بقلم: د. لينا الطبال
بصراحة، لا اعتقد انه بالإمكان رؤية ذلك بصورة مغايرة، الحكاية التي تبدأ بالأرض لا تنتهي إلا بالحرية… وتسأل: ما معنى كلمة مقاومة؟
رسومات أطفال غزة وجنوب لبنان في ألوانها وخطوطها تحكي قصة وطن واشجار وورود… يرسمون الطائرات وهي تمطر سماءهم بالقنابل، لكن شمسهم، رغم كل الدمار، تشرق بألوانها الذهبية. وفي إحدى الزوايا، يظهر الاب ملوحا بإشارة النصر، والشهيد يبتسم … فيما تحلق أحلامهم فوق الركام، أعلى من طائرات العدو، وتجوب السماء الزرقاء.
يخط الشباب منهم على جدران وأنقاض البنايات كلمات حب للمقاومة… “غرافيتي” حنظلة يقف هناك، كحارس الزمن وايقونة للنضال … قلوبا حمراء تخترق رمادية المشهد ووجوه لقادة تتحدى الزوال… هناك من يرى في هذا الركام البارد، الخراب والهزيمة، وأن هذه الرسومات ما هي إلا محاولة رومانسية لتخفيف المأساة. وتسأل كيف يمكن لحجارة مكسورة، ان تعيد تعريف النصر او تمنح أملا؟ ببساطة عليك ان تذهب الى غزة.
القوة والمزيد من العنف… دائرة تغذي ثقافة الموت بلا هوادة. إلى متى سيظل هذا الصراع يلتهم الزمن، وكأنه عالق في أبدية؟ الى لانهاية؟ كأنه قدر ازلي؟ فحتى أكثر الصراعات قسوة، لها نهاية وتنتهي. وكأن الذنب هو ذنبنا، وأننا رغم القتل والإبادة، لا نموت… ولأن مجرد وجودنا يُدين وجودهم.
لكن هل انتبهت إلى جندي الميركافا الإسرائيلي على مشارف دمشق؟ إنه نفس الجندي الذي كان يقتل الأطفال في غزة وهو نفسه من توغل في عمق أرضي في الجنوب اللبناني وسيرفض الخروج منها. هذا التحرك الإسرائيلي في سوريا هو موازي للاستراتيجية التي يطبقها في لبنان: التمدد دون انسحاب، والتغلغل دون اعتراف بحدود السيادة. من الجنوب اللبناني إلى العمق السوري، تستمر إسرائيل في إدارة مشهد من الاستعمار العسكري والسياسي.
هذا الإصرار الإسرائيلي على الانتشار يؤكد أن الانسحاب الكامل من جنوب لبنان ليس جزئا من خططها المستقبلية، ويندرج ضمن رؤية تهدف إلى إبقاء المنطقة في حالة توتر دائم، مع حضور أمني يتيح لها التدخل والتأثير في الموازين الإقليمية متى شاءت.
والرؤساء تنتخب تحت ضغوطات صهيو-أمريكية واضحة، فيما الشعب منشغل في “التنزيلات الشتوية”، وإغراء الأسعار المخفضة… يجري تمرير القرارات المصيرية بصمت… كل شيء يأتي بصمت، يعبر دون ان ننتبه، والعالم خارج المحلات التجارية يسير دون توقف… جدعون ساعر، وزير خارجية العدو يرسل تبريكاته الى الشعب اللبناني …منتهي الوقاحة! … ما رأيك في ذلك يا حبيب؟
رجال أحمد الشرع يمارسون مجازرهم البشعة بحق الأقليات في سوريا، وبحق سوريا بل بحقنا كلنا. الرجل لا زال يحظى بسمعة طيبة لدى الغرب… في الجنوب السوري، تتقدم إسرائيل بلا تردد، تجرف الأراضي التي احتلتها وتبني قواعدها العسكرية، هي أيضا تحظى بسمعة طيبة لدى الغرب… وأنتم، يا رفاق النضال، ما زلتم ثابتين في أماكنكم منذ عقود، تكررون نفس الخطابات المملة الباهتة عن إعادة الإعمار وبناء دولة حديثة قائمة على العدالة والقانون. لكن أخبرونا: ما جدوى العدالة إذا كانت الأرض محتلة؟ وما قيمة الدولة إذا غُيبت عنها السيادة وسلب منها القرار؟ أخبرونا، هل يمكن حقا طرد الاحتلال بالورود والشعارات؟ وهل يمكن لكلمات تلقى في فضاء الشبكات أن تتحول إلى رصاص ؟ نضالكم هذا مجرد صدى يتردد في الفراغ، عاجز على تقديم رؤية حقيقية تلامس تطلعات الشباب أو تعالج واقعهم.
