كتب حمزة عباس جمول
لقد أثار الموقف الروسي من الأزمة السورية تساؤلات عدة حول الأهداف الكامنة وراء هذا الموقف الواضح والصريح. هذا الأمر دفع البعض إلى الحديث عن إستراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط والعالم، وحثّ البعض الآخر على التساؤل عن مستقبل العلاقات الأميركية ــ الروسية.
إن الحديث عن استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط والعالم قد لا يكون وصفاً دقيقاً لما تشهده السياسة الخارجية الروسية خصوصاً إذا تمعنّا في قراءة وصية بطرس الأكبر الذي كتب فيها: «لا تنسوا العمل للسيطرة على البحر الأسود والزحف إلى الجنوب للاستيلاء على القسطنطينية لأن من يحكمها يحكم العالم». هذه الوصية رافقت جميع القادة الروس وأصبحت جزءاً أساسياً من الإستراتيجية الخارجية، وكان هذا الاتجاه جليّاً في خطاب ستالين عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما قال: «إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تطمح لقيادة العالم أو أن يكون العالم على شاكلة الولايات المتحدة فهذا لن نسمح به» (ديمتري مولونكوف، ستالين النهاية، ص 254).
بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ الإستراتيجية الروسية الحالية المتمثلة في مواجهة الهيمنة الأميركية هي امتداد لتلك القيصرية والسوفياتية، ولكن من الطبيعي أن تتأثر هذه الإستراتيجية بعوامل المدّ والجزر الجيوسياسية، الاقتصادية والإجتماعية والتحولات الداخلية والخارجية قتقوى حيناً، وتضعف حيناً آخر، وهذا ما مرّت به السياسة الروسية الخارجية خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. إذاً طبقاً لوصية بطرس الأكبر وعملاً بخطاب ستالين المذكورين أعلاه، يُثار السؤال التالي؛ هل بوتين يُريد فعلاً السيطرة على العالم أم أنه يُريد منع الولايات المتحدة من السيطرة عليه؟
إن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالمهمة السهلة ويستغرق ذلك وقتاً، لكن من المفيد القول إنّ تحقيق أحد الهدفين الواردين في السؤال أعلاه يستلزم اتباع إحدى الإستراتيجيتين التاليتين: إما إستراتيجية المواجهة التي تخلو من المسايرة وإما إستراتيجية المسايرة التي لا تخلو من المواجهة.
إن روسيا لم تُسلّم ولم تستسلم لواقع نظام القطب الواحد، بل أخذت على عاتقها مواجهة الهيمنة الأميركية من خلال خطوات عدة هادفة إلى إعادة توزيع السلطة بشكل متساوٍ، أي إلى «توازن للقوى» كما أطلق عليه مورغينتو هانس في مؤلفه «الصراع من أجل القوة والسلام». في هذا الخصوص يرى مورغينتو أنّ توزيع السلطة بشكل متساوٍ وتأمين توازن للقوى هو «الطريق الوحيد لتحقيق السلام العالمي». هذا ما أكد عليه فلاديمير بوتين في مقالته، «روسيا والعالم المتغيير»، عندما تطرق إلى «مراعاة المبادئ الرئيسة للقانون الدولي» في معالجة الأزمات الدولية، (موسكوفسكيي نوفوستي، 2012). إذاً من هذا المنطلق وعملاً أيضاً بمبدأ المصالح المشتركة للقوى الكبرى، نجد أن روسيا لا تسعى إلى الاستئثار بحكم العالم، بل أنها لا تملك الأوراق للسيطرة عليه، لذلك تسعى موسكو إلى أن تكون «بيضة القبان» في كل ملفات العالم من خلال اتباع إستراتيجية المسايرة التي لا تخلو من المواجهة الناعمة في علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
تعددت الأسئلة التي تجادل حولها الباحثون في العلاقات الروسية الأميركية؛ الأول يتعلق بمدى تأثير الأزمة السورية في هذه العلاقة، أما الثاني فيرتبط بمستقبل العلاقة خصوصاً بعد اللقاء المرتقب بين بوتين وأوباما في شهر حزيران المقبل.
