغيير الجغرافيا، على خلفيّات دينية مقدّسة، تجعل الإنسان يُمارس الانتحار الثقافي باسم الله والدّين والأمّة، وحتّى باسم تحرير المقدّسات!

الجدل حول «الربيع العربي»!

لا ينفع كثيراً اليوم استمرار الجدل حول ما سمّي بالربيع العربي لجهة تحديد المسؤوليّات؛ فإنّ كثيرين ربّما ينظّرون اليوم أنّنا دخلنا في مرحلة الوضوح للمشاريع التآمريّة، وأنّ فلسطين كانت هي المقصودة؛ فقد قطع الرئيس الأميركي الشكّ باليقين، وهذا ما يرون على أنّه يدفع إلى صحوةٍ لدى الحركات الإسلامية التي تنافرت مواقفها في الأزمة السوريّة بالخصوص إلى شبه القطيعة، فحدّد حزب الله على لسان أمينه العامّ في مسيرة النُّصرة للأقصى التي دعا إليها أنّ الحزب سيتفرّغ الآن للقضية المركزيّة، فلسطين، وقابلته حركة حماس على لسان رئيس مجلسها السياسي من غزّة في تأكيده على أنّها ستعمل على «بناء تحالفات قويّة في الإقليم» وتجاوز المرحلة الماضية.
هذا الأمر كلّه لا يمنع من افتراض أنّ الساحة الشعبية ما زالت تحمل رواسب المرحلة الماضية على المستويين الشعوري والفكري، بمعنى أنّه ليس ما يمنع أن يعتقد فصيلٌ بخطأ فصيل آخر ومع ذلك يتحالف معه للمرحلة تحت ضغط الضرورة واختلال موازين القوى، من دون أن يعني ذلك أنّها تنطلق من بنية واحدة في مشروع تحرير ومقاومة يرتكز إلى أدبيّاتها الدينية وقواعدها التشريعية.

وما يجعلنا نركّز الحديث هنا عن الشّعوب إنّما هو لضمان استمراريّة القضيّة على المستوى الحركي؛ لأنّ هذا هو الرهان الأخير – أعين الرهان على الحركات الإسلامية - بعدما أسقطت الأنظمة – عموماً - ورقة التوت فيما يخصّ قضية فلسطين حتّى بناءً على مبادرات التنازل العربية التي اعتبرها الكيان الصهيوني أنّها لا تساوى الحبر الذي كتبت فيه.
في كل الأحوال، لا ينفع الجدل هنا لأنّ الوقت لا ينتظر؛ والجدل فيما جرى يحتاج إلى نقاشات طويلة، بعضُها يرتقي إلى الرؤية التي يبني عليها كلّ فصيل قراءته لسنن التاريخ وحركة التغيير وتحقيق الأهداف الكبرى. لو تخيّلنا هنا أنّ واحدةً من المفردات المأزومة هي أنّ «الربيع العربي» كان يمهّد لإعادة الخلافة الإسلامية وتوحيد الراية، وبالتالي يصبح تحرير القدس تحصيلاً للحاصل، تماماً كما صنع صلاح الدّين. وبالتالي كان الوقوف في وجه هذا «الربيع»، ولا سيّما في سوريا، يصبُّ في خدمة العدوّ وتكريس احتلاله لفلسطين. وفي مقابلها قراءة ترى أنّ هذه الفكرة خيالٌ وإسقاط على التاريخ من دون ملاحظة المتغيّرات بين الماضي والحاضر، وبالتالي كان شطب القضيّة كلّها هو النتيجة البديهيّة لسقوط سوريا.
الموضوع برمّته شائك على مستوى النُّخب، فكيف بالشعوب؟! وتحتاج الحركات الإسلامية إلى مسافة طويلة لغسل ما أوغرَ صدر جماهيرها المتنوّعة؛ لأنّ الأمر لا يرتبط بالبُعد الحركي فقط، وإنّما بإعادة إنتاج الهويّة الإسلامية ومنهج إنتاج المعرفة الدّينية وقراءة التاريخ وما إلى ذلك ممّا يمثّل نهضة أمّة.

إعادة تصويب فكر القضية

ولأنّ الوقت لا ينتظر؛ فإنّ من المفيد لنا إعادة صوغ وبيان لقضايا بديهيّة حسبنا لفترة أنّنا لن نحتاج إليها بفعل وضوح قضيّة فلسطين في أذهان الشعوب، ويقينية الحقّ فيها؛ فإذا الشكّ والقلق المعرفي الذي يطبع كلّ مساحة المعمورة اليوم، والذي اهتزّت فيه يقينيّات كثيرة، يسري إلى القضيّة الواضحة، وهي فلسطين والقدس!
لا نحتاج إلى أن نختفي وراء الإصبعٍ لنعتبر بأنّ البُعد الفكري والفقهي للقضيّة ما يزال واضحاً لدى أجيالٍ تغيّرت حتّى باتت تعتبر أنّ الدين كلّه بالنسبة إليها تلقينٌ ومقولات جاهزة تُلقى من على منابر المساجد، فكيف بقضيّة تضافرت عليها الدول الكبرى، والمنظمات الدولية، وتآمرت عليها كيانات ودول عربيّة وإسلاميّة، وتقادَم عليها الزمن، وخلقت على أرضها فتنٌ شاب فيها الصغير، وأقحمت في مذهبيّات تقتاتُ من قرونٍ غابرةٍ بكلّ ما فيها من مشاعر معقّدة وتناقضات شديدة. ولو قمنا باستطلاعٍ للشارع، ولوسائل التواصل الاجتماعي، لوجدنا أنّ شرعيّة القضيّة وضرورتها ليست بهذا الوضوح، وإنّما يساهم في حضورها حضورُ قياداتٍ في وجدان النّاس ما تزال قادرة على التحشيد إذا ما دعت لحركة أو لتظاهر...
هذا كلّه، إذا غضّينا الطرف عن أنّ القضيّة أصبحت قضايا؛ ففلسطين أصبحت للبعض غزّة والضفّة، ولآخرين خاضعة للتفاوض، ولقسمٍ هي ما تزال من النهر إلى البحر. واليوم يُطرح شطب القضية كخيارٍ، ليكون الأمر «ترانسفير» كبيراً للفلسطينيّين إلى الأردن أو سيناء، لتصفو الأرض كلّها للصهاينة، كما بدأ المخطط وكما عُمل له باستمرار.
أمام ذلك كلّه يبدو أنّنا معنيّون بإعادة التأكيد على المبرّرات التي تحتّم علينا الالتزام بالقضيّة، وهذه المبرّرات ذاتُها هي التي تحدّد لنا أيضاً عن أيّ قضيّة نتحدّث، وما هو موقعها من التزاماتنا المتنوّعة.
وما سأطرحه هنا هو القراءة وفق القواعد الفقهيّة الإسلاميّة أوّلاً، ثمّ مصلحيّاً ثانياً، وأخيراً انطلاقاً من الاستراتيجيا الإنسانية فيما يرتبط بموقع القضيّة من الصراعات الكبرى على مستوى سياسة العالم واتّجاهاتها.

القضية في الميزان الإسلامي

ثمّة أدبيّات وقواعد يؤمن بها أتباع كلّ المذاهب الإسلاميّة، وهذه القواعد والأدبيّات تنطبق على قضيّة فلسطين، وهو ما ينبغي إثارته ضمن عناوين مترابطة، ونبني تنظيرنا على المجموع في نهاية المطاف: