2025-01-30 04:18 م

جنون ترامب وملحمة غزة

2025-01-29

بقلم: د. أروى محمد الشاعر
يوم 27 يناير 2025، قدم أهل غزة للعالم درسًا عظيمًا في الصمود والإرادة، درسًا يفضح جنون القوة والطغيان أمام صلابة الإنسان وارتباطه بجذوره. من جهة، يستمر دونالد ترامب في غطرسته السياسية ومحاولاته فرض هيمنة وهمية على العالم، ومن جهة أخرى، أثبت أهل غزة أن الأرض والتاريخ والانتماء أقوى من كل أدوات القمع والدمار.
دونالد ترامب، العائد إلى السلطة وهو أكثر غطرسة وعناداً من أي وقت مضى، يبدو مصمماً على تنفيذ رؤى عبثية تتجاوز حدود المنطق والسياسة التقليدية. قراراته وتصريحاته الأخيرة تسلط الضوء على محاولاته لتوسيع نفوذه الشخصي والسياسي على حساب الاستقرار الدولي ومصالح الولايات المتحدة نفسها.
من بين أكثر أفكار ترامب غرابة، رغبته في ضم كندا إلى الولايات المتحدة، وكأنها مقاطعة أميركية تنتظر الإذعان لرغباته. لم يتوقف الأمر عند ذلك؛ فقد أعاد الحديث عن ضم جزيرة غرينلاند من الدنمارك، وهو اقتراح قوبل بالسخرية والرفض التام من العالم. كما وصل به الحال إلى التفكير في تغيير اسم الخليج المكسيكي إلى “الخليج الأميركي”، متجاهلاً السياق التاريخي والجغرافي، في محاولة لإبراز تفوق أمريكا على جيرانها.
ترامب مستمر في انحيازه المطلق لإسرائيل، حيث طرح مؤخراً أفكاراً مجنونة لفرض هجرة الفلسطينيين إلى الأردن ومصر، بهدف تفريغ الأرض لصالح المستوطنين الإسرائيليين. هذه السياسة التي تلقى ترحيباً من المتطرفين الإسرائيليين مثل سموتريتش وبن غفير، تعكس جهلاً تاماً بتاريخ الشعب الفلسطيني. هل يظن ترامب حقاً أن الفلسطيني، الذي صمد رغم الاحتلال وهدم البيوت والحصار، سيترك أرضه؟ جذور الشعب الفلسطيني في أرضه أعمق من جذور أشجار الزيتون، التي يزيد عمر بعضها على ألف عام، والتي تشهد على تمسكهم بأرضهم مهما كانت التحديات.
في اليوم نفسه الذي يستعرض فيه ترامب سياساته المتهورة، شهدت غزة أسطورة الصمود حدثًا يثبت عكس كل رهانات الاحتلال الإسرائيلي. عاد الآلاف من أهل شمال غزة إلى ديارهم التي هُدمت بفعل القصف الإسرائيلي، رافضين أن يتخلوا عن أرضهم مهما بلغت التحديات.
المشهد كان ملحميًا: هز العالم بأجمعه وجعل بعض الدول تتراجع عن مواقفها اتجاه غزة مثل ألمانيا وغيرها، عائلات تعود إلى أنقاض بيوتها، رجال يبنون جدرانًا مؤقتة بالحجارة والخشب، نساء ينصبن الخيام، وأطفال يركضون بين الركام وهم يملؤون الشوارع بالحياة. الأسواق الصغيرة عادت تنبض، والمزارعون بدأوا بزراعة شتلات جديدة مكان الأشجار التي اقتُلعت، في رسالة واضحة بأن غزة لا تموت، بل تولد من جديد.
هذا الصمود أحرج الاحتلال الإسرائيلي الذي راهن على أن الدمار سيمنع العودة، وأن أهل غزة سيُرغمون على الهجرة أو الاستسلام. لكن غزة أثبتت مجددًا أن الروح التي تسكن الأرض أقوى من أي قوة غاشمة.
ما لا يفهمه ترامب، المغرور والمصاب بجنون العظمة، أن العالم لم يعد كما كان في الماضي. نحن نشهد تحولاً تاريخياً نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة الوحيدة المهيمنة. عالم يقوم على التعددية والتعاون بدلاً من الهيمنة المطلقة. في ظل هذا الواقع، استمرار ترامب في سياساته الاستعلائية ومحاولاته فرض السيطرة سيؤدي فقط إلى تسريع تراجع النفوذ الأمريكي.
في حين يسعى ترامب لإعادة تشكيل العالم وفقاً لأوهامه، تقدم غزة درساً عملياً يُظهر كيف تنتصر الروح المرتبطة بالأرض على جبروت القوة. إن ما يفعله ترامب لا يضر العالم فقط، بل يضر الولايات المتحدة قبل أي شيء. قراراته العدوانية ضد الدول والمجتمعات ستزيد من عزلة أمريكا على الساحة الدولية، وتفقدها احترام العالم وثقته.
ما يحدث اليوم يعكس صدامًا بين جنون العظمة الذي يمثله ترامب والصمود الأسطوري الذي يجسده أهل غزة. في الوقت الذي يحاول فيه ترامب فرض هيمنته على العالم من خلال سياسات عبثية وقمعية، يقدم الفلسطينيون نموذجًا ملهمًا في التمسك بالأرض والهوية.
إن غزة، التي تنهض من تحت الركام، تقدم رسالة أمل وشموخ. يمكن هدم البيوت وتسوية المدن بالأرض، لكن الروح الإنسانية المرتبطة بالأرض لا تُهزم. الصمود دائماً أقوى من الغطرسة، والأرض دائماً تنتمي لمن يروونها بدمائهم وصبرهم، لا لمن يحاول سرقتها بالقوة والهيمنة. غطرسة ترامب قد تمثل صفحة سوداء في التاريخ، لكن ملحمة غزة ستظل شاهدة على أن الأرض دائماً تعود لأصحابها الحقيقيين.
كاتبة فلسطينية

المصدر: رأي اليوم