في ما يتعلق بالسؤال الأول، يصف إليكس بيكو، الباحث في جامعة موسكو الحكومية، العلاقة بين موسكو وواشنطن بالمتأرجحة ما بين الاحتدام والمواجهة الحقيقية. حسب تعبيره، إن النزاع بين الإدارتين قد «احتدم» في العام 2008 خلال حرب الأيام الخمسة في أوسيتيا الجنوبية ومن ثم دخلت هذه العلاقة في مرحلة «المواجهة الحقيقية» من خلال الأزمة السورية (أنباء موسكو، 2013). أما في ما يتعلق بمستقبل هذه العلاقة، فهناك اتجاه أميركي ــ روسي يؤكد على «أهمية الحوار الإستراتيجي بين الإدارتين»، حسب تعبير توماس غراهام في صحيفة «نيويورك تايمز»، وفي الجهة المقابلة يؤكد ماتيو روجانسكي على ذات النهج، إذ يعزو سبب العلاقة المتأزمة إلى «انعدام الثقة»، ويعتقد أن الحل الوحيد يتمثل في «الحوار الصريح» على كافة الصعد وفي جميع المواضيع (ذي غارديان - شباط 2013).
من الواضح أنّ العلاقة المعقّدة بين روسيا وأميركا لا تُحلّ فقط بالحوار والمفاوضات، لأنّ الأهداف الخاصة لكل منهما لا تلتقي، ولأن التنافس والتصادم أصبح في الـ DNA لقادتهم، ولكن في ذات الوقت سيكون الحوار جزءاً من الأجندة فقط حينما تلتقي المصالح وهنا تبدأ المسايرة والمغازلة بين الإدارتين. لعل أفضل مثال على هذا الواقع هي «المناوشات الناعمة» التي برزت بينهما بسبب لائحة ماجينسكي الأميركية والقانون الروسي الذي منع تبني الأطفال الروس من قبل العائلات الأميركية، والإجراءات الروسية الأخيرة بحق المنظمات الروسية غير الحكومية العاملة بأموال أميركية. هذه المناوشات الناعمة قابلها التقاء ومسايرة، ففي العراق مثلاً فازت الشركات الروسية في مناقصة لتحديث مصافي النفط العراقية بالإضافة إلى صفقة الأسلحة الروسية للعراق، والتي بلغت 4.2 مليارات دولار.
لقد تعددت التكهنات حول مستقبل العلاقات الروسية ــ الأميركية، فالباحث Andre de Nesnera يتنبأ بالتدهور، أما ستيفن جون يصفها بالحامضة جداً، وروبرت ليغفولد من جامعة كولومبيا يرى أنه لا يمكن التنبؤ بها بسبب تعقيداتها وتقلبها وفقاً لتقلب المصالح. يرى ديمتري ترنين، مدير مركز كارنيغي ــ روسيا، في تحديده لشروط الانتقال إلى مرحلة التعاون الفعّال بين موسكو وواشنطن، أنّ أهم شروط تحسّن العلاقة، هو «أن تعترف واشنطن بأن العالم قد تغيّر، وأن روسيا ليست ولن تكون جزءاً من الغرب» (كارنيغي- 12 شباط 2013).
إن العافية التي تعيشها اليوم روسيا بعدما تجاوزت مرحلة الخطر الاقتصادي والسياسي سمحت لها بأن تنتقل وبسرعة من موقع التأثير الضعيف إلى موقع التأثير القوي في ملفات العالم، ومكّنتها من التأكيد بقوة على ثوابتها الخارجية وعلى أولوية أهدافها القومية ومصالحها العليا، وهذا ما عبّر عنه ألكسندر دوغيفين في كتابه «أُسس الجيوبوليتيكيا ومستقبل روسيا»، عندما كتب عن أهمية «الدفاع الدائم عن مصالح البلاد العليا».
في ضوء ما تقدم، إنّ العلاقات الروسية الأميركية لن تشهد بوادر حلول في القريب العاجل وستبقى المنافسة/ التصادم/ الضغط المُتبادل وانعدام الثقة من جهة والالتقاء وتقاسم المصالح من جهة ثانية، ميزة هذه العلاقة. أن اللقاء المرتقب بين أوباما وبوتين سيُساعد في عملية ترتيب أولوية المصالح وعلى قمتها الأزمة السورية، وسيسمع أوباما من نظيره الروسي أنّ من غير المقبول الاستمرار في تهميش روسيا. ستشهد المرحلة المقبلة عملية حشد وتنامي الأحلاف العسكرية المناوئة لولشنطن، وستستمر روسيا في الجري نحو التوازن الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية، إعادة المكانة لقوتها العسكرية كالمناورات العسكرية الأخيرة في البحر الأسود والمتوسط، وفتح جبهات قديمة متجددة في مناطق متعددة من العالم كالأزمة في شبه الجزيرة الكورية. أمام كل هذه الوقائع يمكن القول بأن المنازلة الروسية ــ الأميركية ستستمر، وإن الشعرة الرخوة التي تربط بينهما لن تنقطع، ولكن هذه الشعرة كم من الوقت
ستصمد؟
* كاتب لبناني – روما
عن "الاخبار" اللبنانية