كتب هاني شادي
بعد فترة تاريخية طويلة نسبياً من التوتر السياسي والحدودي وصولا إلى المناوشات العسكرية، قبل وبعد المرحلة السوفياتية، وصلت العلاقات الروسية الصينية حالياً إلى مرحلة هامة من الازدهار على المستوى الاقتصادي والسياسي والعسكري، وساهم في هذا الازدهار توقيع البلدين معاهدة «حسن الجوار والصداقة والتعاون» في العام 2011. وقبل ذلك بقليل تم حل المشاكل الحدودية بينهما، ما دفع بالعلاقات بين روسيا والصين إلى الأمام بشكل كبير. وكما نرى اليوم، وصل التنسيق والتفاهم بين البلدين على الساحة الدولية إلى مستوى غير مسبوق. ولعل استخدام موسكو وبكين لحق النقض «الفيتو» ثلاث مرات متتالية، وبشكل متزامن، في مجلس الأمن الدولي بشأن سوريا لخير دليل على مدى التحالف والتنسيق بينهما. من ناحية أخرى، يُلاحظ تقارب روسي صيني في ما يتعلق بالدرع الصاروخية الأميركية، وهو ما تجلى في تصريحات روسية وصينية في الفترة الأخيرة من ضرورة التعاون بين البلدين لمواجهة تعزيز الدفاعات الأميركية المضادة للصواريخ في آسيا. وهذا يمثل، اتجاهاً جديداً في العلاقة بين بكين وموسكو ورداً قوياً على تصريحات وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، بأن واشنطن ستعزز دفاعاتها المضادة للصواريخ لمواجهة تهديدات كوريا الشمالية بنشر المزيد من الصواريخ الاعتراضية في آلاسكا، ونصب رادار جديد في اليابان. في هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن تكون موسكو المحطة الأولى للجولات الخارجية للرئيس الصيني الجديد، شي جين بينغ، الذي زار العاصمة الروسية لثلاثة أيام في الفترة من 22 إلى 25 آذار الجاري.
وتنطلق روسيا والصين في توثيق العلاقات التحالفية بينهما، من مجموعة محددات جيوـ سياسية إقليمية ودولية. أولها، ضرورة «تقييد» محاولات الولايات المتحدة الأميركية للانفراد بالعالم من خلال تأسيس نظام عالمي جديد يعتمد على التعددية وليس على الأحادية القطبية. ويتعلق المحدد الثاني بشعور كل من موسكو وبكين بالخطر من النفوذ الأميركي في آسيا. أما المحدد الثالث، فهو تمسك موسكو وبكين بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ورفض النزعات الانفصالية الداخلية. وهذا المحدد الأخير تحتاج إليه كل من روسيا والصين، حيث عانت الأولى من النزعة الانفصالية في شمال القوقاز (الشيشان على سبيل المثال)، ونفس الأمر تعاني منه الصين (تايوان وإقليم التيبت).
وتعتمد العلاقات التحالفية بين روسيا والصين بدرجة كبيرة على التعاون الاقتصادي، حيث تحتل الصين حالياً المركز الأول ضمن قائمة شركاء روسيا التجاريين. ففي العام 2000 كان حجم التبادل التجاري بينهما نحو 8 مليارات دولار، وفي عام 2012 بلغ ما يقرب من 90 مليار دولار، ومن المفترض أن يصل بحلول العام 2015 إلى 100 مليار دولار. ويتركز هذا التعاون أساساً في مجال النفط الخام، وربما في مجال الغاز الطبيعي مستقبلا. فالصين تحتاج بقوة للنفط الروسي لدعم نموها الاقتصادي المتصاعد، كما تحتاج روسيا إلى تصدير نفطها كمصدر رئيس (بجانب تصدير الغاز) لعملاتها الصعبة وميزانية الدولة ودخلها الوطني. ووصل حجم النفط الروسي المُصدر الى الصين نحو 15 مليون طن سنويا، وسيزيد هذا الحجم في العام الجاري بنحو 800 ألف طن. وبشكل عام من المقرر أن تزيد صادرات النفط الروسي للصين إلى 31 مليون طن خلال السنوات القادمة، حيث بات تصدير المزيد من النفط المستخرج من روسيا إلى الصين ممكناً بعد إنشاء خطوط جديدة لأنابيب النفط في شرق روسيا. وهذا بالطبع تجلى في ارتفاع حصة المواد الأولية في الصادرات الروسية إلى الصين من 10,9% في 2001 إلى نحو 64% في العام الماضي، منها حوالي 53,5 % صادرات النفط الخام. وهنا، تظهر مخاوف جدية من تحول روسيا إلى مجرد «قاعدة» لتصدير مواد الطاقة الأولية إلى الصين، خاصة أن الاستثمارات المباشرة الصينية في الاقتصاد الروسي لا تزيد حاليا عن 3% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في روسيا. في الوقت نفسه تحولت روسيا في السنوات الأخيرة إلى سوق استهلاكية كبيرة للسلع الصينية رخيصة الثمن، ما مثل ضغطاً تنافسياً كبيراً على الصناعات الاستهلاكية الروسية.
