2024-11-25 02:21 م

خطوط الذهب الأسود ترسم مستقبل المنطقة

2013-03-14
ـ ايلي شلهوب ـ
يقال في الأدب: «ابحث عن المرأة». وفي السياسة: «ابحث عن الاقتصاد». وفي منطقتنا، قد يكون الأدق «ابحث عن خطوط النفط»، وإن كانت خريطة مرور الذهب الأسود تحدد معالم الصراع في أكثر من بقعة على وجه الكوكب.
بعيداً عن كل ما يجري من مآسٍ وصراعات وحروب متنقلة في المنطقة، هناك، في غرفة مغلقة في مكان ما، من يعيش في عالم آخر. عالم افتراضي. يعيد رسم خريطة المنطقة. يخطط ويعمل وينفذ. يوزع الأدوار والمهمات. يزرع ويحصد. بالأحرى، يعيد هندسة ما صنعته أيدي المستعمر. نفَسه طويل. لا يمل ولا يكل. الغاية محددة. الأهداف واضحة. والعبرة بمن يضحك في الآخر.
الكلام هنا ليس عن استعدادات عسكرية ولا عن تطور تكنولوجي ربما أثار مستواه استغراب البعض وسخرية آخر، لكنه بلا شك يقض مضاجع من يعنيهم الأمر، والدلائل على ذلك كثيرة. الحديث عن حراك في عالم الطاقة، النفط والغاز على وجه التحديد. مشاريع قد يبدو للوهلة الأولى مستقلاً بعضها عن بعض. استثمارات لغايات تجارية. في النهاية كل شيء يقوم على المال. قد يقول قائل إنها ليست سوى محاولات إيرانية لتجاوز العقوبات الدولية التي يدعي الغرب أنها تؤتي أكلها على الجمهورية الإسلامية. وقد يقول آخر إنها استعادة عراقية لخطوط تواصل غابرة، أو ضغوط من شركات النفط والمستوردين لتأمين طرف مواصلات أكثر أمناً وأقل مخاطرة. وربما كان في ذلك بعض من الصحة. لكن من يمعن النظر يرى ملامح شبكة مصالح تُبنى بنحو مدروس لأهداف آنية، وأخرى استراتيجية.
الغاية اللحظية أكثر وضوحاً. محاولة استمالة الأردن إلى معسكر الممانعة، أو على الأقل تحريره من الاعتماد على المعسكر المقابل، عبر خط أنابيب نفط يربط البصرة بميناء العقبة، وصولاً إلى مصر، على ما رشح في خلال الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء المصري هشام قنديل إلى بغداد. أو العمل على الحد من النفوذ الأميركي على الجارة الشرقية، باكستان، وولوج الأسواق الآسيوية. أو حتى تأمين منفذ إضافي لتصدير الغاز الإيراني عبر خط أنابيب يمر عبر العراق إلى سوريا.
لكن الأهداف البعيدة المدى تبدو أكثر تجذيراً: ربط المنطقة بشبكة من المصالح الاقتصادية، بما يدفع بها نحو وحدة عضوية محورها إيران والعراق. أليس هذا ما حصل في ما يعرف حالياً بالاتحاد الأوروبي في خمسينيات القرن الماضي. ألم تؤد اتفاقية الحديد والصلب وشبكات الطرق والتفاهمات الاقتصادية والمالية إلى قيام منطقة اقتصادية مالية موحدة تكاد تلامس حد الوحدة السياسية، التي تتهدد الأزمات الاقتصادية التي تنال بعضاً من أضلعها بانفراط عقدها.
بل أكثر من ذلك. تكشف شبكة الأنابيب هذه، ومعها الكثير من تطورات الأشهر الماضية، من دعم بغداد المعلن لنظام الرئيس بشار الأسد، واشتباكها مع أنقرة الذي بلغ الخلاف الشخصي بين رئيسي وزراء العراق نوري المالكي ورجب طيب أدوغان، وتقاربها مع القاهرة المتناغم مع جهود طهران في الحؤول دون انزلاق «مصر الصحوة الإسلامية» في الشرك الأميركي ـــ الإسرائيلي، وتوتر علاقاتها مع الرياض والدوحة وتصديها لهما في الساحة الدبلوماسية العربية، عن حقيقة الاصطفاف العراقي في المعادلة الإقليمية، والدور الوظيفي الذي اختارته عاصمة الرشيد لنفسها بما يتناسب مع الإرث التاريخي لبلاد الرافدين وثقلها المالي والاستراتيجي. ولعل ذلك يظهّر بعض أسباب صمود المالكي في وجه كل محاولات إقصائه عن الحكم، سواء بضغط دولي، أميركي على وجه الخصوص، وإقليمي يقوده المثلث التركي السعودي القطري، بعدما أصبح وجوده على رأس الهرم القيادي في العراق من لوازم عملية إعادة بناء المنطقة، وخاصة في ظل الأعاصير التي تعصف بها من كل حدب وصوب.
وإذا أراد المرء الغوص في التحليل، مدعوماً بالإعلانات اليومية، الصادر من طهران عن التطور الذي تحققه في أكثر من مجال، بينها ولوج عالم البيوفيول، ما يجعلها تكسر الاحتكار الأميركي لهذا العلم والقدرة على بناء مصافٍ صغيرة متطورة للنفط ومستوى صادراتها من المنتجات غير النفطية، فضلاً عمّا يكشف عن تطور في الصناعات العسكرية والنووية، لا بد أن يستنتج، أو على الأقل يطرح تساؤلات عن جدوى العقوبات الاقتصادية التي تزداد تشدداً يوماً بعد يوم، مع الأخذ في الاعتبار الوضع الاقتصادي الذي تقول التقارير الغربية والإيرانية إنه يسوء، معطوفاً على سؤال عما كان سيكون عليه الحال في ما لو كانت طهران محررة من كل هذا الحصار.
ولا يحجب كل ذلك طبعاً، بعيداً عن عقلية المؤامرات والأسرار الدفينة، الدور الذي يؤديه النفط والغاز في صراعات المنطقة، وخاصة في ما يتعلق بالثروات التي أعلن أخيراً وجودها على السواحل اللبنانية والسورية، ورغبات بعض دول الخليج بمد شبكات لنقل هذه المادة الحيوية عبر دول رفضت أنظمتها أو مانعت دفع تكلفتها السياسية.

