بقلم: د. لينا الطبال
بالطبع… لم يكن تصريح دونالد ترامب بامتلاك غرينلاند نزوة سياسية! بل كان يعكس رؤية استراتيجية، أو هكذا أراد له أن يبدو، حيث أعلن بكل فخر أن مهمته هي إعادة صياغة ميزان القوى العالمي على قاعدة أمريكا أولا… ورفع شعاره البراق “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. لقد كان خطابا يعكس “العبقرية الترامبية” بكل تفاصيلها: بسيطا مباشرا، ومليئا بالوعود والأحلام الأمريكية… أو الكوابيس، من وجهة نظرك!
لا يسعى ترامب وراء غرينلاند بدافع شغفه بالمناخ القطبي. وليس لإضافتها إلى مجموعته العقارية… يريدها فقط لمنافسة الصين … في حين ان كل البيانات تشير الى محافظة الولايات المتحدة على تفوقها الاقتصادي على الصين في المستقبل القريب..
لكن لماذا كل هذا الهوس بجزيرة كبيرة ومغطاة بالجليد؟ وكيف ينوي ترامب الاستيلاء عليها؟ ربما بعرض شراء سخي، أو بالضغوط الدبلوماسية، أو حتى بتغريدة مفاجئة يعلن ضمها إلى “الامبراطورية الاميركية”!
دعونا نكون جادين أو هكذا يفترض! لا شك أن امتلاك غرينلاند سيكون بمثابة مفتاح استراتيجي يربط الولايات المتحدة بين أمريكا الشمالية وأوروبا، فالجزيرة تطل على ممرات بحرية قد تصبح شريان الحياة للتجارة العالمية في المستقبل.
أما عن ثرواتها، فترامب لا يطارد سرابا: المعادن، النفط، الغاز، وأهم من ذلك، احتياطي هائل من المياه العذبة، اذ تمتلك غرينلاند وحدها 10% من إجمالي احتياطي المياه العذبة في العالم.
لكن المفاجأة الكبرى، والسلاح الذي قد يغير قواعد اللعبة، هو أن غرينلاند تحتوي على كميات هائلة من المعادن الأرضية النادرة Rare Earth Elements – REEs، هذه العناصر التي تشكل العمود الفقري لإنتاج التكنولوجيا الحديثة، والتي أصبحت اليوم تحت سيطرة الصين…
منذ الحرب العالمية الثانية، نَصَبت الولايات المتحدة نفسها على غرينلاند، مستندة إلى معاهدة الدانمرك لعام 1951، التي سمحت لها بزرع قواعدها العسكرية هناك… فواشنطن تتعامل مع الجزيرة وكأنها تقع ضمن نطاقها الأمني. وتعيد العزف على أسطوانة “مبدأ مونرو”، الذي ينص ان اي تدخل أجنبي في المنطقة “سيعتبر تهديدا للأمن والسلام”، ترجمة غير مباشرة لـ ” “ممنوع الاقتراب… ملكية حصرية للولايات المتحدة!”
طبعا الرسالة موجهة إلى روسيا والصين، اللتين لم تضيعا الوقت في تكثيف مناوراتهما العسكرية والاقتصادية حول غرينلاند منذ 2007. ولما يحق لأمريكا وحدها التدخل في شؤون الدول الأخرى؟ أليس هو نفس التدخل الأجنبي الذي تتهم به الآخرين؟ يا له من منطق!
بطريقة غي مباشرة، تمنح اميركا المبرر المثالي للصين لإعادة ترتيب خرائطها… قد تجد الصين نفسها أمام سابقة ذهبية لتطبيق نفس القاعدة الأميركية وتشجيعها على استعادة تايوان… فهل ستستغلها بكين لتعيد تايوان إلى حضنها؟ تحت قاعدة إذا كان بإمكانكم، فبإمكاننا أيضا…
أن فكرة شراء غرينلاند على الرغم من سماجتها إلا أنها ليست مستحيلة…على مرّ تاريخها، كانت أميركا دائما في سباق لا ينتهي خلف الموارد الطبيعية، تتبعها حيثما وجدت، تسطو عليها وتستثمرها لصالحها فقط… تاريخ أمريكا أيضا مليء بحكايات “تسوق الولايات”! حقا؟؟ في القرنين التاسع عشر والعشرين، اشترت واشنطن فلوريدا من الإسبان، ولويزيانا من الفرنسيين، وحتى ألاسكا (تلك الصفقة التي سخر منها الجميع) اشترتها من الروس، والجزر العذراء من الدانمرك. فلماذا لا تضيف اليوم غرينلاند إلى قائمة المشتريات؟
أول محاولة لشراء الجزيرة تعود إلى عام 1867 في عهد الرئيس جونسون. ثم في عام 1946، عرضت إدارة ترومان 100 مليون دولار على الدنمارك. أعاد ترامب طرح العرض عام 2019، واليوم أيضا.
ولكن سكان الجزيرة لديهم رأيهم ايضا. فبحسب استطلاع حديث، 85% منهم يرفض هذا التوجه، معتبرين أن اهتمام ترامب ببلادهم يمثل تهديدا لهويتهم وثقافتهم.
قد يكون التفاعل الديناميكي بين دونالد ترامب وإيلون ماسك إيذانا ببداية عصر جديد، يسعى فيه الرجلان إلى ترسيخ الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على رأس الثورة الصناعية الرابعة. وليس من قبيل الصدفة أن يكون ماسك هو من أقنع ترامب بأن التخلي عن التنقيب عن النفط والغاز الصخري لصالح البحث عن المعادن الأرضية النادرة هو الطريق نحو الريادة التكنولوجية. ففي النهاية، من يمتلك مفاتيح القوة الجديدة، يتحكم بمصير العالم.
