بقلم: نبيه البرجي
ذاك النوع من اللبنانييين الذين يصنعون التاريخ. ليسوا "مواطني الكوليرا" الوالغين في ثقافة الكراهية، ثقافة يهوذا بالتأجيج السياسي والطائفي، ليبقوا على عروشهم ـ عروش العار ـ حين يرون أن لبنان أمام طريق وحيد للخلاص، طريق أورشليم. أهل الجنوب، وقد كسروا ما تبقى من الأسطورة. بالصدور، وحتى صدور الأطفال (وسقط منهم تسعة)، واجهوا الميركافا، ليكون يوم الأحد 26 كانون الثاني 2025 يوم ولادة لبنان الآخر. لبنان الذي يعيدنا دوماً الى وصف لامارتين له بـ "أريكة القمر" وحتى "أريكة الله".
اليوم الذي ثبت فيه أن المقاومة، بالتلاحم الفذ مع الجيش في الخندق وفي المصير وفي الشهادة، هي الطريق الى لبنان، ولو كانت طريق الجلجلة. بعد آلام الخشبة، وبعد أهوال الدم، القيامة. مقاومة من أجل القيامة، بعيداً عن لعبة المستنقعات، وعن طرابيش وسراويل القناصل الذي اعتدنا أن نكون ظلاً لهم. كيف نبقى الظل اذا كنا ذلك النوع من الكائنات البشرية. رينيه آلا قال "لبنان ينتج اللبنانيين". لبنانيو الأحد المقدس، بالقداس الجنوبي على وقع أجراس الكنائس وأصوات المآذن، لا لبنانيو الباريزيانا، ولا لبنانيو القوقعة.
هكذا حملوا دونالد ترامب ـ الأمبراطور الأعظم ـ على التدخل، وتحديد 18 شباط موعداً للانسحاب الكامل، بعدما كان بنيامين نتنياهو يزمع، وقال ذلك علناً، اقامة منطقة عازلة على غرار المنطقة العازلة في سوريا، وحيث باتت الدبابات "الاسرائيلية" على مرمى حجر من دمشق.
يوم آخر للتحرير. لا أحد غير اللبنانيين كل اللبنانيين، تمكّنوا من اجتثاث الأقدام الهمجية من أرضهم. سبق ونقلنا كلام ايهود باراك، الذي استغرب حماقة نتنياهو حين "يقودنا الى جهنم ظناً منه أنه يقودنا الى أمبراطورية يهوه" !
مسألة أخرى استوقفتنا. أهل الجنوب اللبناني شقوا الطريق بالدم الى بلداتهم. سكان المستوطنات في الجليل يشترطون على حكومتهم ازالة أي شكل من أشكال الخطر على الجانب الآخر من الخط الأزرق. هنا الفارق بين اللبناني الضارب في الأرض وفي التاريخ، و"الاسرائيلي" الطارئ على الأرض وعلى التاريخ.
الطريف هنا قول زعيم "الليكود " ان "الدولة اليهودية ستبقى دوماً ملاذا آمنا لليهود حول العالم". غريب أنه لم يقرأ ما تقوله مواقع التواصل عن الرجل الذي "حوّل الدولة الى مقبرة".
هو البارع في المراوغة اللغوية والمراوغة السياسية، وصف المقاتلين الفلسطينيين (أهل الأرض) بـ "النازيين الجدد، ونحن ملتزمون بهزيمتهم نهائياً". تلك العيون العرجاء التي أغفلت الأداء الخارق لأولئك المقاتلين، والتي لم تر في الخراب الأبوكاليبتي ما هو اشد هولاً من المحرقة (الهولوكوست). نتنياهو قال "هذه هي رغبة الهنا"، اله هيروشيما...
هذا ما فعله في الجنوب. بلدات أزيلت من الوجود. قتلوا حتى التراب لكي لا يتلألأ مرة أخرى بأزهار اللؤلؤ على تلك التلال، التي لكأنها مستوطنات بشرية في الجنة. لكن التراب عاد الى توهجه يوم الأحد. كل اللبنانيين جاهزون لاعادة غابات الزيتون الى بهائها. اي أرواح شريرة تلك التي تحرق تلك الغابات كشاهد على أصالة الأرض، وعلى ألق الأرض.
الآن أيام للبنان في الجنوب. هوذا طريقنا، ولا طريق آخر. البعض رفعوا رايات المقاومة كرد من الميدان، على مَن حاولوا أن يدفنوا المقاومة سياسياً، بعدما اعتبروا أن "اسرائيل" دفنتها عسكرياً. قيامة المقاومة يوم الأحد قيامة لبنان.
دور رائع لرئيس الجمهورية العماد جوزف عون ان في توجيه الجيش، أو في الاتصالات الدولية للجم البرابرة، بعد سقوط 22 شهيداً وعشرات المصابين. لهذا نتمنى على الرئيس أن يكون في 18 شباط في طليعة اللبنانيين، الذين يحجون الى تلك الأرض، التي دوت صرختها في أرجاء الدنيا.
اختبار الدم كان قاسياً ومريراً. المهم هنا، والمؤثر هنا، ما ينشر من تعليقات "اسرائيلية". انكفاء كامل عن أي مغامرة عسكرية ضد لبنان، دون اعتبار المفهوم الكلاسيكي للاختلال في موازين القوى. بعد الآن لا محاولة على الاطلاق، للاستيلاء على حفنة تراب من ترابنا.
هذه هي الورقة الكبرى، الورقة التاريخية، في يد السلطة الجديدة في لبنان. مثلما لا مكان للأقدام الهمجية التي طالما قلنا انها الآتية من قاع الايديولوجيات ، ومن قاع الأزمنة، على أرضنا، لا مكان للأقدام الناعمة في أن تكون وصية علينا، بعدما شرّعنا أبوابنا طويلاً للوثة الأمبراطورية عند هذا، وللوثة القبلية عند ذاك.
رهاننا ونحن بين النموذج "الاسرائيلي" بأكثر وجوهه وحشية، والنموذج السوري بالمحتوى الايديولوجي، الذي لا يمكن أن يبقى عند حدود معينة. الوعي بالحالة اللبنانية، وتشكيل حكومة تتولى ادارة لبنان، وحل أزماته، باستراتيجيات تنبثق فقط عن المصلحة اللبنانية، بعدما مللنا من استراتيجية التسلل، واستراتيجية التسكع، عند أبواب هذا البلاط وذاك البلاط.
حين يكون هناك لبنانيون قادرون على صناعة التاريخ، يفترض أن تكون مهمتهم الأولى صناعة الدولة. ليكن...
المصدر: الديار اللبنانية