تحليل سياسي ـ استراتيجي
د.حسن أحمد حسن
من المسلم به أن واشنطن تعمل بكل السبل لاستمرار تفردها بالأحادية القطبية وتسعى موسكو وبعض الأطراف الأخرى لبلورة معالم نظام دولي جديد عنوانه تعدد الأقطاب، وهناك شبه إجماع على أن تداعيات ما يجري في سورية ستكون الفيصل في حسم النتيجة، وهذا يعني أنه لا يجوز الاطمئنان التام إلى أن الأطراف الدولية الفاعلة حريصة على اعتماد سيناريو التهدئة لإبقاء الأمور تحت السيطرة ومنع انزلاق المنطقة إلى منعطف خطير قد يصعب التنبؤ بنتائجه, بل يجب التفكير الجدي بوجود سيناريو آخر لا يجوز حذفه من الحسابات, فإلى أين تتجه الأمور إذا لجأ أحد الأطراف إلى تصعيد ميداني مفاجئ يفجر المواجهة العسكرية الشاملة؟ وماذا لو كانت واشنطن تسعى لاستكمال متطلبات حرب مخططة لإعادة خلط كامل الأوراق من جديد والذهاب بها إلى طاولة التسوية الشاملة مع روسيا؟
علمياً لا يجوز استبعاد ذلك, لأن معطيات بعض ما يتم ميدانياً قد تكون مقدمات لتطور دراماتيكي تخطط له واشنطن لمنع ظهور قطب دولي مكافئ, ومن السذاجة التفكير بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد تسلم بسقوط الأحادية القطبية وتبارك لروسيا أو غيرها اقتسام مناطق النفوذ في العالم وفق موازين قوى جديدة, وهناك العديد من المؤشرات التي تدل على أن التصعيد العسكري ما يزال احتمالاً قائماً، ومنها:
1- الغارة الإسرائيلية على موقع عسكري سوري في نهاية كانون الثاني 2013م في جمرايا بريف دمشق, وتكتم الكيان الصهيوني على الأمر إلى أن أعلنت عنه سورية يحمل بعض الدلائل والاستنتاجات ومنها:
أ- اختراق الأجواء السورية وتنفيذ المطلوب والعودة يشجع تل أبيب على تكرار الأمر، وقد تكون الأهداف القادمة أكثر أهمية عسكرياً وسياسياً؟.
ب- لا يمكن الإقدام على مثل هذه الخطوة ما لم تكن واشنطن موافقة على ذلك, لأن التحليل الاستراتيجي يقود إلى أن سورية قد ترد, وهذا ما قد يلهب المنطقة برمتها, وبالتالي من الطبيعي أن دراسة هذا الأمر قد تمت قبل تنفيذ الغارة واتخذت الإجراءات المطلوبة في حال إقدام سورية عل الرد.
ج- تركيز المسؤولون الأمريكيون على تسويق الموقف الأمريكي الرسمي الداعم لما قامت به الكيان الصهيوني، واعتبار ذلك جزءاً من حق الدفاع عن النفس.
د- قد يكون أحد أهداف العملية اختبار منظومة الدفاع الجوي السورية بعد تضارب الأحاديث عن وصول منظومات جديدة ذات قدرة فائقة كفيلة بمنع تعرض سورية بعامة ودمشق بخاصة إلى هجوم جوي, وبالتالي قد تكون الطائرات الإسرائيلية رُصِدَت من وسائط الدفاع الجوي السوري، ولم يتم التعامل معها للاحتفاظ بمفاجأة مطلوبة في حال تفاقم الأوضاع واتجاهها نحو العمل العسكري, وهذا شبيه بما حدث قبيل حرب تشرين التحريرية 1973م.
هـ- أياً تكن الأسباب التي حالت دون إقدام سورية على الرد المباشر فمنطق التحليل العسكري والاستراتيجي يؤكد أن عدم انجرار القيادة العسكرية السورية للتعامل بردود الأفعال يدل على أن المؤسسة العسكرية ما تزال متماسكة وبيدها زمام المبادرة, وهذا كفيل بتخفيض إمكانية حدوث السيناريو العسكري، لكن لا يلغيه.
2- نشر صواريخ الباتريوت في تركيا ليس مجرد نزهة, ولا علاقة له بتخوف تركي من هجوم سوري على تركيا بل هو خطوة في حرب استباقية عنوانها شن حرب على سورية وضمان تحييد قدرتها الصاروخية ومنعها من الوصول إلى العمق التركي, وهذا يعني أن الشمال السوري سيكون أحد مسارح الأعمال القتالية المتوقعة, أي أن الناتو شريك حتمي في أية حرب محتملة قادمة سواء اقتصرت المواجهة على الساحة السورية أم امتدت ليصل أوارها إلى بقية دول المنطقة.