حاليا، توفر الصين حوالي 80٪ من الإمدادات العالمية من المعادن الأرضية النادرة، مما يجعل دول العالم تعتمد عليها بشكل شبه كامل. يا لها من مفارقة! أمريكا، التي تحرص على أمنها القومي، تعتمد على الصين في الحصول على مواد أساسية لصناعاتها التكنولوجية والعسكرية. ماذا لو قررت الصين قطع هذه الصادرات فجأة؟ هل ستجد أمريكا نفسها عاجزة عن إنتاج هواتفها الذكية وطائراتها الحربية؟
تشمل هذه المعادن الأرضية النادرة 17 عنصرا، من بينها النيوديميوم (Nd)، الديسبروسيوم(Dy)، واللانثانوم.(La) وهي حاضرة في كل نواحي حياتنا اليومية، حيث تدخل في تصنيع الحواسيب، الهواتف، السيارات، توربينات الرياح، وحتى الأسلحة الحربية…
قد تتفاجأ عندما تعرف كمية الجهد والموارد التي تُبذل لصناعة بطارية هاتف واحدة. تخيل أن بطارية “الأي فون” تحتوي على 17 معدنا نادرا، ولكن بكمية لا تتعدى 0.15 جرام. والاسوأ من ذلك، أنه لاستخراج هذه الكمية الضئيلة من المعادن، يجب معالجة 0.15 طن من الصخور، أي ما يعادل 150 كيلوجراما من الصخور لكل بطارية… هذا يظهر بوضوح حجم الضرر الذي يلحق بالبيئة من جراء صناعة هذه الأجهزة التي نستخدمها يوميا.
في الجهة المقابلة، تمارس إسرائيل “محرقة بيئية” في بلادنا… بينما ينشغل العالم بالحديث عن غريناند، الاحتباس الحراري، ذوبان الجليد، حرق الغابات، والتسونامي العملاق، هناك احتباس آخر أكثر فتكا، تغذيه آلة الاحتلال الإسرائيلي بأسلحة محرمة دوليا، من قنابل الفوسفور الأبيض إلى اليورانيوم المخصب، مرورا بأسلحة أخرى “مبتكرة” تضئ بكافة الالوان قبل أن تدمر وتحرق.
تحرق القنابل الإسرائيلية ما لا تستطيع احتلاله، وتسمم الهواء والتربة حيث تعجز عن فرض سيطرتها. والصواريخ التي تمطر النار على غزة، والقذائف التي تنهال على الجنوب اللبناني، وتلك التي تقصف بها سوريا، جميعها تتساقط من السماء مختومة بـ “صنع في أمريكا. ” تبا لاحتباس صمت العالم على جرائم اسرائيل !
فقط لتقريب المسألة، “هيرمز 900″، واحدة من الطائرات الحربية الإسرائيلية بدون طيار، تستخدم في المراقبة، وشن الهجمات الجوية. تعتمد صناعتها على المعادن الأرضية النادرة، وخاصة النيوديميوم(Nd)، حيث يتطلب إنتاج طائرة واحدة منها ما بين 3 إلى 7 كيلوجرامات من هذا المعدن. لكن للحصول على هذه الكمية الضئيلة، يجب معالجة ما بين 60 إلى 700 طن من الصخور الخام. والنتيجة؟ تلوث بيئي واسع النطاق.
إبادة بيئية اقترفتها إسرائيل في حربها على غزة. وفقا لدراسة انجلو-اميركية، تسببت هذه الحرب في انبعاث أكثر من 280 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون (CO₂) خلال الشهرين الأولين منها، وهو رقم يتجاوز إجمالي البصمة الكربونية السنوية في 20 دولة… اي ما يعادل عن احتراق 150 ألف طن من الفحم. أما البصمة الكربونية لإعادة إعمار غزة، فقد تكون أعلى بـ 100 مرة، وهذا الرقم يتجاوز إجمالي البصمة الكربونية السنوية لـ135 دولة. وهو يؤثر على الدول المجاورة مما يجعل المنطقة أكثر غرقا في أزمة المناخ.
اخبرني كيف سنتمكن من التعامل مع 37 مليون طن من الأنقاض والمواد الخطرة التي خلفها القصف الإسرائيلي خلال الأشهر الأولى من الحرب، خاصة وأن الكثير منها يحتوي على بقايا بشرية وعشرات الآلاف من القنابل غير المتفجرة؟
هذه الحرب هي كارثة إنسانية ذات عواقب طويلة الأمد، ستؤثر على الهواء، المياه، التربة، والصحة العامة لعقود قادمة.
حتى اليوم، لا توجد دراسة دقيقة حول البصمة الكربونية لـ 470 يوم من حرب اسرائيل على غزة، لكن وفقا لعملية حسابية سريعة أجريتها، قد يصل إجمالي انبعاثات الغازات إلى مليون وأربعمئة وثلاثة وأربعين ألف طن من ثاني أوكسيد الكربون (CO₂).
ومع ذلك، يبقى هذا الرقم تقديرا أوليا لا يأخذ في الاعتبار الاختلافات في نماذج المعدات العسكرية المستخدمة، كما لا يشمل الانبعاثات المستقبلية الناتجة عن عملية إعادة إعمار غزة، والتي من المرجح أن ترفع هذه الأرقام إلى مستويات غير مسبوقة.
كم من السنوات سنحتاج، وكيف سنتمكن من محو آثار هذه الكارثة البيئية التي تساهم في التلوث وفي تسريع الاحتباس الحراري؟… سؤال يظل بلا إجابة.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس
@lynaPERON
عن رأي اليوم