2025-01-21 03:55 م

وقف إطلاق النار.. صمود الحياة أمام شراسة الموت

2025-01-21

بقلم: نادية حرحش
منذ أيام، وأنا أنتظر كغيري الكثيرين، بترقب وتمنيات، هذه اللحظة لوقف إطلاق النار على غزة، بعد ٤٧١ يوماً من القصف المستمر. بعد كل تلك الأيام العصيبة، الثقيلة، والكارثية التي عاشها اهل غزة تحت وطأة استهداف لا يهدأ، ودمار يزحف من كل زاوية، وقنص مميت يترصد الأنفاس. لحظات نقلتها ووثقتها شاشة الجزيرة لحظة بلحظة بما استطاعت العدسات رصده وسط استهداف ودمار وقتل متربص من كل صوب. لحظات نعيشها اليوم- كأهل غزة- ربما، بأمل حذر، وتمسك بالحياة، وتمنيات بأن تستمر بلا قصف ودمار جديد.
لحظة يبدو اننا نفضل الا نفكر الا بها: هذه اللحظة المنتظرة لوقف إطلاق النار. لأن ما لا يمكن رصده وتخيله هو ما تبقى خلف هذه اللحظة: كل قصة لكل إنسان لا يزال ينبض بالحياة في هذا القطاع المنكوب بدء رحلة جديدة للبحث عما حل به، وما تبقى من ذكريات لما كان قبل هذه الحرب. ذكريات لأحبة خطفهم القصف، لعائلات تشردت، لجيران وأصدقاء وزملاء ومعارف باتوا جثثاً تحت الأنقاض. ذكريات بيت بنيت عليه الأحلام والتطلعات، أو ممتلكات كانت مصدراً للأمان. مدرسة كانت تملأها ضحكات الطفولة البريئة، أو دكان صغير على الناصية يعج بالزبائن، أو مخبز تفوح منه روائح المعجنات. جامعة كانت تضج بالحياة، أو جامع تهرول له الجموع للصلاة. ذكريات شارع وحارة وحي كتبت على حوافها الأحداث. ذكريات لشجرة وحاكورة وبستان وبيارة، اندثرت تحت غبار بقي من أثر ركام.
أتخيّل كيف يمكن للإنسان أن يعيد تشكيل ذاكرته وسط كل هذا الخراب، أن يجمع شتات الاحداث والأماكن التي عرفها قبل الحرب، ويرسم ملامحها في ذاكرة قادمة مثقلة بالدمار. نحن نعرف الأماكن والطرقات من خلال تفاصيلها: بيت أبو فلان، او دكان ما، او معْلم ما يحمل ذكرياتنا. أدوات الملاحة الخاصة بتحديد المواقع لا يمكنها تحديد تشكيل المواقع التي تعودنا تعريفها من خلال وصف الأماكن، والأشخاص. كيف لتلك الذاكرة الآن ان تجد طريقها وسط كل هذا الركام؟ كيف يمكنها أن تعيد رسم مكان صديق أو قريب بات في عداد المجهول او تاه في دروب النزوح؟
في هذه اللحظات، كل من يرفع نظره نحو السماء الخالية من الطائرات، يستطيع ان يلامس أنفاسه واستشعار لحظة الحياة التي يعيشها بلا خطر الموت المحدق الذي كان يطاردها.
تلك المشاهد التي ترصدها العدسات لعودة لا يُنتظر فيها بيت، ولم يتبق للعمران فيها أي أثر، تبدو الأكثر تأثيراً ربما. لنازحين يحاولون العودة لمكان كان فيه بيت، في محاولة للتفتيش عن عوائل فقدت الاتصال بأبنائها وأقاربها، لأبن غاب دون وداع، لأب خرج من أجل البحث عن قوت ولم يعد، لذكرى دفنت وسط الخراب.
عودة للبحث عمن فقد قبل التفكير حتى بما كان بيت يأوي. ولكن عودة… لما كان بيتاً، بخيمة، بقطعة قماش تستر إنسانيتهم وسط عراء مكشوف من كل الجهات.
تبدو مشاهد الناس وسط الدمار المحدق من كل جانب، هي الأكثر أماناً في هذه اللحظات، وسط كابوس لم تتوقف ترددات شراسته. وكأن الكابوس انتهى ولو للحظة. لحظة يعيش فيها أهل غزة مرة أخرى، قنص نفَس حياة.
في هذا المشهد، تتجلى قصيدة محمود درويش:

وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ

وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ

وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ

وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ

وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ

وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ

وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً ” أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ” أَوْضِحْ قَلِيلاَ

نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا

ويبقى الأمل رغم الألم … وبعض الرجاء، نتشبث به وسط انعدام الأفق لحلول سياسية، ووحدة بيت مزقته الفرقة، ووأد فرصها تفشي الفساد.  نرجو أمناً وسلاماً يضمدا الجراح ويمنحا هذا الشعب المكلوم حقه الطبيعي في الحياة.
سلام لغزة وأهلها… أهل الصمود والعزة، ألأجدر باستحقاق الحياة.
كاتبة فلسطينية
المصدر: رأي اليوم