3- استهداف منظومات الدفاع الجوي السوري والتركيز على تحييد بعض المطارات العسكرية يزيد من فرص نجاح توجيه ضربة جوية وصاروخية مفاجئة لمنصات الصواريخ السورية أرض – أرض بهدف شل قدرتها على الفعل والتأثير, أو إبقائها خارج المعركة ولو بشكل مؤقت, لفسح مجال للجهود الدبلوماسية بعد توجيه ضربة قوية لمراكز القوة العسكرية الإستراتيجية السورية.
4- استمرار تدفق السلاح والمسلحين إلى الداخل السوري يترك أمد الواجهات الميدانية مفتوحة, وجميع الدلائل والمعطيات تؤكد أن ذلك يتم بموافقة أمريكية إن لم يكن برعاية أمريكية.
5- كل ما ذكر قد يكون جزءاً من حرب نفسية إعلامية هدفها الضغط على سورية وعلى السيد الرئيس والمؤسسة العسكرية تحديداً لتقديم بعض التنازلات التي إن حدثت ستبدأ ولن تتوقف.
مقابل المؤشرات المذكورة آنفاً هناك مؤشرات لا تقل أهمية، وهي تدل على استبعاد اللجوء إلى التدخل العسكري ضد سورية ومنها:
1- ارتفاع حدة وتيرة الخطاب الإيراني الذي أكد أن أي اعتداء على سورية هو اعتداء على إيران, والمناورات الإيرانية المتلاحقة تؤكد تطور القدرة العسكرية الإيرانية بوتيرة لم تكن في حسابات إسرائيل والغرب وأمريكا.
2- الحضور الروسي العسكري الضاغط في المياه الإقليمية والمناورات العسكرية غير المسبوقة التي شملت البحرين المتوسط والأسود وهذا ما لم تسمح به أمريكا عندما كان الاتحاد السوفييتي بكامل سطوته.
3- تيقن أمريكا وإسرائيل من أن القدرة الإستراتيجية العسكرية لسورية ما زالت في جاهزية تزعج جميع اللاعبين الإقليميين, ومن الطبيعي أن تكون جميع الأهداف الإسرائيلية والتركية محملة على الصواريخ السورية التي لن تكون للعرض إذا وصلت الأمور إلى مرحلة الحرب الإقليمية.
4- البنية الإستراتيجية الإقليمية والدولية تؤكد أن الدور الروسي في تقدم واتساع, والدور الأمريكي في تراجع وانحسار في منطقة الشرق الأوسط على أقل تقدير, ومن المسلم به أن الذهاب إلى حرب إقليمية لا يمكن أن يتم بدون موافقة ومشاركة أمريكية, وضمن إدارة أوباما من هو على يقين بأن ذلك لايخدم المصالح الأمريكية في الظروف الراهنة على الأقل.
خلاصة:
الخيار العسكري لإرغام سورية على تقديم ما لم تقدمه على امتداد سنتين من الأزمة التي تعصف بالداخل السوري أمر غير مستبعد وإن كان ضئيلاً, وجميع المؤشرات والمعطيات تدل على أن سورية لم تسقط هذا الخيار من حساباتها, ولعلها تتمناه أو يتمناه البعض انطلاقاً من أن سورية لن تخسر في أية حرب تقليدية أكثر مما خسرت، في حين أنها قادرة على إيلام الآخرين كما تألمت, فضلاً عن أن نشوب حرب يعني انتهاء ما تعاني منه سورية بانتهاء الحرب التي ليس من مصلحة من قد يفكر بتفجيرها أن تطول .
مما تقدم نستنتج أن القرائن الدالة على إمكانية التصعيد العسكري متوافرة لكنها تفتقر إلى قرينة أساسية إن ظهرت يمكن الجزم بأن التصعيد حتمي، وهذه القرينة تتلخص في إعادة تموضع القوة البحرية الأمريكية والأطلسية, فضلاً عن إرسال متطلبات الدعم اللوجستي تحت أية مسميات, وهناك قرينة أساسية أخرى تدل في حال توافرها على حذف الخيار العسكري بشكل نهائي وهي توقف قناتي الجزيرة والعربية عن الضخ الإعلامي المستمر بهدف إبقاء الداخل السوري مشتعلاً, وعند تبلور إحدى هاتين القرينتين يمكن ترجيح سيناريو على آخر, والى أن يأتي ذلك الوقت تبقى سورية ملزمة بخوض عدة معارك بآن معاً: مواجهة المجموعات المسلحة – الحفاظ على البنية التحتية للدولة – التواصل مع المجتمع الدولي – إعداد ما يلزم لضمان نجاح الحوار الوطني وعزل المجموعات المسلحة برفع الغطاء الدولي غير الرسمي عنها،إضافة إلى السعي بكل السبل لتجفيف البيئة الحاضنة في هذه المنطقة أو تلك، وهذا شرط أساسي للقضاء على تلك العصابات المسلحة.
المصدر: موقع "توب نيوز"