2024-11-24 09:22 م

السياسة الخارجية تبدأ في الداخل

2013-06-07
كتب جميل مطر
في العام 1944، وبينما الحرب العالمية الثانية عند الذروة، نشر جيمس ووربيرغ كتابا بعنوان: «السياسة الخارجية تبدأ في الداخل». لم يكن خافيا في ذلك الحين، خاصة على مجموعة المستشارين المقربين من الرئيس روزفلت، أن أميركا سوف تخرج من الحرب منتصرة، ولكن مختلفة أشد الاختلاف عن أميركا التي دخلت الحرب.
أشفق بعض هؤلاء على الحريات التي كان يتمتع بها المواطنون قبل الحرب وتعرضت للحصار خلال الحرب. وأدرك البعض الآخر خطورة ما طرأ على الرأسمالية الأميركية من تحولات بسبب حاجات الحرب والإنفاق الهائل والحراك الكبير في سوق العمل والاستثمار، فكانت النصيحة الشهيرة التي رددها الكثيرون بعد أن وردت في كتاب ووربيرغ: «ما لم تصلح أميركا رأسماليتها، وتقيم رأسمالية ديموقراطية، سوف ينشأ في الولايات المتحدة نظام يأخذ شكلا من أشكال الديكتاتورية الفاشية....».
قبل أيام صدر لريتشارد هاس مدير التخطيط الأسبق في الخارجية الأميركية والرئيس الحـالي لمجلس الشؤون الخارجية، كتاباً يحمل العنوان نفسه الذي حمله كتاب ووربيرغ قبل 69 عاما: «السياسة الخارجية تبدأ في الداخل». لم يخطر على بال أحد الاحتمال بأن تطابــق العنوانـين مصادفـة، بل كـان رأيي، وأعرف آخرين شاركوني هذا الرأي، أن هاس ما كان يأتي بالحجج التي جمعها لدعم موقفه المعلن في عنوان الكتاب، لو لم تكن أحوال أميركا قد وصلت إلى حد أثار القلق لدى كبار مفكريها والحريصين على مستقبلها.
يلخص هاس موقفه في عبارة ذات مغزى. يقول إن أميركا ضاعفت التزاماتها الخارجية بعد حادثة تفجير برجَي نيويورك في العام 2011، وأهملت أسس قوتها. من ناحيتنا، نذكر جيدا أن السيناتور أوباما في حملته الانتخابية لمنصب رئاسة الجمهورية العام 2007، اختار الشعار: «لقد جاء وقت التركيز على بناء الأمة هنا في الداخل». بمعنى آخر اتفق رأي الباحث الاستراتيجي مع رأي مرشح رئاسة الجمهورية، أي مع رجل السياسة، على أن أميركا في حاجة ماسة إلى إعادة التعمير وتعزيز أسس قوتها كأولويات تسبق التصدي لأي تحديات خارجية.
يحدد رتشارد هاس النقاط الأساسية في البرنامج الذي يطرحه في أربع على الأقل هي:
1 ـ تخفيض وتخفيف آثار أقدام أميركا وبصماتها في ساحة السياسة الخارجية.
2 ـ حل أزمة الديون المتصاعدة.
3 ـ الدخول في مواجهة حادة مع نظام التعليم السائد.
4 ـ حل مشكلات البنية التحتية وغيرها من مشكلات الداخل الأميركي، وأغلبها مشكلات حادة تهدد النمو الاقتصادي والسلامة الاجتماعية والصحية.
المهم في نظر هاس تحقيق توافق شعبي عام حول الحاجة الماسة إلى ترميم أميركا وإحيائها. أما قائمة المشكلات الداخلية التي يتعين إصلاحها فورا، فطويلة إلى درجة أن كثيرين قرروا أن هاس يبالغ، وربما أساء، بنشر هذه القائمة دون أن يقصد، إلى «أسس» القوة الأميركية التي يدعو هو نفسه إلى إنقاذها. أحد هؤلاء استخدم تعبير «المانيفستو» في وصف نداء هاس الداعي إلى التركيز فورا على الشؤون الداخلية، خاصة قوله إنه بدون حيوية ثقافية واقتصادية في الداخل لن تستطيع الولايات المتحدة الدفاع عن قيمها في الخارج.
تكاد القائمة تشمل كل شيء، لم تستثن النظام الضريبي ولا مشكلة سن الإحالة إلى التقاعد وغيرها من القضايا الداخلية، بالإضافة إلى توصيات في السياسة الخارجية كان أهمها من وجهة نظري:
1 ـ زيادة الموارد المخصصة لإصلاح الداخل ولو بالخصم من الموارد المخصصة للسياسة الخارجية وقضايا الدفاع.
2 ـ الرحيل عن الشرق الأوسط والتوجه نحو شرق آسيا، هذا الجزء من العالم الذي سوف يؤثر حتما في مسيرة القرن الحالي وشكله.