إيران تستقطب باكستان
ولعل آخر خطوة في هذا الإطار تدشين الرئيسين محمود أحمدي نجاد والباكستاني آصف علي زراداري أمس إطلاق مشروع بناء خط لنقل الغاز الإيراني إلى السوق الآسيوية عبر الأراضي الباكستانية، على أن تستفيد إسلام أباد من رسوم المرور وتؤمن حاجتها من هذه المادة الحيوية.
ومن المفترض أن ينتهي بناء الجزء الباكستاني من الأنابيب خلال 15 شهراً. ويتوج هذا المشروع نحو 10 سنوات من المفاوضات بين البلدين، تعثرت مراراً بسبب رفض الولايات المتحدة التي تحارب إقامة أي أنابيب لنقل النفط أو الغاز من إيران أو عبر أراضيها، وهي تدفع باتجاه خط بديل يربط تركمانستان بالهند عبر أفغانستان وباكستان.
وكانت طهران، خلال هذه الفترة، قد مدت خط الأنابيب الضروري من حقل بارس في جنوب البلاد إلى مدينة مولتان الباكستانية الحدودية، بقدرة على نقل 750 مليون متر مكعب من الغاز يومياً، على أن تُرفَع إلى مليار متر مكعب في وقت لاحق. وكان من المفترض بناء ذراع ثالثة لهذه الخطوط تصل مدينة مولتان بمدينة دلهي الهندية، لكن الهند انسحبت من المشروع في 2008 بفعل تقاربها مع واشنطن. ويتكلف مد الجزء الباكستاني من الأنابيب 1.5 مليار دولار، جرى التوصل أخيراً إلى اتفاق على أن تؤمن إيران 500 مليون دولار منها، على أن تتولى الباقي إسلام أباد.