الجانب الآخر، الذي تعتمد عليه العلاقات التحالفية الروسية الصينية، يتمثل في التعاون العسكري. فالصين احتلت في تسعينيات القرن الماضي المرتبة الأولى في صادرات السلاح الروسي، حيث كانت تشتري نحو نصف هذه الصادرات. غير أن هذه الحصة تراجعت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، ما جعل الصين تحتل حالياً المرتبة الرابعة في مبيعات السلاح الروسي بمبلغ 2,8 مليار دولار. وبشكل عام اشترت الصين خلال الفترة الممتدة بين عامي 1992 و2009 أسلحة روسية بنحو 28 مليار دولار. ورغم هذا التراجع، فإن التعاون العسكري يظل ركيزة هامة للعلاقات التحالفية بين البلدين. وخير دليل على ذلك تعاقد الصين في 2009 على شراء 48 مقاتلة روسية من نوع «سوخوي ـ 35» متعددة الأغراض، وكذلك بناء اربع غواصات تعمل بوقود الديزل. وفي العام 2012 وقعت روسيا والصين اتفاقية اشترت بكين بموجبها 55 طائرة مروحية من طراز «مي-171».
وهكذا، سيطرت «الصيغة الاقتصادية العسكرية» على العلاقات بين روسيا والصين خلال العقدين الماضيين، إذ تزود موسكو بكين بالنفط والمعدات العسكرية (وأحياناً تكنولوجيا الفضاء)، بينما تستورد موسكو من بكين المواد الاستهلاكية بشكل أساسي. وعلى الصعيد الإقليمي، تعتبر موسكو وبكين المحركين الرئيسيين لمنظمة شنغهاي للتعاون، وذلك بجانب مجموعة «بريكس»، التي تضم إلى جانب روسيا والصين كلا من البرازيل والهند وجنوب أفريقيا. ولكن هذه الصيغة المشار إليها، والتي نجحت في دفع العلاقات بين موسكو وبكين بعيداً عن توترات ومناوشات الماضي، تخفي ما يسمى بـ«بالنزاعات المحتملة أو الكامنة»، وعلى رأسها التنافس بينهما في دول آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، وتصادم المصالح المحتمل في منطقة الشرق الأقصى الروسي. ففي هذه المنطقة، التي تمثل 36% من مساحة روسيا الإجمالية، يعيش نحو 6,5 ملايين نسمة (5% فقط من الروس)، وهو ما دفع الصين خلال العشرين عاما الماضية إلى تشجيع هجرة مواطنيها إلى الشرق الاقصى الروسي بأعداد كبيرة، خاصة أن المناطق الصينية المجاورة يسكنها أكثر من 200 مليون صيني. وهذا بالطبع يمثل ضغطاً ديموغرافياً على روسيا، التي تعاني في السنوات الماضية من تناقص سكانها. كما أن هذا التوجه الصيني لا يرضي الحركات الروسية القومية، التي تضغط بدورها على الكرملين لوقف أو تقليل الهجرة الصينية. ومع ذلك نجح البلدان في الإبقاء على هاتين المشكلتين «مجمدتين»، حتى الآن، من أجل دفع العلاقات الاستراتيجية بينهما إلى الأمام.
المصدر: "السفير" اللبنانية