3 ـ استبدال «القوة» العسكرية بأدوات ديبلوماسية واقتصادية.
مرة أخرى يتشابه موقفا ريتشارد هاس وباراك أوباما. كلاهما يؤيد فكرة التحول في التركيز إلى منطقة آسيا والباسيفيكي. يتفقان أيضا على اختيارهما مفهوما جديدا للقوة، وهو القوة الذكية، كإضافة لها مغزاها الاستراتيجي إلى مفهومي القوة الناعمة والقوة الخشنة، اللذين سبق أن اشترك في الترويج لهما عالما السياسة جوزيف ناي وستيفين والت.
[[[
يعلق معلقون يمينيون على هاس تارة بالقول إنه متأثر بالطرح النظري الذي تهتم به مراكز البحوث والعصف الفكري، وتارة أخرى بأنه لم يأت بجديد، إلا قليلا. فقد كرر أفكارا من نـوع العولمـة واستخـدم عبـارات ذات طابع إنشائي مثل «مرحبا بالشتاء العربي»، و«التاريخ لم يغادر»، و«صعود الصين علامة العصر»، و«عصر تمكين الأفراد والجماعات»، و«عالم ما بعد أوروبا»، و«عالم بدون أقطاب»... إلخ. يردون على قوله إن أميركا تعيش الآن مرحلة نادرة إذ لا خطر حقيقيا يتهددها من أي مكان أو جهة في العالم. ويتساءلون هل كان يمكن أن يتحقق هذا الهدوء لو لم تستخدم الولايات المتحدة سياسات هيمنة عسكرية وتدخلت في شؤون الدول الأخرى حماية للحريات والقيم العالمية؟ وهي السياسات التي يدعو الكتاب للتخلي عنها.
[[[
أثار هاس بكتابه هذا نقاشا جديدا حول كتاب نشره هنري كيسنجر في ربيع العام 2001 وكان عنوانه: «هل أميركا في حاجة لسياسة خارجية»؟. وقتها، أي قبل 12 عاما، استسخف المعلقون بالعنوان ووصفوه بأنه على الأقل غريب. هل توقع كيسنجر أن يخرج من يجيب بالنفي، وأن أميركا ليست في حاجة لسياسة خارجية؟ المثير في الموضوع هو أنه بصدور كتاب ريتشارد هاس والمقالات والدراسات التي تناقش تطور السياسة الخارجية في عهد أوباما، عاد معلقون يعترفون أن خلاصة سياسات أوباما الخارجية والدفاعية أجابت فعلا بالنفي. أميركا ليست في حاجة إلى سياسة خارجية.
جاء إلى الحوار الدائر من قال إن السؤال كان يحمل نبوءة كيسنجرية. بدا الرجل وكأنه كان يتوقع أن يأتي رئيس لأميركا يقرر أن الاهتمام بالداخل أهم من الاهتمام بالخارج، وأن أميركا ليست مسؤولة عن منظومة القيم العالمية وليست مكلفة الدخول في حروب تحت شعار التدخل لاعتبارات إنسانية.
يعترف أكثر من خبير في السياسة الخارجية الأميركية بأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على السيطرة على جميع القضايا العالمية في وقت واحد، كما كانت تفعل، لذلك توقفت عن عمل الكثير. هي الآن لا تفعل الكثير، تفعل الحد الأدنى. والأمثلة عديدة ومتنوعة، وأحيانا متناقضة كما في المثالين الليبي والسوري، وكما استجد في الملفين العراقي والأفغاني، وكما في المواقف من عمليات الإبادة أو القتل الجماعي. أضف إلى ما سبق العجز النسبي عن الحركة والفعل وهو ما أوقع السياسة الأميركية في سلسلة من الأخطاء المحرجة دوليا، مثل معتقل غوانتانامو وقضايا التنصت على المواطنين والتعذيب وقضية الاغتيال السياسي لمواطنين أميركيين باستخدام طائرات من دون طيار. أضف أيضا الموقف من روسيا والتخبط في أفريقيا والشلل في الشرق الأوسط.
الخطأ، في رأي كسينجر ومن قبله ووربيرغ ومن بعده ريتشارد هاس، هو أن الولايات المتحدة توسعت في محاولات فرض هيمنتها العسكرية على أقاليم كثيرة في الخارج، وبالغت في استخدام مبدأ القيم الأخلاقية، كالحقوق والحريات كأداة للهيمنة السياسية والاقتصادية، حتى جاء وقت لم تعد إمكانات أميركا وبنيتها التحتية في الداخل قادرة على خلق أسس جديدة للقوة، أو دعم وإحياء الأسس التقليدية.
النقاش لم ينقطع ولن ينقطع حتى تتشكل لأميركا رؤية مختلفة عن دورها وأولوياتها، وبعدها يبدأ نقاش جديد.
عن "السفير" اللبنانية