العراق يحصن الأردن... ويغازل مصر
في هذا الوقت، تستعد بغداد وعمّان للبدء في بناء خط أنابيب لنقل النفط والغاز يربط جنوب العراق بالعقبة، مع بداية تفاهم على إمكانية مده ليصل إلى الأراضي المصرية.
ويقضي المشروع، الذي يستغرق تنفيذه ما بين 24 و36 شهراً، بمد خط أنابيب بطول يقدر بنحو 1690 كيلومتراً من البصرة إلى منطقة حديثة غربي بغداد، مروراً بالأنبار بمحاذاة الحدود الأردنية ــــ العراقية، على أن يكمل طريقه باتجاه ميناء العقبة جنوبي الأردن، وذلك تطبيقاً لاتفاقية موقعة بين البلدين في أيلول 2012، لكن جرى العمل على إعادة إحيائها في خلال الزيارة الأخيرة لنوري المالكي إلى الأردن.
ومن المقرر أن تتولى الحكومة العراقية تمويل مد الجزء الذي يمر عبر الأراضي العراقية (680 كيلومتراً)، على أن ينفذ الجزء الذي يمر بالأراضي الأردنية (ألف كيلومتر) عن طريق شركات عالمية على قاعدة الـBOT، على أن تعود ملكيته إلى الحكومة العراقية بعد 20 عاماً. ويزود هذا الخط الأردن بنحو 150 ألف برميل نفط يومياً بأسعار تفضيلية (أقل بنحو 20 دولاراً من السعر العالمي)، على أن يُصدَّر نحو مليون برميل يومياً عبر ميناء العقبة.
وتقدر سلطات البلدين أن هذا المشروع، الذي يضخ 2.3 مليون برميل يومياً، سيحقق للأردن، إضافة إلى وضع حد لأزمة الوقود التي تعاني منها المملكة، نحو 3 مليارات دولار سنوياً. ومعروف أن عمان تتكبد 14 دولاراً ككلفة نقل مضافة إلى سعر النفط، فيما استخدام الأنابيب الجديدة سيقلص هذه الكلفة إلى دولارين.
ومن المفترض أن هناك جزءاً إضافياً للمشروع، الذي يؤمن للعراق القدرة على تصدير النفط من دون المرور بمضيق هرمز، لتفعيل خط أنابيب آخر يمتد من منطقة حديثة إلى الأراضي السورية والتركية. ومن المقرر أن ينقل هذا الجزء الكمية الباقية من النفط، أي نحو 1.25 مليون برميل، لتصديره عبر ميناء بانياس السوري.
يشار إلى أن العراق يصدّر يومياً الآن نحو 2.5 مليون برميل نفط عبر الخليج، فيما يصدّر نحو 400 ألف برميل عبر ميناء جيهان التركي.

إيران ـــ سوريا: جرعة دعم إضافية
على خط موازٍ، يجري الإعداد لمد خط أنابيب عملاق لنقل الغاز الإيراني بطول 5 آلاف كيلومتر من إيران عبر الأراضي العراقية إلى الأراضي السورية، ومنها إلى أوروبا، بدلاً من المرور بمنطقة الخليج، كخطوة أولى تمهيدية لمشروع مفترض لبناء خط أنابيب لنقل نفط البصرة عبر إيران إلى بحر العرب لتجنب المرور بالخليج ومشاكل مضيق هرمز.
ومن المقرر توقيع الاتفاق بين بغداد وطهران على المشروع الأول في 20 آذار الجاري. ومن المخطط أن تضخ إيران نحو 25 مليون متر مكعب من الغاز يومياً عبر هذا الخط. ويفترض أن يجري بناء الخطوط، التي تنطلق من حقل بارس جنوب إيران، بشكل يجعل الأردن ولبنان قابلين للاستفادة من الغاز الإيراني، وذلك بعد تزويد ثلاث محطات عراقية لتوليد الكهرباء بحاجتها من الغاز.
وتتشارك إيران حوض بارس، الذي يحوي نحو 14 تريليون متر مكعب من الغاز (نحو 8 في المئة من احتياط الغاز العالمي) وأكثر من 18 مليار برميل من الغاز المسال الطبيعي، مع قطر التي كشف النقاب قبل أشهر عن مشروعها لمد خط أنابيب من الإمارة الخليجية عبر الأراضي السعودية فالأردنية فالسورية لنقل الغاز القطري إلى تركيا ومنها إلى أوروبا.

بلغة الأرقام