القصة ليست حماس، ولا الدين، ولا الإرهاب. إنها، كما وصفها البروفيسور رشيد الخالدي، أعمق بكثير من هذه السرديات السطحية ” فالإسرائيليون، ببساطة، لا يفهمون الصراع”، هكذا قال! … الإسرائيليون يعيشون في “فقاعة” نسجها لهم إعلامهم وأحكمت إغلاقها حكوماتهم، فقطعتهم عن الواقع… انهم يُكذبون مشاهد الإبادة في غزة، او يتغاضون عنها لتستكين ضمائرهم وتُغرقهم في الوهم أكثر فأكثر… لكنهم يعرفون الحقيقة، يدركونها تماما. اختيارهم ألا يصدقوا هذا الانحدار الأخلاقي هو جزء من تلك “الفقاعة”.
حالة من الهستيريا المُخيفة اجتاحت أعداءنا، وتفيض شاشات التلفزة بصراخهم المحموم، يتساءلون بغضب: “ما هذا الإنسان الفلسطيني؟!”… “مرض غزة”، كما يسمونه، لا دواء له! …
تتجاوز هستيريتهم حدود غزة لتصل إلى الأسرى الفلسطينيين ذوو المؤبدات الذين لم يُطلق سراحهم بعد. هم لا يريدون إبعادهم، بل يُفضلون إبقاءهم في الضفة تحت قبضتهم، ليصطادوهم متى شاءوا. أحدهم قالها بوقاحة: “إذا غادروا إلى الخارج، لن نستطيع الوصول إليهم… ماذا سنفعل؟!”.
سيكون من المستحيل أن نجد في العالم دولة بأكملها، بكل ما فيها ومن فيها من سياسيين، وجنود، ومواطنين، ومستوطنين، وعمال، ومثقفين ومفكرين واعلاميين تسعى بشكل ممنهج لإزالة الآخر والاستيلاء على مكانه.
كيف يمكن لعقلية الإجرام أن تتغلغل بهذا العمق في شعب كامل؟ فكرة غريبة، أشبه بمرض نفسي جماعي او هوس لبنية احتلالية لكنها وجدت ما يكفي من الحماقة والرغبة في السيطرة لتصبح واقعا يمارس علينا بانتظام.
“فعل “القتل الإبادي” الذي مارسه الجندي الإسرائيلي في غزة تجاوز كونه عملا عدوانيا ليغدو، في سياق مروع، فعلا طبيعيا بل وضرورة يجب أن يُمارس من قبل الجميع. الأسوأ أن الامتناع عن هذا الفعل، بشكل غريب ومخيف، تحول إلى جرم في حد ذاته، يستدعي عقابا يُفرض على من يجرؤ رفض الانصياع لهذه الوحشية.
ما تجسده لوحة “نيكولا بوسان”، “مجزرة الأبرياء”، من وحشية ورؤية الوجوه المذعورة مع الدماء التي تغطي الأرض، وأيدي الأمهات التي تحاول يائسة حماية أطفالها من الجنود المتوحشين. هنا، في قلب المشهد، لا ترى سوى العنف: عيون الأطفال الواسعة الممتلئة بالخوف، أيديهم الصغيرة الممدودة طلبا للنجاة، وصيحاتهم التي تذوب وسط ضجيج الموت.
لو كان “بوسان” في عالمنا اليوم، لربما أعاد رسم لوحته في غزة، حيث يتم استهداف الابرياء، والأمهات تحملن أطفالا بين أذرعهن، هاربين من القصف الذي لا يرحم. في الخلفية، العالم يشاهد عبر الشاشات، صامتا أمام مشاهد البيوت المدمرة والدماء التي تخضب الطرقات. قد يضيف “بوسان” إلى لوحته وجوها لرؤساء دول يطالبون نفاقا بوقف العدوان، والناجون من الأطفال في هده اللوحة هم الأيادي الصغيرة التي ستخط النصر يوما…
هل اقتربت النهاية؟…
التحول الجذري في الرأي العام العالمي يؤذن بانقلاب تدريجي ضد إسرائيل… لقد كشفت غزة نفسها وأصبحت شهادة حية على قبح الاحتلال… غداً، ومع دخول المراقبين الدوليين والصحافة والمنظمات الدولية الى غزة سيتم الكشف عن فظائع ارتُكبت بلا رادع. ستظهر الحقائق على بشاعة المجازر التي جسدت أسوأ صور الانتقاص من كرامة الإنسان الفلسطيني.
العديد من الدول التي يتيح قانونها العدالة الشاملة تتحرك الآن، عشرات القضايا والملاحقات على وشك أن ترفع، لتشكل “طوفان عدالة” يجتاح الإسرائيليين أينما وجدوا… هذا الطوفان، بقوته وزخمه، سيصنع أكبر عملية محاسبة في التاريخ المعاصر لكيان محتل… لا توجد حصانة لأي شخص يرتكب الجرائم المنصوص عليها في ميثاق روما الأساسي، ومبدأ عدم الإفلات من العقاب في الجرائم الدولية الجسيمة، وهو مبدأ ثابت ومعتمد في جميع المحاكم الدولية… لقد خلقت إسرائيل لنفسها سيناريو رعب وعليها الان مواجهته.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس
@lynaPERON
كلا نحن لسنا أمة مهزومة
2025-01-24